المحتوى الرئيسى

مترجم: لماذا لا يريد المصريون ثورة ثانية؟

01/29 17:01

مترجم عنWhy Egyptians Don’t Want Another Revolution

*كاتب المقال: ايريك تريجر، الزميل بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الادني

منذ اربعه اعوام، وقفت امام المحكمة العليا في «وسط البلد» في القاهره في الساعه الواحده والنصف ظهرًا، علي بُعد كيلومترين فقط من ميدان التحرير. كان النشطاء الثوريون المصريون قد اطلقوا دعوه لتظاهرات حاشده ضد وحشيه الشرطه في عيدها، يوم 25 يناير، لكن في تلك اللحظه كانت قوات الأمن تُحاصر ثلاث مجموعات صغيره من المتظاهرين. وفجاه، توافد المئات من المتظاهرين من جِهه الشمال؛ فسحقوا قوه الشرطه؛ وشكَّلوا مع المتظاهرين الاخرين جسدًا واحدًا ضخمًا.

حاولت قوَّات مكافحة الشغب منع المتظاهرين من التقدُّم، لكنهم ادركوا ان اعداد المتظاهرين تفوقهم بكثير؛ فانسحبوا. حين وصل تقاطُر المتظاهرين الي ميدان التحرير، رايت احد رجال الشرطه صغار السن يُخرج هاتفه المحمول ليلتقط صوره. لم تكُن التظاهرات حينها «ثوره»، ولا حتي «انتفاضه»، لكن يبدو ان رجل الشرطه ذاك ادرك ان حدثًا تاريخيًا يستعد للاعلان عن نفسه؛ فبدلاً من ان يحاول قمع التظاهرات، كما تُملي عليه واجبات وظيفته، اختار ان يُسجل مشهدًا منها للاجيال القادمه.

نروي قصه ثورة مصر في 2011، عادهً، من جانب نشطاء الثورة الشباب، الذين استغلُّوا ذكاءهم واتقانهم لوسائل التواصل الاجتماعي لحشد الشعب من مختلف الاتجاهات، وسحق قوات الشرطه في وسط القاهره، كما شاهدت الامر في ذلك اليوم. لكن النسخه المصريه من «الربيع العربي» كانت، بالمِثل، قصه سقوط دوله الاستبداد. بالتاكيد، انها قصه اجهزه المخابرات الداخليه التي فشلت في توقُّع تلك التظاهرات الحاشده، قصه الحزب الحاكم المُتسلط الذي فشل في حشد اي ردٍ متماسك يدعم نظام مبارك، وقصه قوات الشرطه المُرعبه التي خارت قواها في اليوم الاول للانتفاضه، ثم انهارت تمامًا بعد اربعه ايام فقط من التظاهرات.

بعد اربعه اعوام، يظل هذا هو الدرس الباقي من الإنتفاضة المصرية. ورغم ان احلام النشطاء الثوريين لم تتحقق قط، فان الدوله المصريه قد استمرت في الانهيار، وتبقي منهاره بشكل كبير حتي اليوم. ونتيجهً لهذه التجربه، يشعر الكثير من المصريين الان بخوفٍ من التغيير، يدفعهم الي الرضا بدولتهم المعطوبه بدلاً من انهيار الدوله التام الذي لا يريدون الوصول اليه.

بالتاكيد لم تبدا الدوله المصريه في الانهيار فجاه خلال انتفاضه 2011؛ فالبيروقراطيه قد جعلت جسدها مترهلاً لعقود طويله. وكما يلاحظ الصحفي المصري محمود سالم، يتوزَّع 6 مليون موظف علي 32 وزاره، في حين تجعل قوانين العمل المصريه من الصعوبه بمكان فصل اي موظف حكومي من عمله. وبالاضافه الي ذلك، تفتقر الدوله المصريه الي اليه للتنسيق بين الوزارات، وتتضمَّن اللوائح الداخليه لتنظيم العمل في الوزارات الكثير من الاجراءات الروتينيه التي تؤخر القرارات المهمه الي اجل غير مُسمَّي، الا اذا تدخَّل الفساد ليُسهل الامور. ونتيجه لذلك، تعمل الحكومة المصرية بمثابه نظام تكافل اجتماعي؛ فهي تُعطي الملايين من الموظفين قوت يومهم وارزاق عائلاتهم، لكنها مثال في انعدام الكفاءه.

كان انعدام الكفاءه، بكل تاكيد، احد اسباب انتفاضه 2011؛ فقد خرج المصريون الي الشوارع املاً في نظام اداره افضل. لكن التظاهرات الحاشده سرَّعت من انجراف الدوله، الضعيفه بالاساس، الي السقوط التام، وكان مردودها قاسيًا علي اجهزه الامن. في هذا السياق، وبعد ان انسحبت في البدايه في عصر يوم 25 يناير، اخلَت قوات الشرطه ميدان التحرير بالقوه في تلك الليله، واغرقت مساحات واسعه من القاهره بالغاز المُسيل للدموع في يوم 28 يناير، حين تعاظمت اعداد المتظاهرين بعد قرار جماعه الاخوان المسلمين بالاشتراك في التظاهرات.

لكن، وبحلول عصر يوم 28 يناير، كان رجال الشرطه يلوذون بالفرار؛ فقد كان المتظاهرون يهاجمون اقسام الشرطه في كافه انحاء البلاد، وشارفوا علي اقتحام وزاره الداخليه قبل ان يتدخَّل الجيش لحمايتها.

ورغم ان الكثير من المصريين قد رحَّبوا بحُكم المجلس العسكري الذي خَلَف مبارك في الحُكم باعتباره قوهً قادره علي استعاده الاستقرار في البلاد، فشل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته في اعاده بناء الدوله المصريه. كان هذا، جزئيًا، بسبب موجه التظاهرات التي استمرت لاشهر بعد الانتفاضه، التي خرجت فيها كافه فئات المجتمع، من افراد الشرطه الي المعلمين وحتي شيوخ الازهر، للمطالبه برواتب اعلي واستقلال اكبر.

ساهم ايضًا ارتعاش الحكومه الانتقاليه في تعزيز سقوط الدوله. في الوقت الذي كان وزراء عهد مبارك يُساقون فيه الي المحاكمه في قضايا الفساد ويُقبض عليهم، كان وزراء حكومه التكنوقراط الجُدد يخافون من نفس المصير اذا سقطت الحكومه؛ وامتنعوا لاجل ذلك عن اتخاذ قرارات مؤثره. كانت الحكومه متردده، تحديدًا، في اتخاذ قرارات من شانها ان تُثير التظاهرات الشعبيه ضدها؛ لذا ظلَّ جسد الحكومه البيروقراطي مترهلاً، واخذت الاحتياطات النقديه المصريه في التناقص تحت ضغط الاجور والدعم.

وبالمبدا نفسه، كان المجلس العسكري يخشي ان يثور الناس ضده اذا استعادت اجهزه الامن سطوتها بطريقه عنيفه. لذا، زادت معدلات الجريمه والعنف الطائفي في الـ 16 شهرًا التي تَلَت تنحي مبارك، وركَّزت الدوله فقط علي قمع النشطاء الثوريين.

استمر سقوط الدوله المصريه تحت حكم محمد مرسي، القيادي في جماعه الاخوان المسلمين، الذي فاز في الانتخابات الرئاسيه في عام 2012، بسبب الطبيعه الخاصه التي تُميز الجماعه. الجماعه تنظيم طليعي، تنظيم تراتبي عميق يهدف الي تحدي النفوذ الغربي من القواعد الشعبيه الي السُلطه. وخصوصًا، يعمل التنظيم علي «اسلمه» الفرد عبر برنامجه التاهيلي الذي يستغرق من خمسه الي ثمانيه اعوام، ثم «اسلمه» المجتمع عبر نشر اعضائه ليجتذبوا اخوانًا مسلمين جددًا عبر برامج الجماعه الاجتماعيه، ثم «اسلمه» الدوله عبر الفوز بالانتخابات وتعيين اعضائه في مراكز السلطه، واخيرًا تاسيس «دوله الاسلام العالميه» التي تتكوَّن من دولٍ تحكمها الجماعه، تتحدَّي بها الغرب في هيمنته علي العالم.

اذا كانت هذه النظريه في كيفيه الوصول الي سُلطه عالميه تبدو محض خيال؛ فهي حقًا كذلك. لكنها كانت النظريه التي حاول مرسي والجماعه تطبيقها خلال الفتره القصيره التي قضوها في الحكم. كانت الجماعه تؤمن، بالتاكيد، ان تعيين الاخوان المسلمين في المناصب الحكوميه سيكون له اثر السِحر؛ فالدوله الان يديرها الاسلاميون، وليس رجال مبارك الفاسدون. لكن ذلك كان بعيدًا عن الواقع؛ فالاخوان كانوا بلا خبره حكوميه، وفي كثير من الاحيان فقدوا السيطره علي الانظمه البيروقراطيه في الوزارات والاجهزه المحليه التي عيَّنهم مرسي لادارتها.

وفي هذه الاثناء، تجاهل مرسي قطاعات واسعه من المجتمع المصري في نوفمبر 2012 حين اصدر اعلانه الدستوري، ثم دعم اقرار دستور اسلامي. وفي حين قمعت الشرطه التظاهرات المعارضه لمرسي في البدايه، وساعدت الجماعه في تعذيب المتظاهرين المعارضين خارج القصر الرئاسي، حوَّل انفجار معارضه مرسي في جميع انحاء البلاد من نهج الشرطه. شعرت اجهزه الامن ان المد يرتفع لاكبر من قدره الجماعه علي الاحتمال، ولم تكُن الشرطه مستعدهً للخساره امام انتفاضه جديده.

لذا فحين خرج الملايين من المصريين الي الشوارع بشكل غير مسبوق في 30 يونيو 2013، مطالبين برحيل مرسي، سار العديد من رجال الشرطه معهم في ثيابهم الرسميه، ورفضوا العوده الي العمل قبل تنحي مرسي. وفي هذه الاثناء، شاركت العديد من مؤسسات الدوله الاخري في التمرد؛ شجعَّت المخابرات المتظاهرين، واستقال العديد من وزراء مرسي، ووزَّع الجيش المصرى الاعلام من المروحيات. وحتي جاء اعلان وزير الدفاع انذاك، عبد الفتاح السيسي، عزل مرسي في ليله الثالث من يوليو، كان مرسي رئيسًا بالاسم فقط. لم يكن يسيطر علي اي شيء علي الارض؛ وهذا ما جعل عزله حتميًا.

يعتقد العديد من المحللين ان انحياز مؤسسات الدوله المصريه ضد مرسي هو دليل علي وجود «دوله عميقه»، يمكنها ان تسيطر علي المشهد من خلف الكواليس. لكن، في الحقيقه، اتحاد هذه المؤسسات اللحظي ضد احد اعدائها لا يجب ان يُفهم خطا علي انه اشاره لوجود «دوله عميقه» بقدر التماسك الذي توحي به التسميه. وحتي حين اكَّد السيسي ان الدوله المصريه هي الاولويه منذ ان اصبح رئيسًا في يونيو الماضي، كانت الدوله المصريه مستمره في السقوط.

ضع في اعتبارك، علي سبيل المثال، سيل التسريبات التي تذيعها القنوات الفضائيه التابعه للاخوان من تركيا خلال الاشهر الماضيه. في واحد من هذه التسريبات، يرسم اللواء ممدوح شاهين خطه تدَّعي ان وزاره الداخليه تحتجز مرسي استعدادًا للمحاكمه، في حين كان الرئيس المعزول في الحقيقه محتجزًا في احدي القواعد البحريه.

«مش هتلاقي تزوير احسن من كده»

هكذا قال شاهين، بينما يمكننا سماع اصوات ضحكات في الحجره. في تسجيل اخر، يتصل اللواء عباس كامل، رئيس ديوان رئيس الجمهوريه الان، بالنائب العام ليطلب العفو عن ابن احد الصحفيين المعروفين. تشير التسجيلات الي ان الدوله المصريه تحارب نفسها، والي ان احد اجهزه المخابرات يُسجل محادثات ويسربها لتقويض قياده الجيش، التي يرتبط بها السيسي.

كما ان سعي نظام السيسي الجنوني الي مراقبه وسائل الاعلام يعكس شعوره بالقلق. ووفقًا لاحد الصحفيين المعروفين الذي تحدَّث للسيسي، فان الرئيس المصري يعمل بنفسه علي التاثير علي تغطيه الصحفيين للاخبار عبر الاتصال بثلاثه من مُقدمي البرامج علي التليفزيون يوميًا. وكما ذكر موقع Buzzfeed في تقرير له، الاسبوع الماضي، امرت الحكومه المصريه القنوات بابراز القبض علي المثليين لصرف الانتباه عن اخفاقاتها.

لكن يظل السيسي متمتعًا بسُلطه مستقره. السبب في هذا، بشكل جزئي، هو ان اجهزه الدوله تعمل بشكل افضل تحت رعايته في قطاعات محوريه بعينها. يتقلَّص نقص الخبز يومًا بعد يوم بعد تطبيق نظام البطاقات الذكيه لتوزيع الخبز المُدعم؛ واعلن السيسي تخفيض دعم الغاز بشكل كبير في اول شهر من حكمه. والسبب في هذا ايضًا، بشكل جزئي، هو قمع السيسي للمعارضه، من خلال التنكيل بالاخوان، واعتقال الكثير من النشطاء الثوريين المشهورين علي خلفيه قانون التظاهر الذي صدر في 2013.

لكن السبب الاهم ربما في استقرار السلطه للسيسي هو المزاج الشعبي العام، الذي يُعد مزيجًا من القلق والراحه. يشعر المصريون بالارهاق بعد اربعه اعوام من الاضطراب، لكنهم في الوقت نفسه راضون لان بلادهم لم تدخل في دوامه الفوضي كما حدث في سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن. لذا فان قطاعًا كبيرًا من المصريين يُفضِّلون الان الدوله المعطوبه علي ان يُخاطروا مره اخري مُهددين دولتهم بالانهيار، حتي وان لم تُحَل المشكلات الاقتصاديه والسُكانيه التي تسببت في اندلاع انتفاضه 2011.

هذه السرديه، بالتاكيد، تقف في وجه السرديه السائده في واشنطن، التي تري «الربيع العربي» لحظهً كان بامكانها تحويل العالم العربي الي الديمقراطيه لولا ان خانها المصريون حين اصطفوا خلف عزل الجيش للرئيس المنتخب في يوليو 2013. يبدو هذا الاحباط مُبررًا؛ فلا شيء ديمقراطي في مصر بعد عزل مرسي، وحمله القمع العنيفه التي يشنها النظام علي المعارضه جديرهٌ بالادانه. لكن يجب علي واشنطن ان تضع في حسبانها ان الامال الرومانسيه التي كانت لدي الكثير من الامريكيين الذين يقبعون علي بُعد الاف الكيلومترات عن مصر قد تسبَّبت في قدر كبير من الالم للمصريين الذين عاشوا تبعات انتفاضه يناير 2011. وبعد اربعه اعوام، يبدو الاثر الاكبر للانتفاضه هو ان كثيرًا من المصريين الان سيفكرون الف مره قبل ان يُطالبوا باكثر مما لديهم.

لكن عدم رغبه المصريين في انتفاضه شعبيه ثانيه لا يعني ان نظام السيسي مستقر تمامًا. فرغم كل شيء، يعتمد نظام السيسي بشكل اساسي علي دوله شبه منهاره، وتحمل محاولات اصلاحها قدرًا كبيرًا من المخاطره الشخصيه. علي سبيل المثال، لن يحتمل الملايين من المصريين قسوه الحياه اذا خفَّض السيسي الاجور او حاول الحد من ترهل البيروقراطيه. وحتي لو كان السيسي راغبًا في اصلاح وزاره الداخليه (اؤكد علي «لو»)، فسيخاطر بتهميش الشرطه والاسراع بانهيار الدوله. السيسي نفسه ايضًا جزء من دائره الخطر بعد ان دعا قاده الاخوان الي قتله.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل