المحتوى الرئيسى

«القائد البطل» يستولد الفراغ وإسرائيل تحالف «داعش»! طلال سلمان

01/21 08:12

يتبدّي المشرق العربي، خاصه، والوطن العربي عموما، صحراء مفرغه من العمل السياسي، تجتاحها رياح التعصب باسم الموروث الديني في مواجهه افتقاد الهويه والضياع في غياهب العلمنه وسائر موجات الهرب من الذات بذريعه الالتحاق بالعصر.

تهاوت الاحزاب والقوي السياسيه والاجتماعيه، بما في ذلك النقابات المهنيه، وتمّ افراغ مجال العمل العام من قواه الحيه بعدما استولت السلطه، وهي عسكريه في الغالب الاعم تساندها اجهزه مخابرات متعدده الفروع تشمل «اختصاصاتها» مختلف مجالات النشاط السياسي والفكري، علي الحياه العامه بمنابرها وساحاتها ودوائرها الحزبيه وهيئاتها الاجتماعيه.

ولقد تمدد هذا الفراغ وهيمن ناشرا الخوف من الحاضر والياس من المستقبل، ورحلت القوي الحيه الي الصمت او الي الخارج تبيع كفاءاتها وافكارها وطموحاتها لمن يدفع، بعدما حُرمت من ان تنفع بها بلادها.

دار التاريخ بهذه الامه دوره كامله فاعادها الي نقطه الصفر في سعيها نحو مستقبلها الافضل بالوحده التي تؤكد القدره، والحريه التي تفجر الطاقات والمواهب وتبلور خط السير عبر فرز قاطع بين الحلفاء والمناصرين من جهه وبين الخصوم والاعداء، في الداخل والخارج، من جهه ثانيه.

لكان الامه تقهقرت الي الخلف قرنا كاملا، في عصر الدقيقه بل الثانيه، لتجد نفسها ممزقه الجنبات، مهدوره الكرامه، تائهه عن اهدافها، تفتقد قدرتها علي الفعل، مفتوحه للقادر علي اخذها بالقوه او بالحيله، باستغلال الفقر فيها وهي بمجموعها الاغني، او باستثمار تخلفها بعدما كانت قد وضعت اقدامها، او هكذا افترضت او توهمت، علي باب العصر، مؤهله لدخوله.

ففي مثل هذه الايام من القرن الماضي، وفي غمره الاستلام والتسليم بين الاستعمار العثماني (التركي) باسم الدين والخلافه، والاستعمار الغربي ممثلا ببريطانيا وفرنسا، اساسا، (وايطاليا في ليبيا)، اخذت تتبلور الجهود فكريا وثقافيا ومن ثم سياسيا لاستعاده الهويه الاصليه الجامعه لهذه الامه.. وها ان العرب يجدون انفسهم اليوم في مواجهه اسئله حول الهويه والحق في تقرير المصير والبحث عن غدهم الذي يتهدده الضياع، مثلهم قبل قرن كامل، بينما اختلف الزمان فصارت وحده القياس هي الساعه او اقل وليس الجيل او السنه او الشهر او حتي اليوم.

ولقد خاضت شعوب هذه الامه كفاحا مجيدا من اجل استعاده هويتها واستقلال قرارها واعاده بناء اوطانها، في مواجهه الاستعمار الخارجي الذي بلغ ذروه عدائيته عبر اقتطاع فلسطين لتقديمها غداه استقلال هذه الاقطار دوله للحركه الصهيونيه باسم اسرائيل، لقطع التواصل بين المشرق والمغرب، بعنوان مصر..

ولم يكن الرد علي مشروع الكيان اليهودي علي ارض فلسطين، وكذلك علي الاستعمار الغربي عموما، دينيا، بل كان عقائديا وسياسيا بالدرجه الاولي.. وهكذا توالي ظهور الاحزاب والحركات السياسيه في المشرق بالذات علي قاعده فكريه قوميه تقدميه، عموما. وكان لافتا ان يتصدر قياده هذه الاحزاب مناضلون عرب مسيحيون، بالدرجه الاولي (انطون سعاده من جبل لبنان، الحزب السوري القومي الإجتماعي، ميشال عفلق، من قلب دمشق، حزب البعث العربي الاشتراكي، جورج حبش من قلب فلسطين، حركة القوميين العرب.. فضلا عن الاحزاب الشيوعيه التي برزت في الصفوف الاولي لقياداتها شخصيات مسيحيه او من اصول غير عربيه، وبالذات كرديه، نقولا الشاوي في لبنان، خالد بكداش في سوريا، عزيز محمد في العراق الخ..).

بذريعه فلسطين وضروره الرد علي الهزيمه فيها وضرب المشروع الصهيوني ممثلا باسرائيل، اختطف «العسكر» دورا قياديا يتجاوز قدراتهم، خصوصا انهم بحكم تربيتهم يتصرفون بقوه الامر.. اما الادهي منهم فقد اتخذ من الشعار الحزبي ستارا لتنفيذ مشروعه في السيطره علي السلطه. وهكذا احتلت مسرح العمل العام انظمه عسكريه تموّه حقيقتها برايات العروبه او الماركسيه اللينينيه (حتي لا ننسي تجربه اليمن الجنوبي).. لا سيما بعدما فشلت احزاب البرجوازيه الوطنيه في استقطاب الجماهير كما في بناء «الدوله».

تم تدريجيا تغييب الشعب عن ساحه العمل العام، وتم اختصار الدوله بالحزب، ثم اخذت غوايه السلطه الحزب الي الاستعانه بالعسكر بوهم اختصار مرحله التحول، فانتهت التجربه بان التهم الجيش الحزب وتولي «الاقوي» في الجيش احتكار السلطه، مموّها حقيقه تفرده بالشعارات الحزبيه ذات الرنين.. ومن اجل السيطره الكامله علي الجيش كان بديهيا ان يلجا «الرفيق القائد» الي تطهير الصفوف من المشكوك في ولائهم لشخصه، بحيث تخلص له السلطه بمفاصلها جميعا، السياسيه والاقتصاديه والاجتماعيه، وتسبغ عليه صفات «المفرد» و«الاوحد» و«الخالد» الخ..

بديهي والحال هذه ان تغادر الجماهير الشارع، وان تفقد قدرتها علي التاثير، وهي بلا قياده وبلا برنامج وبلا اطار جامع وبلا قدره علي الفعل، وفروع المخابرات المختلفه تتابع حركتها وتحصي عليها انفاسها، فتعين للاحزاب التي غدت هياكل مفرغه من القدره علي الحركه قياداتها، وتكتب لها برامجها لتكون منضبطه في التزامها بوحدانيه «القائد البطل»..

«قائد» اقوي ما في «دولته» اجهزه المخابرات، وشعارات حزبيه مشعه ترفرف في الفراغ، لان اعضاء الحزب يُمتحنون في ولائهم للنظام الذي يصير قائدا فردا، لا شريك له ولا نائب. الشعب في الحزب والحزب هو السلطه، لكن القياده فعليا للقائد الفرد.

.. والفراغ يستدعي «داعش» وما يماثلها من تنظيمات التعصب المسلح الوافده من المقولات الاكثر تخلفا في «الدعوه» الي إسلام سياسي مجاف لروح العصر وللكرامه الانسانيه، وافد من جاهليه مندثره ترفع شعار «الخلافه» وتستخدم وسائط التواصل الاجتماعي لبث الرعب في الداخل والخارج، تنهب مقدرات البلاد وتفتح الباب لمساومات مكشوفه مع دول الجوار، متجاوزه حاله العداء المعلن (كما مع اسرائيل) او المستتر (كما مع تركيا)..

... ولقد استدعي هذا الفراغ، قبل مئه عام او يزيد، الاستعمار الغربي.. ثم افاد منه الاستعمار الغربي للتمكين للمشروع الاسرائيلي في قلب هذا الوطن العربي، وها هو الان وبعدما دمّرت انظمه الدكتاتوريه الامه بقمعها وتخلفها الفكري وغربتها عن العصر يستدعي «داعش».

ان مراجعه سريعه للاتهامات الموجهه الي انظمه القمع التي حكمت دول المشرق العربيه طوال نصف القرن الاخير، تزيل الاستغراب من ان يتمكن «داعش» من احتلال صحراء الفراغ في مركز القرار، قبل ان يقتحم الارض بمن وما عليها.

كذلك فان مثل هذه المراجعه تكشف الانهيارات الاسرع من الصوت التي توالت علي «الجبهات» التي اقتحمها «داعش» بغير قتال في معظم الحالات.

لقد استدعي الفراغ من يفترض في ذاته القدره علي ملئه... فقد سقط مركز القرار قبل ان تسقط المناطق التي اجتاحها «داعش» وظل يتقدم فيها مستدعيا بالشراكه مع النظام المتهالك التدخل الاجنبي الذي كان ينتظر مثل هذه اللحظه ليتقاسم مع «داعش» تركه الانظمه التي دمرت الدول التي حكمتها فاعجزتها عن المقاومه.

ان العجز عن مواجهه «داعش» قد تسبب في ان يحمل العرب خاصه والمسلمون عموما بعضا من المسئوليه عن المذبحه التي نظمها بعض الارهابيين ضد مجله «شارلي ابدو» والتي ذهب ضحيتها بعض المميزين من رسامي الكاريكاتور الذين تلاقوا فيها.

وهذا العجز هو الذي مكّن سفاحا مثل بنيامين نتنياهو ان يتصدر التظاهره المليونيه لاستنكار الجريمه التي دفع وسيدفع العرب ثمنها من دمائهم ومن كرامتهم الانسانيه فضلا عن حقهم في الانتماء الي العصر..

علي ان هذا العجز لا يبرر للسلطات الفرنسيه ان تقبل وجود السفاح الاسرائيلي في الصف الاول للمتظاهرين استنكارا للجريمه، غير بعيد عن ضحيته الابرز، ممثل فلسطين.. ولا يبرر لهذه السلطات ان تسلم جثث المواطنين الفرنسيين الاربعه، برغم كونهم يهودا، الي سلطات الاحتلال الاسرائيلي لكي يُدفنوا في ارض فلسطين المحتله متجاوزه ما يشكله هذا التصرف من اقرار للسفاح بادعائه ان «اسرائيل هي دوله يهود العالم».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل