المحتوى الرئيسى

«شوق الدرويش» رواية الجذور السودانية | المصري اليوم

01/17 23:15

حمور زياده كاتب سوداني شديد الطموح، قفز الي الصف الاول بحصوله علي جائزة نجيب محفوظ من الجامعه الأمريكيه هذا العام عن روايته المدهشه «شوق الدرويش»، وهو ينبش فيها عن جذور الشخصيه السودانيه منذ ثوره المهدي نهايه القرن التاسع عشر وعلاقتها الملتبسه بالشمال المصري، والبعثات التبشيريه والسلطه الانجليزيه، حيث يحفر الكاتب بجراه في اعماق الوعي بالذات وتشكيل الخيال وعذاب الهويه الشقيه عندما تتماهي مع الغيبيات فتصنع الاسطوره الناجعه من وقائع غرائبيه وقسوه وحشيه وتصور مغلوط لحركه التاريخ، لكنه ينفث في ثناياها ببلاغه سرديه فائقه عطر الادراك النافذ الي اعماق الماضي وما يتبلور فيه من شوق للحريه وفتنه بالجمال يلتف بغلاله صوفيه شفيفه تظل هي السمه المائزه لسلوك الناس مهما ضلت بهم قوافل الحياه وقست عليهم طبيعتهم الفطريه وظروفهم الانسانيه.

هذه الحفريات في وجدان الجماعه هي التي تؤسس للوعي بالذات وترسم صوره الكائن في مخيال الاخرين، ومن ثم فان هذا النوع من روايات الجذور هو القادر علي توثيق التاريخ العاطفي للشعوب واعلان مولدها الادبي. وقد كنا نعد روايه طيب الذكر الطيب صالح «موسم الهجره الي الشمال» هي الركيزه الاولي للادب السردي في السودان حتي الان، لكن هذه الروايه تاتي لتعيد ترسيم الحدود وتقدم نماذجها الاصيله العارمه المكتوبه في وهج التاريخ وقلب المدن واحشاء المجتمع، وهي لا تزال تتخبط مطلع العصر الحديث في قيود العبوديه والوهم والتوق لنور الحضاره؛ تتعثر في ضلال الدعاوي الدينيه والعصبيات القبليه وشهوه غزو العالم بسيوفهم الخشبيه، لكن طاقتها الفطريه ومذخورها الانساني يرتفع بها الي مدارج عاليه. يمتك الكاتب ريشه حاده تشكيليه باذخه القوه والثراء يدغم بها شخصياته بعنف لافت يستعصي علي النسيان، يقول مثلاً عن «مريسيله»: «تلك الامه السوداء ذات العشرين عاماً، بائعه خمر المريسه السريه، قارئه الودع، مدبره صفقات الهوي، خاطبه الحلال والحرام، معينه الهاربين، تاجره العقود والسلاسل والوصفات السحريه للحب والوصل والفراق وانتصاب الذكر وضيق الفرج، المراه التي تعلم المدينه انها انقذت سبعه نساء من شنقه السوق، واذلت حامل رايه احد الامراء امام المسجد علي مراي من خليفه المهدي، الحب صناعتها، بالسحر لها نسب، ولها مروءه فارس قبيله»، ومع ان «مريسيله» ليست من شخصيات الروايه الاساسيه فان هذه السطور المكثفه والصفات الخارقه تطبعها في ذهن القارئ فلا يخطئ تتبع حركتها وكانه تعرَّف بها علي جزء حميم من حياه البشر الشقيه في هذه الارض واسرار معتقداتهم وشواغلهم والمهن الرائجه بينهم، فهي نموذج كاشف لاغوار المجتمع باكثر من دلالته علي الذات الفرديه.

لكن الشخصيتين الرئيستين في الراويه هما حواء وبخيت، يصنع بهما الكاتب نموذجاً ثنائياً فذاً موازياً ومناقضاً للنماذج الشهيره في الاداب العالميه، مثل ليلي والمجنون وروميو وجولييت وغيرهما من ابطال قصص العشق والغرام، لكنهما مختلفان جداً عن المالوف، فـ«حواء» اصلها راهبه سكندريه حسناء، يونانيه الاصل، اسمها «ثيودورا»، لم تذق في حياتها غير قُبله واحده من جارها في الاسكندريه في مراهقتها قبل ان تلبس مسوح الرهبنه قال لها عقبها: «ايتها الطفله الناريه، شفتاكِ من نبيذ الشياطين»، لكن ظلت في مسمعها اصداء معاكسات اولاد البلد في بحري ومغازله البحر لها وهي تتهادي علي شاطئه، ذهبت في بعثه تبشيريه للسودان، وهناك راها بخيت وهي:

«تبرز اليه من مكان قصيّ/ تحمل الشمس في كفها فيشع جسده بالدفء/ تسري فيه كحلم فارعه كما عهدها/ قال لها يوماً: انتِ بيضاء كالنهار/ عيناها مشاغبتان تحملان حزناً دائماً/ مربكه تماماً كالحياه/ ولا امان لها كالنهر/ يلفها ثوب من نور الشمس».

هذه الشعريه التي تتدفق في عروق السود تتجاوز سطح اللغه لتنفذ الي نسغ النموذج، وتصب في المواقف الدراميه المحتدمه، وتتجلي في المهاره الفنيه في توظيف التقنيات، تقنيات الرواه والزمان والمكان، فالكاتب مثلاً يبدا روايه من الخاتمه، من سعي بخيت المجنون للانتقام الضاري ممن قضوا علي قديسته البيضاء، لكنه لا يتبع منطق الاسترجاع المالوف في «الفلاش باك» بل يتولي الراوي العليم اعاده خلق الاحداث ونشر الاضواء بطزاجه المره الاولي، بما يمنح القارئ احساساً متجدداً بانه يمضي الي الامام الكاشف بكل مفاجاته وشخوصه وتفاصيله الثريه، مئات المشاهد وعشرات الوقائع والاحداث التي تعمر عالماً عجيباً باساطيره ومعتقداته، بعاداته، ومواجعه، باحزانه الغامره وافراحه الشحيحه العابره، هنا نعثر علي السودان كله، بخرطومه وام درمانه وسواكنه وبرابره ومزيجه الانساني العجيب، بعنفه ومجاعاته وثرواته وطبقاته، هنا اشواق لدراويش ومن يحسبون انفسهم ملائكه التبشير وصراع الاديان والثقافات والمصالح، كل ذلك ينتهي بالروايه الي ان تكون ذات بنيه دائريه تحسبها تمضي الي الخلف بينما هي تتقدم لتلتحم بنقطه البدايه عند مشهد مصرع الراهبه العبثي لمجرد انها حاولت الهروب، بعد ان يكون العبد/ الفارس قد قطع ارباً من اسهموا في ذلك ووزع جثثهم علي انحاء الارض.

ومع ان هذه الصوره المثاليه للراهبه المعبوده تقدم لاول مره في الادب العربي منظوراً ينصف المقاصد النبيله لبعض من ساهموا في البعثات التبشيريه بحسن نيه، دون ان تكون حروب الاديان هي دوافعهم المباشره، بل رغبتهم في نشر العلم ومساعده الفقراء والمرضي من غير تعصب، فان الراوي العليم قد ترك لبقيه الاطراف ان تعبر عن رؤيتها المضاده ليجعل الواقع الحي هو الذي يفرض منطقه بوعي تاريخي وحس انساني رفيع انتهي الي تمثيله بطريقه جماليه ناجحه، تمزج بين شوق انصار المهدي لغزو العالم واعادته الي فطرته الاسلاميه الاولي في تقديرهم، ورغبه المبشرين في نشر المسيحيه بالمحبه والتعليم والصحه، والتقاء هذين التيارين في وجدان «بخيت» الذي تجتاحه حمي من الوجد الصوفي بالراهبه البيضاء فيكرس طرفاً من حياته لهواها العذري، وبقيه عمره للانتقام الضاري ممن شاركوا في مصرعها.

اذا كان الزمان في الروايه دائرياً فان المكان فيها يتعلم الحريه مع الانسان، فـ«بخيت» الذي كان عبداً في الخرطوم قد تحرر عندما دخلها المهدي وقتل غوردون باشا واسس مدينه ام درمان علي ضفه النيل الغربيه قد وجد نفسه حراً في بلد جديد، «كلاهما ابن يومه ذاك، فقرر ان يصبح مثل هذا البلد يصنع نفسه، سيتعلم الحريه، قطع ام درمان عاملاً من ادناها الي اقصاها، بالمدينه اصابه الجوع، فقرر ان يذهب للحرب ليعيش»، وسنعرف بعد ذلك انه وقع اسيراً في مصر، وتعلم كثيراً من سيده هناك، ثم عاد متحرراً الي بلده، علي ان هناك نماذج اخري غنيه تعمر الروايه وتبث في ثناياها النبض السوداني الاصيل، منها مثلا الحسن الجريفاوي الذي كان يقرا كثيراً في كتب الصوفيه، ويلزم شيخه سلمان ود حمد، يذهب بحماره كل يوم الي السوق يبتاع منه حتي كبر وتزوج ابنته فاطمه، لكن همومه تجاوزت هذا النطاق اليومي المحدود اذ يقول لنفسه: «الظلم عنوان الحياه، يبث همه لزوجه فتطيب خاطره، يسال شيخه فيعده نصر الله القريب، لكن قلبه لا يهدا، فالاتراك قد فجروا في حكمهم، ينهبون مال المسلمين عياناً، يجلدون كرام الناس ويهينون الاعزه»، هذا الظلم هو الذي سيجعل الناس يتوقون للخلاص، سيصبح هذا الحسن من قاده الحركه المهديه التي ثارت علي الظلم، سيتطرف في سلوكه العنيف الدموي بعد ذلك، لكنه الي جانب عشرات من الشخوص والمواقف سيعطينا الخلفيه الاجتماعيه لما كان يضطرب من الام واشواق وخيبات بعد ذلك.

تزخر الروايه بالرؤي المتنوعه نتيجه لتعدد الاصوات فيها، فالراهبه المعبوده تكتب في دفترها ملاحظات عن طبيعه البشر والوانهم معبره عن منظورها فتقول مثلاً عن سكان الخرطوم:

«اخلاط يميزون بين اصناف الناس باللون، لكل جنس لونه الذي ينفرد به، ابتداء من اللون الابيض ومتدرجين نحو السواد بدرجاته المختلفه حتي تنتهي الي احلك الالوان، وهم يقسمون السواد الي الوان عجيبه، فيقولون رجل ازرق للحالك السواد، ورجل اخضر لمن كانت سمرته غامقه، والابيض عندهم مضحك، يعدون المصريين السمر بيضاً مثل الاوروبيين سواء بسواء، لكنهم يعتبرون الترك لونهم احمر»، ثم تقول عن التركيبه السكانيه: «سكان السودان شعوب مختلفه وقبائل عده اكثرهم عدداً السود، وهم زنج من سكان افريقيا الاصليين، هؤلاء ادني سلالات البشريه، لا يوجد منهم في الخرطوم الا عبيد، هم علي الفطره لا مدنيه لهم ولا حضاره ولا صناعه، يمتهنون في بلادهم الزراعه علي قدر كفايتهم وصيد السمك، والنوبه الذين تراهم في مصر ونسميهم البرابره، والعرب وهم اكثر كرماً وعقلاً واقرب للمدنيه، فيهم بقيه من وحشيه يسهل ان نخلصهم منها، اغلبهم في الخرطوم، ويعملون مع الحكومه ويشربون الدخان ويلبسون الازياء التركيه»، فاذا لاحظنا ان هذه النبره شبه العنصريه محكومه بمنظور زمنها حينئذ نهايه القرن التاسع عشر، وهي صادره من راهبه مصريه ذات اصل يوناني، ادركنا ان الكاتب نجح في تمثيلها بشكل متوازن دقيق.

علي ان اللافت في هذه الروايه هو ارتفاع نسبه الحوار فيها، بما يضفي عليها من توازن الايقاع، لان الحوار هو الصيغه المثلي لا للكشف عن تعدد الاصوات فحسب، بل للوصول الي العمق الجدلي في التفاعل لانتاج رؤيه كليه هي التي يفضي اليها العمل، وقد اثار اهتمامي فيها حوار مدهش يقوم بين بخيت وسيده المصري يوسف افندي بعد ان يقوم باطعامه يساله:

«- شيء غريب يا سوادني، انتم لا يمكنني ان افهمكم. لماذا تاتون لحربنا، كيف تفكرون في غزو مصر؟ لماذا تكرهوننا؟ الم نحسن اليكم، هل هذا بسبب الخديوي؟ كلنا نكرهه، انا كنت من مؤيدي عرابي باشا، لهذا ارسلوني الي هنا في الصعيد، لكن انتم تكرهون مصر ذاتها.

قال بخيت بفم مليء بالبصل:

- نحن جند سيدي المهدي عليه السلام، فرد عليه يوسف افندي: هذا درويش كذاب، لقد احسنت اليكم مصر، حكمناكم بما يرضي الله، كنا نكرم سادتكم وشيوخ قبائلكم، لكن لا تردون المعروف.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل