المحتوى الرئيسى

القاهرة.. مدينتى وثورتنا الجزء الأولــ١٨ يومًا - أهداف سويف :: بوابة الشروق :: نسخة الموبايل

01/15 08:04

الجمعه ٢٨ يناير، الخامسه مساء

النيل بلون الرصاص. ساكن. تتناثر في مياهه حرائق صغيره. ابتعدنا عن الشاطئ المجاور لفندق هيلتون رمسيس ونتجه الي عرض النهر. سلمي ومريم، بنات اخي، معي في المركب الصغير. نبتعد عن الشاطئ فتخف عنا حده السعال والشرقه، نستطيع التنفس، وان كان النفس يؤلم، ونستطيع ان نفتح عيوننا ــ

لنري غسقا معتما، يثقله الغاز. امامنا، نري كوبري قصر النيل كتله من البشر، الكل في حراك، والكل مكانه. ننظر الي حيث كنا من دقائق، علي كوبري ٦ اكتوبر، ونري بوكس قوات أمن مركزي مشتعل، يحاول التراجع، يطارده اربعه من الشباب يهاجمونه ويضربون زجاجه. البوكس يتراجع في ذعر، يتراجع شرقا، نحو بولاق ابو العلا. وراءنا تسقط في النهر كره من النار، بؤره جديده من اللهيب المتقد في المياه. السماء رماديه ــ اي فرق بين ما نراه الان وبين الغسق الرائق الذي نعتاد رؤيته علي النيل في هذا الوقت من النهار. دار الاوبرا كتله مظلمه عن يميننا، وتكاد لا تتبين الارتفاع الرشيق لبرج الجزيره. نحن بعد لا نعرف ان انوار القاهره لن تضاء الليله.

صيحه عظيمه تتصاعد من كوبري قصر النيل. انظر الي سلمي ومريم فتوافقان. اقول للمراكبي اننا غيرنا راينا: لن نعبر النهر الي الجيزه، سنظل ناحيه القاهره، ونريده ان ينزلنا تحت كوبري قصر النيل.

وهكذا ظهرنا فجاه، انا وشابتان جميلتان، في ذلك الممر الذي يصل الكورنيش من تحت كوبري قصر النيل، وسط عربات الأمن المركزي التي تتسابق لتخرج من المدينه. زعق الرجال والشباب المتكدسون علي السور الذي يعلونا «اجروا، اجروا!» وامسكوا لحظات عن رمي العربات بالطوب الي ان جرينا عبر الممر ووصلنا الي حيث نستطيع ان نصعد الي الشاطئ وننضم الي جموع الناس عند مدخل الكوبري.

ذلك اليوم، قطعت الحكومه ــ النظام الذي حكمنا ثلاثين عاما ــ قطعت اتصالاتنا: الهواتف المحموله لا تعمل، وشبكه الانترنت معطله علي نطاق مصر كلها. ربما افاد هذا في تركيز اذهاننا، ارادتنا، طاقتنا: كان كل واحد منا في مكان واحد، ملتزم به تماما، لا يعرف شيئا عن اي مكان اخر، يدرك ان عليه ان يفعل كل ما في وسعه لهذا المكان، واثق ان الاخرين في الاماكن الاخري يفعلون الشيء نفسه لامكنتهم.

تسلقنا المنحدر فوجدنا انفسنا جزءا من الجماهير. حين رايناهم عن بعد بدوا كتله واحده، صلبه. عن قرب كانوا افرادا، افرادا كثر، بينهم مساحات صغيره تستطيع ان تجد لنفسك مكانا فيها. وقفنا علي الجزيره المرصوفه وسط الطريق، قصر النيل وراءنا، والتحرير امامنا، ونحن نقوم بذلك الفعل الذي يجيده المصريون، والذي لم يدخر النظام جهدا في سبيل تدمير قدرتهم عليه: ضم الصفوف، التواجد كافراد هم خلايا جسم واحد، ضخم، متحد الهدف والمشروع، مجهود جمعي كبير، وهذه المره كان مشروعنا هو ان ننقذ ونستعيد الوطن. وقفنا، انا وبنتا اخي، علي تلك الجزيره، وانضممنا، في تلك اللحظه، للثوره.

قبلها بشهر، باسبوع، بيومين، لم يتوقع احد كل هذا. نعم، كان هناك نداء لاتخاذ «عيد الشرطه»، ٢٥ يناير، مناسبه للنزول والاحتجاج ضد عنف الشرطه، ولكن ما اكثر المظاهرات والاحتجاجات التي نزل الناس اليها في الاعوام الماضيه، لم تبدُ هذه المناسبه متميزه عن غيرها. من كان منّا في مصر انتوي النزول من باب المشاركه والحفاظ علي روح المقاومه، اما من كان في الخارج فقال خيرها في غيرها.

عن نفسي، كنت في الهند، في مهرجان جَيْبور الادبي، ومساء الرابع والعشرين من يناير اجري معي تليفزيون تِهِلكا الهندي لقاء قلت فيه:

«نحن نشعر منذ مده طويله ان مصر لا تدار لمصلحه المصريين، وان الدافع الاول لتصرفات الذين يحكموننا هو ان يظلوا في السلطه لكي يظلوا في موقع استغلال البلاد ونهبها. والدعم الاساسي لهم ياتي بالطبع من القوي الغربيه وبالذات الولايات المتحده، والثمن الذي يدفعونه لهذا الدعم هو ان يتبنوا ويمارسوا سياسات هي بالاساس في صالح اسرائيل.

نرقب ما يحدث في تونس ويملؤنا بالحماس. نسمع الاسئله: هل ستتحرك مصر؟ ونسمع لكن مصر كبيره، مصر ثقيله. وفي الحقيقه لا يبدو ان الحكومه المصريه ستسمح باي تغيير سلمي او ديمقراطي. اذن ما الذي سوف يحدث؟ هل سنجد انفسنا في موقف ينفجر فيه الناس؟ هل سنري، بالفعل، الدماء في الشوارع؟ هل سينزل الجيش؟ لا احد يعرف. الاجواء متوتره جدا، وهناك احساس بالخطر ــ لكن النشاط السياسي الذي يحدث يحدث فقط في نطاقات معينه ومحدوده، وهو في غالبيته العظمي من الشباب وفي الواقع بدون اي قياده، لكنه موجود ويُبقي علي حياه وحيويه الشارع.

«في السنين الخمس الماضيه شاهدت مصر احتجاجات واضطرابات في الحياه المدنيه بشكل غير مسبوق. لكن كيف سيندمج كل هذا او يتكتل؟ واي الاشكال سيتخذ؟».

عندنا اليوم بدايات الاجابه، وانت، يا قارئي - وانت تقرا هذه الكلمات - عندك الاجابه الاكثر نضجا عن هذا الذي اسطره في صيف عام ٢٠١١. لن احاول التكهن باخبار مصر التي تقراها في جرائدك اليوم، ولكن ايا كان شكل مصر واحوالها وانت تقرا كلماتي، فهذه قصه بعض اللحظات التي ادت الي ذلك الشكل والي تلك الاحوال.

وهي ايضا، بشكل ما، قصتي، وقصه مدينتي، المدينه التي اعشقها، والتي حزنت لها وعليها طوال عشرين سنه او اكثر. حالتي ليست متفرده، لكن مدينتي متفرده. طرقاتها، نيلها، بناياتها، اثارها، تهمس لنا، لكل واحد من ساكنيها المشاركين في هذه الاحداث التي ترسم حياتنا وحياه اولادنا. المدينه تهمس لنا، تمسك باكمامنا، وتقول: وُلِدْتِ هنا، وفي هذا الممر الهادئ امسك فتي بيدك لاول مره، هذا الطريق تعلمتِ فيه قياده سياره فولكس فاجن قديمه، هذا القصر يصوره كتابك المدرسي وفي حوشه عرابي باشا يواجه الخديو توفيق، وهذا هو الموقع الذي تحكي امك كيف وقفت فيه مع ابيك يرقبان الحريق يشب في المدينه. تُقَرِّب القاهره شفتاها من اذاننا وتهمس، تتابط ذراعنا في حميميه، تشدنا اليها فتسري فينا دقات قلبها ويملا عطرها ارواحنا فنسير الي جانبها، نوائم خطواتنا علي خطواتها، وتتملي عيوننا وجهها الجميل الجريح، ونهمس بدورنا: ذكرياتك ذكرياتنا، ومصيرك مصيرنا.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل