المحتوى الرئيسى

كلام مع هيكل: التجربة الإسبانية - عبد الله السناوي :: بوابة الشروق :: نسخة الموبايل

01/13 03:30

في اعتقاده ان اسبانيا هي البوتقه التي تصارعت فيها كل الايديولوجيات والمعمل الذي تفاعلت داخله جميع الافكار وان ما يحدث فيها من تفاعلات او يتبدي من ظواهر يؤثر في عالمها باكثر مما هو متوقع.

العالم كله تصادم علي مسارحها بالافكار والعقائد والسلاح علي مدي ثلاث سنوات استبقت الحرب العالمية الثانية.

بتعبير الشاعر الانجليزي الكبير «ستيفن سبندر»: «احسست اثناء الحرب الأهلية في اسبانيا ان صراعنا اختلاف كتب».

كانت تجربه الحرب الاهليه ملهمه بقدر ما هي مزعجه والاخطر ان جراحها مازالت ماثله حتي الان رغم انها حسمت في العام الاخير من ثلاثينيات القرن الماضي.

مصدر الالهام يعود الي تصور ان هناك ما يستحق الموت من اجله وان عالما جديدا اكثر عداله يمكن ان يولد من تحت النيران.

بهذا المعني انشد الشاعر الاسباني الاكبر «لوركا» للمستقبل وكتب الاديب الفرنسي «اندريه مالرو» روايته ذائعه الصيت «الامل» وتملك المعني نفسه الروائي الامريكي «ارنست همنجواي» وقامات ادبيه اخري من ذات المستوي الرفيع.

ومصدر الازعاج ان كل شيء قد تحطم تحت الاقدام الغليظه لحكم الجنرال «فرانشسكو فرانكو»، تبددت الاحلام الكبري وقبعت الكوابيس في المخيله العامه دون ان تغادرها.

بصوره او اخري علي ما يقول ويؤكد فان اسبانيا لم تتعاف تماما من حربها الاهليه وان ظواهرها السياسيه الجديده لا يمكن قراءتها علي نحو صحيح دون اطلال علي مكامن الالم القديم.

هذا يصح في الحاله الاسبانيه كما يصح هنا رغم اختلاف الظروف والاحوال، فالتاريخ في مصر ماثل تحت الجلد السياسي وحاضر في كل سجال.

لم تكن تجربه الانتقال الي الديمقراطيه بعد رحيل «فرانكو« منتصف السبعينيات من القرن الماضي «كانه سفر من بلد الي اخر او من قاره الي اخري ليس فيه غير مخاطر الطيران» علي ما سجل في اوراقه، ولا ايه تجربه انتقال اخري تجري بلا ثمن او بغير معاناه، فلا يوجد شيء مجاني في التاريخ كانه رحله خلويه ذات يوم مشمس.

نجحت اسبانيا بدرجه مقنعه في اجراء اوسع مصالحات ممكنه طبق قواعد العداله الانتقاليه وصاغت قواعد دستوريه ملزمه غير ان التجربه لم تكن سهله علي اي نحو ولا في اي وقت.

في حوار جمعه الي الملك الاسباني السابق «خوان كارلوس» قبل ثلاثين سنه ضمنه كتابه «زياره جديده للتاريخ» روي الرجل الذي اشرف علي التحول الديمقراطي قصه تلخص الموقف الصعب الذي وجد نفسه فيه وكان عليه الاختيار ولكل اختيار عواقبه.

عندما حصد الحزب الاشتراكي، الطرف الخاسر في الحرب الاهليه، اغلبيه اول انتخابات نيابيه ساله احد الاصدقاء المقربين ان يلغي النتائج فـ«لا يمكن ان تكون قد جننت حتي تسلم السلطه للاشتراكيين».. وكان رده: «انني لم افعل ما فعلته عن خوف وانما عن اعتقاد بانه لا يحق للملك ان يريد غير ما يريده شعبه».

شيء من هذا حدث في مصر غير ان التجربه كانت مدمره ومريره، فالذين صعدوا بالوسائل الديمقراطيه تنكروا لها والغوا في الوقت نفسه اي معني لاي حديث عن تداول السلطه وامعنوا في العنف والخلط بين ما هو ديني مقدس وما هو سياسي متغير، ولم يكن الامر علي هذا النحو في التجربه الاسبانيه.

ما لم تستوعبه جماعه الاخوان المسلمين او غيرها قاله «خوان كارلوس» واضحا وصريحا لصديقه المقرب: «هل فهمت.. هل فهمت التاريخ.. وهل فهمت العصر الذي نعيش فيه؟».

مع ذلك فان الذين لا يفهمون التاريخ في اسبانيا حاولوا قطع الطريق علي الديمقراطيه واعاده حكم «فرانكو« بقواعده واساليبه لا بشخصه وسمته رغم ان العوده الي الماضي مساله شبه مستحيله واثمانها باهظه.

بعض ما كتبه في «زياره الي التاريخ» كانه كتب اليوم لكي يطالع المصريون وجوههم في المراه الاسبانيه.

في حواره مع الملك «خوان كارلوس» قال نصا: «لكل بلد ظروفه وتجارب الشعوب غير قابله للنقل او التقليد لكنها بالتاكيد قابله للدرس والاستيعاب».. «هناك محاوله بحث عن الديمقراطيه.. وهذه قضيه القضايا في العالم العربي. مجتمعاتنا نمت وتطورت وتغيرت كما حدث في اسبانيا لكن السلطه وممارساتها لم تستطع ان تعكس ذلك كله حتي هذه اللحظه».

رغم تقادم السنين فان الكلام بنصه له صدي ورنين بالنسبه لبلد قام بثورتين في اقل من ثلاث سنوات من اجل التحول الي مجتمع ديمقراطي حر.

كانت القضيه الاهم في التجربه الاسبانيه مدي كفاءه اداره التوازنات المعقده بعد تحديد الاهداف ووضوح الرؤي.

فقد قمعت بقوه السلاح الديمقراطيه ووسائلها وصودرت الاشتراكيه واهدافها وجمدت السياسه طوال اربعين سنه متصله من حكم «فرانكو».

لم يكن الخروج من الجمود الطويل سهلا، ورغم فاشيه «فرانكو» فان سياساته وفرت خططا للتصنيع والخدمات غيرت من التركيب الطبقي لاسبانيا بما ساعد تاليا علي توفير بنيه اجتماعيه قادره علي مسئوليه التحول الي الديمقراطيه بينما افضت هنا في مصر سياسات «حسني مبارك» الي تجريف الاقتصاد ونهبه علي اوسع نطاق وتقويض الطبقه الوسطي او اي ظهير اجتماعي قادر علي تحمل نفس المسئوليه.

في الحديث عن التجربه الاسبانيه يتداخل الحاضر مع الماضي بصوره مثيره وفي حيويه المجتمع تتجلي القدره علي بناء اطارات سياسيه جديده تخرج عن المالوف وتتحدي السياق.

هناك الان مشروع انقلاب في المعادله السياسيه التي حكمت اسبانيا بعد استعاده الديمقراطيه عنوانها «بوديموس» التي تعني بالاسبانيه «نحن نستطيع»، وهو حزب جديد تاسس قبل عام بالضبط لكنه نجح في هذا الوقت الوجيز من اختراق الحواجز التي استقرت وبدا يزاحم بقوه وفق جميع استطلاعات الراي العام الحزبيين التاريخيين «الاشتراكي» و«الشعبي المحافظ» اللذين يحتكران معادله الحكم والمعارضه وكلاهما ينتمي الي ارث الحرب الاهليه.

طبقا لبعض الاستطلاعات فانه اذا اجريت الانتخابات النيابيه اليوم فان «بوديموس» قد يحصل علي (٢١.٢٪) بالقرب من الحزب المحافظ الحاكم (٢٢.٣٪).

الصعود المفاجئ يهدد بقسوه مستقبل الحزب الاشتراكي، فهو ينتمي مثله الي اليسار لكن بمفاهيم احتجاجيه فاصوله ترجع الي حركات فئويه وبيئيه تعترض علي غياب العداله والمساواه والاجحاف في عقود العمل المؤقته.

بعباره قد تكون جارحه فان هذه الحركات الاحتجاجيه نجحت في بلوره نفوذها السياسي بينما مثيلاتها في مصر تصارعت وتشققت وتفككت وفشلت في ان تبلور قوتها في حزب قادر علي خوض الانتخابات النيابيه ويحوز ثقه الراي العام.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل