المحتوى الرئيسى

في العلاقة بين العدالة الانتقالية والتنشئة

01/11 22:58

في المرحله الانتقاليه للمجتمعات التي تعيش صراعات او نزاعات، علي عمليه العدالة الانتقالية ان تاخذ مسارها بحيث تضمن ان يكون لها تاثير ايجابي علي السياسه، المجتمع والاقتصاد، وعلي مسار العداله الانتقاليه ان يعالج قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، والقضايا التي نتجت عن الانظمه التي سببت الصراع او النزاع كقضايا الفساد، القتل وغيرها، وذلك يتم عن طريق تشكيل لجان تحقيق، معالجه قضائيه تطهير القضاء، بناء واصلاح وتحسين المؤسسات، والتعاون مع المجتمع المدني لبناء حوار فعال ما بين الاطراف يهدف الي الوصول الي حل له اثر علي المدي البعيد. [1]

اذن، فالعداله الانتقاليه تساعد المجتمعات والمجموعات المتنازعه علي التغلب علي المشاكل التي برزت بينها خلال فترات النزاع، من خلال ضمان الحفاظ علي دمقرطه المرحله الانتقاليه ما بعد الصراع او ما بعد الحرب، وبالطبع فان هذا يحدث في حاله ضمان التعلم من اخطاء الماضي، وفي حاله ضمان حقوق المتضررين من النزاعات في الصراع، فلذلك هناك ضروره ان تكون المعالجه ليس علي الصعيد القضائي فقط انما ايضًا علي الصعيد الاجتماعي، النفسي والاقتصادي. [2]

احد المحاور الاجتماعيه التي من المهم العمل عليها هو "التربيه والتعليم"، من تطوير المناهج التعليميه وحتي القيم التي يتم تمريرها للطلاب من خلال المؤسسات الحكوميه، باعتبار ان للمؤسسات التربويه دورًا اجتماعيًا هام في تربيه الاجيال، والعمل علي بناء ذاكره جماعيه ما بعد النزاعات او الصراعات.

وهنا يُسال السؤال، هل هناك علاقه ما بين التربيه (Education)، العداله الانتقاليه، وحل النزاعات؟

اثناء بحثي حول موضوع العداله الانتقاليه والتربيه، واطلاعي علي اصلاحات تربويه لدول مرت بازمات ونزاعات كـ (جنوب افريقيا، امريكا اللاتينيه، الارجنتين، ايرلندا الشماليه، البوسنه وغيرها)، لاحظت ان الاصلاحات في انظمه التربيه والتعليم هي اصلاحات تكون جزء لا يتجزا من المرحله الانتقاليه، هذه الاصلاحات يربطها خيط رفيع، الا وهو تاثرها من "عولمه التربيه"، دَاَبت هذه الاصلاحات علي التشديد علي القيم العالميه وحقوق الانسان اكثر من القيم او القضايا التاريخيه التي تخص المجتمع المحلي لها، وكانها تحاول وبخجل ان تبتعد عن نقاش "ما حدث" او انها فضلت البدء بمرحله جديده، رغم ان لهذا حسنات في اطار حل النزاعات، الا ان سلبياته تتجلي في تراكمات مستقبليه للفروقات الاجتماعيه والاقتصاديه التي لن تحلها مثل هذه الخطط ان تجاهلت الفروقات الاجتماعيه والاقتصاديه في مجتمعاتها والتي نتجت عن السياسه المتازمه فيها.

الاصلاحات في انظمه التربيه في المراحل الانتقاليه، عليها ان تضمن مضامين تعزز الحوار علي الصعيدين الفردي والجماعي، تكشف الحقائق بواقعيه، تعزز التعاطف بين الطلاب، وتعالج القضايا عن طريق السرد الفردي والسرد الجماعي وتراعي الاحتياجات النفسيه والاجتماعيه للفرد والمجموعه. وعليه فان للتربيه دورًا هامًا في سير عمليه العداله الانتقاليه، وهذا ياتي من خلال الاصلاحات السياسيه والاجتماعيه لانظمه التربيه والتعليم، من حيث المضامين التدريسيه ومن حيث تدريب الطواقم التدريسيه وتجهيزهم للتعامل مع الوضع الجديد في ظل المرحله الانتقاليه، هذا كله لا يحدث بجهود حكوميه فقط، انما بتعاون مشترك ما بين الحكومات، المجتمع المدني بمؤسساته وشعبه، وكذلك الباحثين والاكاديميين، بالاضافه الي ذلك ان اهميه اجراء الاصلاحات في انظمه التربيه والتعليم عليه ان يكون ذي صله بقرارات جماعيه تُعطي شرعنه قضائيه وتثبت من قبل متخذي القرارات في المرحله الانتقاليه مما من شانه ان يعزز عمليه حل النزاع من خلال التربيه والمضامين التدريسيه. (3)

كجزء من عمليه العداله الانتقاليه، الاصلاحات التربويه تلعب دورًا هامًا في البحث عن حلول لتحديات اجتماعيه يعاني منها المجتمع الذي مر في ازمات نزاع او حالات حرب، في المراحل الانتقاليه، الدور الذي علي الاكاديميين، المجتمع المدني ومتخذي القرارات فعله هو السعي الي بناء استراتيجيه ورؤيا تربويه تضمن تنميه الفئات المهمشه والمتضرره من حالات الصراع وتسد الفجوه بين المجتمعات (communities) والفئات التي تركب المجتمع ككل.

هل للمؤسسات التربويه دور في حل النزاعات؟ شمالي ايرلندا نموذجًا

نقاشي السابق شدد علي اهميه التربيه ودورها في عمليات حل النزاع، والسبب في ذلك هو ان للتربيه دور اجتماعي وسياسي وقدره علي بناء تركيبه للمجتمعات، الاصلاحات التربويه يجب عليها الا تبحث علي حلول لحظيه، انما علي حلول لها اثرها علي الامد الطويل.

تعود جذور الصراع في ايرلندا الشماليه لاسس اثنيه - سياسيه، عكست واقعًا ثقافيًا علي المجتمع الشمال ايرلندي، كانت جذوره منذ قرون مع استيطان الانجليز شمال ايرلندا، وبالطبع هذا نقاش طويل حول "من بدا؟" و"من السبب؟" و"من المحق؟" و"من هي الاطراف المتنزاعه؟" او "ما هي المسميات الاصح لوصف الحاله؟". فلذلك ساكتفي بان اركز علي ما جري في الستينات من القرن الماضي فيما سمي ""The Troubles عام 1969 في نضال الجمهوريين في حمله "الحقوق المدنيه" وحتي الاصلاحات في السنوات الاخيره.

يمكن تقسيم المجتمع في ايرلندا الشماليه الي "اتحاديين" وهم الغالبيه المسيطره علي المجتمع في شمالي ايرلندا وبغالبيتهم من الطائفه البروتيستانيه وهمهم الحفاظ علي الاتحاد مع بريطانيا و"جمهوريين" وهم بغالبيتهم من الطائفه الكاثوليكيه والذين طالب معظمهم بالاتحاد مع جمهوريه ايرلندا. (6)  ادي الصراع في ايرلندا الشماليه الي انفصال هذه المجموعات عن بعضها البعض، لاسباب اقتصاديه، سياسيه، اجتماعيه وثقافيه ؛ وبرز هذا الفصل في اجهزه ومؤسسات التربيه والتعليم، الرياضه، الوضع الاقتصادي - الاجتماعي، الزواج ... الخ.  

وعليه فان المدارس في مدينه بلفاست مثلاً، وهي عاصمه ايرلندا الشماليه، مازالت منفصله حتي هذا اليوم، رغم الوصول الي اتفاق تاريخي عام 1998 بين الاطراف المتنازعه "اتفاق بلفاست" او ما يسمي ايضًا بـ "The Good Friday"، هذا الفصل برايي يعكس واقع المدينه، من انفصال وتقطب ما بين المجموعات فيها هو قائم حتي اليوم في مجالات حياتيه مختلفه، وهو ظاهر للعين للزائر الخارجي للمدينه، وهذا الاستقطاب سببه الصراعات السياسيه ما بين الاحزاب التي تمثل الطرفين كحزب "شين فين" والحزب الاتحادي الديموقراطي (DUP) وغيرها، بالاضافه الي ذلك فان الفتره ما بعد الاتفاق عام 1998 اتسمت بالعنف بين المجموعات الاثنيه وكذلك بوجود فروقات اجتماعيه - اقتصاديه بين هذه المجموعات؛ اي ان المجتمع الشمال ايرلندي حتي في هذه الفتره الانتقاليه كان منقسمًا اجتماعيًا مما انعكس اثره علي جهاز التربيه والتعليم ومؤسساته كالمدارس، وكذلك علي درجات الاندماج بين الطوائف في البلد.  

في ايرلندا الشماليه هنالك ثلاثه انواع للمدارس بشكل عام: مدارس كاثوليكيه، مدارس بروتستانتيه، ومدارس فيها اندماج بنسب مختلفه، وتلعب مؤسسات التربيه في ايرلندا الشماليه دورًا في كونها مصدرًا للتماسك ما بين الطوائف، الامر المتعلق بالمدرسه نفسها وخططها الذاتيه واستعدادها للتعاون مع مدارس من طائفه اخري.  (Hayes, 2009).

في المجتمع الشمال ايرلندي، هناك اراء متعدده حول دور التربيه في الفتره الانتقاليه:

طرف يدّعي ان الفصل في مؤسسات التربيه والتعليم ما بين الطوائف في الدوله سيعزز الفروقات بينها وسيحافظ علي هذه الفروقات، لذا يجدون الدمج حلًّا.

الاشخاص الذين يعارضون دمج المدارس، يدعون ان هذا الفصل يساعد الطوائف "الاقل حظًّا" اجتماعيًا واقتصاديًا ان تجد سبلاً لتنميتها لتلحق بالطوائف او المجموعات الاخري؛ بالاضافه الي ذلك فان الدمج في المجتمعات المتنازعه من شانه ان يقوي طائفه علي حساب اخري ويحافظ علي هيمنتها في المجتمع ككل. (Dun 1986).

الراي الثاني اذن، يدّعي بان الفصل مهم للطوائف التي تعتبر "اقليه اثنيه" وهذا الفصل يعزز مكانتها ويساعدها في الحفاظ علي ثقافتها، هويتها وتماسكها الاجتماعي.

فيما يخص شمالي ايرلندا، المدارس المفصوله تدّعي ان العمليه التربويه لبناء مجتمع فيه حوار مع الاخر يمكن ان يتم ايضًا فيها، ولهذا معظم المدارس مازالت علي هذه الحاله هناك.

 الاتفاق التاريخي عام 1998، ادي الي زياده واضحه في اندماج الطوائف المختلفه في المدارس، بدرجات مختلفه واشكال مختلفه لضمان خصوصيه كل منها، هناك مدارس تعتبر وبشكل رسمي مدارسًا مختلطه، هناك مدارس كاثوليكيه فيها نسبه طلاب بروتيستانت، وكذلك مدارس بروتيستانتيه فيها نسبه طلاب كاثوليك.

يشير البحث الذي اجراه "هايس ومكاليستير" الي ان الاندماج تربويًا من خلال المؤسسات التربيه يعزز التواصل ما بين الطوائف ويزيد من العلاقات الاجتماعيه بينها، بالاضافه الي دوره في بناء علاقات انسانيه وطيده ما بين الطلاب ولهذا انعكاسات ايجابيه علي حل النزاع للمدي البعيد، اذن فان الاندماج ولو بدرجات مختلفه في السياق الشمال ايرلندي، يعزز الالتحام الاجتماعي، التسامح ويساهم في عمليه التصالح ما بين الطوائف، باعتبار المؤسسات التربويه مؤسسات تراعي احتياجات فرديه، اجتماعيه وثقافيه للفرد والمجموعه.

منذ الاتفاق عام 1998، كانت مبادرات عديده تسعي لدمج الطوائف وتحسين التواصل بينها، لكن المدارس رات بان الدمج المباشر فيها ليس بالضروره هو الطريق لذلك، انما هناك طرق اخري للقاء هذه الطوائف، كالكتب المدرسيه، المضامين التدريسيه، التربيه علي قيم ومفاهيم مشتركه، التعدد الثقافي، التربيه المدنيه، ولقاءات ما بين المدارس، والتحدي الاساسي الذي واجه هذه المدارس هو اعداد طاقم المعلمين للتعامل مع القضايا الاجتماعيه والسياسيه في فتره ما بعد الاتفاق.  

السبب في ان الاصلاحات والدمج عليها ان تشمل المضامين التدريسيه هو الحفاظ علي الا تكون كتب التدريس مشحونه سياسيًا ومنحازه لطرف معين، من حيث الرموز، المعلومات التاريخيه، السرد او فيها الغاء لطرف، لذلك علي هذه الاصلاحات ان تشمل الجانب النظري من مضامين تدريسيه وكذلك الجانب العملي من تهيئه وتدريب طاقم المعلمين للتعامل مع الوضع الجديد في المراحل الانتقاليه، هذه الاصلاحات ان راعت الاحتياجات الثقافيه والاجتماعيه لجميع فئات المجتمع من شانها ان تدعم وبقوه العداله الانتقاليه.

[1] ما هي العداله الانتقاليه؟ http://www.ictj.org/ar/about/transitional-justice

[2]  Hazan, Pierre, and Sarah De Stadelhofen. Judging war, judging history: behind truth and reconciliation. Stanford Univ Pr, 2010.

 (3) Alberstein. (2013), The “Law of Alternatives”: Conflict Resolution as The Art of Reconstruction

 [4]  Mailhes, C. (2005). Northern Ireland in transition: the role of justice. Journal of Irish Studies, 77-90.

[5] Cole, E. A. (2007). Transitional justice and the reform of history education. International Journal of Transitional Justice, 1(1), 115-137.

(6) McGlynn*, C., Niens, U., Cairns, E., & Hewstone, M. (2004). Moving out of conflict: The contribution of integrated schools in Northern Ireland to identity, attitudes, forgiveness and reconciliation. Journal of Peace Education, 1(2), 147-163.‏

(7) Hayes, B. C., & McAllister, I. (2009). Education as a mechanism for conflict resolution in Northern Ireland. Oxford Review of Education, 35(4), 437-450.

نرشح لك

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل