المحتوى الرئيسى

أبو همام .. سيرة ومسيرة

01/10 22:59

طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا اَبَا هَمَّامِ

مع مشرق شمس الثلاثاء الثالث من ديسمبر 2014م، غربت شمس صناجه دار العلوم، واديبها المفلق، وناقدها الحاذق، ومعلم الاجيال، الشاعر المترجم والمجمعي عبد اللطيف عبد الحليم ذو اللقب العقادي الاصيل"ابو همام"، تلميذ علمين من اعلام القرن العشرين، اولهما واكثرهما اثرا فيه عميد التفكير العربي الاستاذ العقاد، وثانيهما هو شيخ المحققين العرب ابو فهر محمود شاكر، اللذان حملا شعله الدفاع عن الموروث العربي ونشره، لسانا وبيانا، وشريعه وثقافه في القرن المنصرم، فخلفهما من بعدهما، وارثا ارثهما، يرد المناوئين، ويصد المهاجمين، ويذب عن حياض العربيه كل الشانئين، حتي اتاه اليقين.

ان مولد "ابو همام" يمثل حجر زاويه واساسا ركينا في قصر العروبه الشامخ؛ اذ شرفت دنياها وتفتحت ازهار بستانها بانبات بذره يانعه، وطبعت صفحه ناصعه فيعام 1945علي ارض ريفيه اصيله تسمي قريه"طوخ دلكه" احدي قري محافظه المنوفيه، تلك القري التي لا يزال اهلها علي فطره الاسلام، ويعيشون علي ارث العاده التي لا تختلف كثيرا عن العباده، والتي تنماز بالقيم السامقه، والاخلاقيات الساميه، والعادات العاليه، مما يغلب عليها عدم مخالفتها نصا، ولا تقطع جسرا، ولا تترك فجرا ولا عصرا، ولا يغادر اهلها ريفها الا وهم حافظون للقران او قارئون له بحق الاقراء، كما اراد له رب الارض والسماء.

شب "ابو همام" ونضج بين اطفالها، وعاش ميعه صباه، وتربي في بيت محب حافظ لكتاب الله، ومبجل لاهله الحاملين اياه، فاختتم حفظه– وهذه منقبه اولي - في كتَّاب القريه، والذي كان المدرسه التعليميه الثانيه بعد المسجد الملحقه به، والكتَّاب لدي الريفيين اعظم من الجامعه في خريجيها ونتائجها، ويكفي شرفا لدي القرويين ان يعلموا ان ابنهم قد ختم القران، فاذا بالافراح تعمهم، وبالمسرات تغزوهم، وكانهم فازوا بخيري الدنيا والاخره، بل هم فعلا قد فازوا؛ ايمانا عميقا، واحسانا دقيقا، تربوا عليه، وكبروا في ظلاله، ذلك يوم كانت الكتاتيب مغروسه في العقول، مثمره في القلوب، ولعلها لا تزال كذلك.

وبمجرد حفظ الشيخ الصغير عبد اللطيف للقران الكريم كان قد التحق بالمعهد الازهري بشبين الكوم, وتلك منقبه اخري، من حيث اختيار سبيل شرعي في ظلال لغوي، فالمعاهد الازهريه وقتها كانت اكثر انتشارا واعظم طلبا لدي الريفيين البسطاء، وكان انئذ للازهر مكمن الجد، وموطن النِّد، ومعدن الاصاله الذي يشع نورا الي الدنيا واطرافها كافه، ذلك النور الذي يجمع المتشرذمين، ويضم المخالفين، وتسعي اليه جماهير المسلمين في شتات الربا، وخفقات قلوب ذوي الراي والشوري، بشيخه العظيم، الذي كان يعامل في زياراته معامله الامراء والرؤساء بل اكثر من ذلك بكثير.

طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا اَبَا هَمَّامِ

لم يكن التحاق استاذنا "ابو همام" بالتعليم الازهري التحاقا عاديا، او ارتياده ارتيادا عابرا، كما نري في هؤلاء الكُسالي الذين لا يحصلون من العلم الا فسيفساءاته، ولا يخرجون بالمعرفه الا قشورياتها، بل كان ابو همام نابغه اقرانه، فالته زمانه، وناضره مكانه؛ فلم يلبث الا وتفوق علي زملائه، حتي اختير ممن اختيروا من سائر المعاهد الازهريه للالتحاق بالمعهد النموذجي للازهر بالقاهره– في منقبه ثالثه - تلك البدعه الحسنه التي ابتدعت انئذ لاعداد المتفوقين، وتدريبهم تدريبا مميزا، فدرس فيه علي ايدي علماء مصر وادبائها وشيوخها، مثل الاستاذ خليفه التونسي، وتعرف زميله "احمد كشك"، وصارت بينهما صحبه واخوه، ويا ليت هذا المعهد بقي !! فسرعان ما اغلق، ثم ماتت فكرته... وعاد كل الي معهده الاول.

لكن لم يكتف ابو همام بتلك المحاضرات التي تلقي علي مسامعهم، في المعهد النموذجي، بل تجنَّح بجناحين عظيمين – في منقبه رابعه -فارتاد مجالس شيخ المحققين "ابو فهر"، وواظب عليها، وما اكثر ما اختلفت اراؤه وائتلفت معه، وفي اسبانيا كانت لهما صحبه، واما الجناح الاقوي والاشد صلاده بركائزه الصلبه، فهو الاستاذ عباس العقاد الذي سيطرت اراؤه وافكاره علي لبه، فاعتنقها وامن بها ايمان المسلم بربه، وعاش في كنفه، وظل مخلصا له مدافعا عنه حتي رحيله، وكان من بين نصائح العقاد له "ان يا شيخ عبد اللطيف عليك بدار العلوم،ويعبر ابوهمام عن هذه المرحله في مسيرته الحياتيه والثقافيه والابداعيه بقوله: "وعرفت انني لم اكن منذورا لدروس الفقه، بل كنت منذورا لعرائس الشعر".

فولي وجهه وصديقه "احمد كشك" شطرها،والتحقا بها – في منقبه خامسه -في مبناها القديم بالمنيره، الذي كثيرا ما كان يذكرها بقوله: "نضر الله ايامها"، فشارك في انشطتها، وشرب من معينها شرابا سلافيا، ونضجت فيها مواهبه الشعريه وملكاته اللغويه، واثرت فيه عراقتها التاريخيه،حتي صار اول دفعته، وظل محافظا علي ذلك الي ان تخرج فيها عام1970م,وعين فيها معيدًا، وكيف لا يعين مثله؟!! فكان ذلك من محاسن هذا النظام الموبوء الذي يعين الاوائل فقط دون اختبارات مهاريه او استحقاقات حياتيه، او مسابقات فكريه وثقافيه، فامسي ذوو هذا الاختيار ما بين مفيد للدار نافع لمريديها او ضار لها مضل لهم،وما اكثر الثانيه علي حساب الاولي.

طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا اَبَا هَمَّامِ

اختار ابو همام قسم الدراسات الادبيه، واكمل دراسته العليا بها،فحصل علي الماجستير عن شاعريه المازنيعام 1974م, ثم سافر في بعثه دراسيه الي جامعه مدريد عام 1976– في منقبه سادسه - وهناك حصل علي درجتي الليسانس والماجستير مره اخري، علي عادتهم؛ اذ لا يعترفون بليسانساتنا، ويرون فيها عوارا بطرائقهم، وفجوه فيما بينهما، فاجتاز اختباراتهم، وانماز بقوانينهم وقواعدهم علي طلابهم، ثم وصل الي المبتغي، فحصل عليدكتوراه الدوله بتقدير ممتاز من جامعه مدريد 1983م، ولم يصنع صنيع بعض المبعوثين؛ من حيث التغرُّب والتقليد والتاثر بمفاتنهم وما اكثرها، بله لم ينس خير الدار عليه، فعاد الي مصر استاذًا ورئيسا لقسم الدراسات الادبيه بها.

لقد كانت البعثات انئذ تؤتي اكلها كل حين باذن ربها، اذ يبتعث الي كبري الجامعات الاوروبيه النوابغ والمميزون، الذين يرتجي منهم اثراء الحركه الثقافيه بالنظريات والمناهج التجديديه التي تنماس مع طبيعه العربيه، وتزداد بها رونقا وبهاء، وتاريخ الدار مليء بهذه النماذج المشرقه؛ من ايام نشاتها علي ايدي علي مبارك، ومرورا بتوفيق العدل، وغنيمي هلال، ...وانتهاءً بفقيهنا اسامه شفيع المبعوث الي فرنسا، وبصديقنا الناقد محمد متولي المبعوث الي المانيا للحصول علي الدكتوراه في النقد الادبي الحديث.

ان "ابو همام" بعودته تلك الي الدار، حمل مشعل الديوانيين ورفع رايه العقاديين بخاصه، فمكث يدرس شعرهم وادبهم، من خلال كتبه المتنوعه، كـ: شعراء ما بعد الديوان باجزائه المختلفه، والمازني شاعرا، وعرض اراءه في بعض الشعراء المشهورين المحدثين وبثها في كتابه: حديث الشعر، وفي الشعر العماني المعاصر، وهذا الاخير كتبه اثناء اعارته الي جامعه السلطان قابوس بعمان.

طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا اَبَا هَمَّامِ

ولم تاخذه الحياه العلميه والاكاديميه بعيدا من تفيُّض شعوره، وتدفق عطوره، وانسراح عبيره، وعميق تجاربه، وجريان عاطفته في جداول ماربه، حتي ازدان بها مداد قلمه، فابدع لنا علي الموزون المقفي الخليلي ابداعات عديدات، نشر بعضها في صحف الوطن العربي ومجلاته, وكتب مقدمات لبعض السلاسل الادبيه في الشعر والقصه، ثم اصدر دواوينه الشعريه والتي ضمتها - من بعد - اعماله الكامله، وهي: الخوف من المطر 1974م، ولزوميات وقصائد اخري 1985م، وهدير الصمت 1987م، ومقام المنسرح 1989م،واغاني العاشق الاندلسي 1992م، وزهره النار 1998م، وهذه سابعه المنقبات له.

والمطلع بنظره اولي تجاه هذه العناوين يلاحظ عبق الموروث فيها، وصدق الاتباع للقدامي من حيث المظهر، وروعه الابداع من حيث الجوهر، ودقه التجديد في المعالجه والموالجه، وما اللزوميات لديه الا للتحدي المتعمد تجاه المعجم العربي والمعتمد عليه في الوقت نفسه، الذي كان استاذنا يحفظ منه صفحات وصفحات، حتي قلنا عنه يوما: انه "معجم يمشي علي قدمين"، فكنا نسمع منه اللسان المستقيم، والبيان القويم، ولعله وقد صار فيه علي شاكله لزوميات المعري، قد اختلف عنه بما عرضه من فِكَر وتجارب من روح عصره، ومن بواطن بصره ودواخل بصيرته، واما مقام المنسرح، والذي كان يقدس تفعيلاته، ويري فيها تحديا اخر في زمن طوي عددا من البحور الخليليه المركبه، فعظم عليه امره حتي استرد عافيته علي يديه بما اولاه من عنايه لا نظير لغيره فيها، وانه ليؤكد به ان القريحه العربيه تستطيع ان تكتب علي اي وزن من وحي دوائر الخليل متي اراد الشاعر، وكيفما شاءمنها، مع مزيدات من الاتاحه للخروج عن المالوف، شريطه ان يوافق روح العربيه بطرف، واما تلك الاغاني الاندلسيه بالنسبه لـ"ابو همام" فيمكن ان نقول عنها: انها قصه حياته بالاندلس "الفردوس العربي المفقود"، فقد كتب معظم قصائده من الهامات اثار المسلمين باسبانيا، حينما كان دارسا هناك للحصول علي الدكتوراه ... الخ.

فمن يتابع مسيرته – رحمه الله - يدرك ان لها مقدمات في مجملها كانت عشقا للحرف في مرحله مبكره من العمر، وكان الحرف الاول في عالم الغناء، بدءا بغناء الباعه الجائلين الذين يرددون نداءاتهم علي نحو موقع،  ثم صعد العشق للحرف من هذا المستوي الي مقاربه الشعر في غناء الموالد والافراح، ثم صعد اكثر ليقارب الانشاد الديني في التواشيح لكي يصل الي الغناء القديمجمله، وهذه المقدمه الصوتيه– كما يقول صديقه د/ محمد عبد المطلب - في عشق الحرف كانت موازيه مع المقدمه الثقافيه في حفظ الاوراد والمتون الصوفيه وصولا الي حفظ القران الكريم.

اما اعماله الابداعيه الاخري فقد كان له باع في فنون الترجمه والتحقيق والتاليف والكتابه، وقد ترجم مسرحيه"خاتمان من اجل سيده 1984م"،و"قصائد من اسبانيا واميركا اللاتينيه1987م", وحقق كتاب "حدائق الازاهر" لابن عاصم الغرناطي، وغير ذلك مما هو معروف عنه ومشهور له.

طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا اَبَا هَمَّامِ

ولم تنسه الدوله او المؤسسات العربيه في التكريمات والتشريفات، فقد حصل ابو همام علي جائزه الدوله التشجيعيه في الترجمه الابداعيه 1987م, ونال جائزه مؤسسه البابطين للابداع الشعري عن افضل ديوان عام 2000م, وترجم بعض شعره الي الاسبانيه والفرنسيه، وكان مقرر اللجنه الدائمه للغة العربية لترقيه الاساتذه المساعدين بالمجلس الاعلي للجامعات، وتولي رئاسه مجلس اداره جمعيه العقاد الادبيه اعوام 1985 - 1988, وعضو اتحاد الكتاب, وجمعيه الادب المقارن، وعضو لجنه الشعر بالمجلس الاعلي للثقافه وعضو مجلس امناء كرمه ابن هانئ.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل