اليابان: رحلة إلى جزر الثعالب "الطائرة"

ابتعدت سفينتان عن خليج طوكيو، تاركهً خلفيهما ضجيج المدينه واضواء مصابيح النيون التي تغمرها. كانت الساعه لم تتعد 11 صباحا، لكن بعضا من الرجال المسنين علي سطح السفينه كانوا قد بداوا بالفعل في احتساء عبوات من الجعه.

للانصاف، يمكن القول انه كان لدينا وقت نريد ان نبدده خلال هذه الرحله البحريه التي تستغرق 25 ساعه، وتستهدف الوصول الي جزر بونين اليابانيه ، التي يُطلق عليها باللغة اليابانية اسم "اوغاساوارا".

وتنطلق هذه الرحله من خليج طوكيو مره واحده اسبوعيا، وتشكل السبيل الوحيد الذي يمكن للمرء ان يصل من خلاله الي الارخبيل الاكثر انعزالا في اليابان، والذي يمتد علي مساحه تصل الي الف كيلومتر.

وبالرغم من ان الرحله تجري وسط امواج متلاطمه، فانها لا تفتقر علي الاطلاق لمن يرغبون في القيام بها. فقد تقاسمت ارضيه القمره مع اكثر من 100 راكب اخر، وغص المكان علي الفور بالبطانيات وعبوات المعكرونه الرفيعه سريعه التحضير، وفي الخلفيه ارتفعت اصوات الصفير المنبعث من اجهزه التحكم الخاصه بالالعاب الاليكترونيه التي يمارسها بعض الركاب.

ورغم العزله التي يعاني منها ارخبيل "بونين"، فان الشعبيه التي تحظي بها جزره تشي بالكثير حول قدرتها علي جذب الزائرين. في رحلتنا هذه كنا نتجه صوب مجموعه جزر لم تكن قط جزءاً من اي يابسه، وهو الامر الذي ادي الي ان تصبح هذه البقعه موطنا يعج -علي نحو غير مالوف- بعدد من الحيوانات والطيور وانواع النباتات المتوطنه فيها دون سواها.

وتشمل هذه الانواع الاصليه 441 نوعا من النباتات، و379 نوعا من الحشرات، و134 نوعا من القواقع الارضيه.

وبفضل هذه الاعداد الكبيره من الانواع الحيوانيه والنباتيه الاصليه؛ قررت منظمه الامم المتحده للتربيه والعلوم والثقافه (اليونسكو) في عام 2011 اضافه هذه الجزر، التي يزيد عددها علي 30 جزيره وتُلقب باسم (جزر غلاباغوس الشرق)، الي قائمه التراث العالمي.

ومنذ ذلك الحين، زاد عدد هذه الجزر علي نحو يثير الاستغراب. فقد ادي انفجار بركاني وقع تحت سطح البحر الي ظهور جزيره بركانيه جديده كليه، طفت فوق الامواج في نوفمبر/تشرين الثاني 2013. وعلي مدار الشهرين التاليين؛ ديسمبر/ كانون الاول 2013 ويناير/كانون الثاني 2014، واصلت الجزيره نموها، لتتضخم مساحتها الي ان بلغت 60 الف كيلومتر مربع.

واطلقت السلطات اليابانيهعلي هذه الجزيره اسم "نيجيما" او (الجزيره الجديده). بعد ذلك، وبنفس سرعه ظهور "نيجيما" علي سطح الماء، صارت مساحتها اكبر من اللازم، بما شكل خطرا علي وجودها.

فلم يكد هذا النتوء الصخري يثبت وجوده، وينفث ادخنه بركانيه بدت بمثابه تحيه للعالم، حتي ادي اتساع حجمه الي ان يندمج مع جزيره "نيشينوشيما" المجاوره.

علي اي حال، يتناسب اضطراب الصفائح التكتونيه في جزر "بونين" مع تاريخ هذه المنطقه المضطرب بدوره. وللوهله الاولي، قد يعطي ذاك الارخبيل انطباعا بانه يتسم بالهدوء والسكينه البالغيّن، وهو امر بدا واضحا بشكل خاص عندما قيّمت الوضع في دار الضيافه الصغير الذي اقمت فيه.

وقد اقمت في نزل يسمي "بنانا ان"، وهو نُزُل يقع في جزيره "تشيتشيجما" كبري جزر الارخبيل التي يقطنها غالبيه سكانه البالغ عددهم نحو 2400 نسمه. لكن رغم كل هذا السكون والطابع الهادئ، يالف هذا الارخبيل التغيير والتطور.

فبمجرد ان عُرف ذلك الارخبيل باسم "بونين" او (غير الماهول) ، اقام تاجر امريكي انتهازي في احدي جزره عام 1830، قبل ان تعلن اليابان في عام 1862 ان لها حق السياده عليه.

وخلال الحرب العالميه الثانيه، اصبحت تلك الجزر مسرحا للقتال بين القوات الامريكيه ونظيرتها اليابانيه. وفي سبتمبر/ايلول 1944، اُسقطت طائره حربيه كان يقودها الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الاب قباله السواحل اليابانيه، في حادث ادي لمقتل الطيارين المساعدين اللذين كانا معه علي متن الطائره.

وبعدما سقطت سلسله جزر "بونين" في يد الولايات المتحده عام 1946، اُعيدت الي السياده اليابانيه في عام 1968.

اليوم، لا تزال هذه المجموعه من الجزر تحمل اثار عقود من الحكم الامريكي لها. فللعديد من سكان الارخبيل اصول امريكيه يابانيه مشتركه، كما ان العلم الامريكي لا يزال يرفرف بين الحين والاخر في ذلك النسيم الاسيوي.

ومع ذلك، فهذه الجزر يابانيه مئه في المئه. وفي واقع الامر، وعلي الرغم من ان هذا الارخبيل يقع في المحيط الهاديء علي بعد نحو الف كيلومتر جنوبي العاصمه اليابانيه، فانه يشكل من الوجهه الاداريه جزءاً من محافظه طوكيو الكبرى.

وبينما قد تُعرف طوكيو نفسها بملايين السكان الذين يقطنون فيها، وبالتقدم التكنولوجي الجاري في انحائها، فان للحياه البريه مكانهً لا تباري في بونين. فبعد ظهيره يوم ما، اخذتني رحله بالقارب من جزيره "تشيتشيجما" الي عالم زاخر باسماك الراي اللسّاع التي يصل طول الواحده منها الي مترين، وبالحيتان الحدباء مفرطه النشاط.

في لحظه ما، حوّل سرب من الثدييات المائيه الهائجه، في موسم التزاوج، المياه المحيطه بالقارب الي موقع تتصادم فيه الاذيال وتندفع منه المياه من ثقوب التنفس الموجوده علي ظهور الحيتان.

بالاضافه الي ذلك، وبفضل استخدامي انبوبا للتنفس تحت الماء في مياه خليج هادئ يقع قباله شاطئ ميانو-هاما بجزيره "تشيتشيجما"، كان بوسعي رؤيه ثعابين البحر، وهي تحمل علي جلودها نقوشا كتلك التي علي اجساد الفهود. كما رايت هناك اسماك القُشْر بارزه الاعين، وهي تتخذ مخابئ لها فوق شعاب مرجانيه ذات لون ارجواني.

ذاك الاستعراض لمظاهر الحياه البريه تواصل كذلك فوق اليابسه. فهناك، اعداد من حيوانات السرطان الناسك العملاقه المتوطنه في تلك الجزر تمضي علي طول الشواطئ. اما علي اشجار الخبازي حمراء اللون، كانت تصدح طيور الادغال المغرده.

وفي كل يوم عند الغروب، تظل السماء مفعمه بالحياه بسبب طيور "بونين"، التي تعرف ايضا باسم "ثعالب بونين" الطائره، وهي عباره عن كائنات كبيره الحجم تشبه الوطواط، ولا تعيش سوي في هذه المنطقه.

وبالنسبه لسكان ارخبيل بونين، تشكل السفينه الاسبوعيه التي تاتيهم من طوكيو شريان حياه لهم فيما يتعلق بالدخل. لكن الزوار الاجانب لمجموعه الجزر هذه لا يُعاملون بوصفهم "محافظ نقود" تمشي علي الارض، الا نادرا.

ففي الليله الاخيره لي في جزيره "تشيتشيجما"، قرر احد السكان بلغته الانجليزيه الهزيله ان يدعوني لتناول الطعام علي نفقته، حتي وانا اتحدث اللغه اليابانيه علي نحو اكثر بؤسا.

الدعوه شملت الوانا متنوعه من الماكولات؛ اذ تضمنت تونه "ساشيمي"، وهي تونه نيئه مقطعه علي شكل شرائح رقيقه، وكذلك "كرات الارز" علي الطريقه اليابانيه، فضلا عن اسياخ الدجاج المشوي، بجانب كميات بدا انها لا تنفد من شراب الشوتشو (مشروب كحولي ياباني يُعد بالتقطير من الشعير).