المحتوى الرئيسى

إبراهيم عبدالمجيد يعزف لحناً جنائزياً بطيئاً | المصري اليوم

01/05 22:56

«اداجيو» هو عنوان الروايه الاخيره المثيره للكاتب المتفرد ابراهيم عبدالمجيد، يزيح فيها عن صدره تجربه فقد مريره عاناها منذ سنوات، وهو يبحث لها عن معادل تخييلي ينفث به وجده، ويبخر شجنه، ويكثف بالتطهير مشاعره، هو فقد رفيقه العمر التي ذاق الحياه بصحبتها، فاستحالت بعد رحيلها الي ملاك طاهر، يقدم له روائياً طقوس المحبه بطريقه مثاليه نادره، لا تكفيراً عن ذنوبه، بل ولها مستعاداً باثر رجعي وتفانياً معكوساً بطريقه مبالغ فيها، واحسب انها تجربه لا يكفي المخيال مهما بلغ نشاطه في تشكيلها، بل لا مفر من ان نلمح فيها عصاره خبره الكاتب وذوب قلبه وهو يقيم عالماً من الفانتازيا المشاكله للحياه المصفاه وقد استحالت الي لحن الوفاء الرومانسي، في لحظة وداع بطيئه ممتده بايقاع «الاداجيو» الشجي المنهمل الحزين.

كان لابد للمحبوبه كي ينتصب هذا العالم ان تكون عازفه بيانو شهيره لتاخذ الروايه جسدها الموسيقي وتحلق بروحها في عوالم الفن المشحونه بالرقه والاسي والسمو، اما الزوج العاشق فيصوغه الكاتب من ورق شفيف، فهو رجل اعمال ناجح متخصص في الاثاث العربي والتحف الشرقيه، لكنه - علي عكس ما ينتظر من امثاله - مسكون بالتضحيه والفداء، حيث يعتزل الدنيا وما فيها ليتعبد في زوجته اسابيع وشهوراً وهي في غيبوبه دائمه، الامر الذي يجعل شعريه هذا النص تعتمد علي تجاوز المالوف حتي تشارف منطقه الرمز القابل للدلالات المتعدده، وان كانت تمضي في توظيف التقنيات السرديه بتمكن واضح، فتسوق حركه الاحداث القليله، والشخصيات المحدوده في تواشج منتظم خلال الزمن الداخلي للصوت الرئيسي من ناحيه، وتمزج بين الراوي العليم وبينه بنعومه لافته من ناحيه اخري، الي جانب هذا المناخ الموسيقي المهيمن عليها في اطار الاشارات الداله الرامزه مثل الهدهد والماء والصيد وغيرها، مما يغلف الروايه بشحنه مثاليه طاغيه في ايقاعها، وتقوم الطبيعه بدور هام في خلق هذا المناخ، فنزول المطر ووميض البرق وهدير الرعد يكمل المنظومه الصوتيه، كما يلعب الوصف المتقن البصري الذي برع فيه الكاتب ورشح اعماله للتحول الي مسلسلات تليفزيونيه دوراً في التمثيل الجمالي لدواخل الاشخاص، ويجازف الروائي ببدايه عمله من لحظه الذروه تاركاً العمل كله يسبح في سفح الاحداث، مما يهدد طاقه القارئ علي المتابعه وصبره علي نفسها البطيء، ففي المطلع نري ريم وهي تعزف علي البيانو مع الاوركسترا الالماني علي خشبه المسرح الكبير في الاوبرا، ولا يلبث القلق ان يغزو وجهها الذي كان يشتعل بالبهجه «حتي اذا اقتربت من النهايه راحت تضرب علي البيانو بحده كانما تقاوم شيئاً ينفجر في جسدها المرتعش، كان جسمها يتزلزل وهي تقاوم ذراعيها اللذين يريدان الابتعاد عنها وشفتيها اللتين تنجذبان الي ناحيه واحده، فتنكفئ علي البيانو وتتوقف الاوركسترا لحظات في وجوم ثم تسقط ريم علي الارض ويغلق الستار بسرعه، في المستشفي يجدون ان ورماً استوحش في مخها» ويكتشفون ان ما شخصه الاطباء من قبل باعتباره حاله صرع لم يكن صحيحاً بل هو الورم في مرحلته المتاخره.

يتحدد منظور الروايه بهذا المطلع الماساوي عندما نري سامر - زوج ريم - يقرر ان ينتقل بها الي فيلته في العجمي بعد ان يئس من الاطباء والعلاج، وان يقوم وحده علي تمريضها وخدمتها وهي في غيبوبه متحدياً المرض والموت في موقف فدائي او جنوني، مستعيناً بخبرته التي اكتسبها من العمل في المستشفي العسكري خلال الخدمه في مرحله التجنيد، وهي مغامره تخييليه مرهقه، يحاول المبدع ان يحكم حلقاتها بطريقه مقنعه، لكن شبح الموت الذي يطارده يخرج له من كل شق ليحيط به، مثلاً يستاجر تاكسي ليحمل عليه مرتبه طبيه يشتريها من محطه الرمل في الاسكندريه تحول دون تقرح جسد المريضه، فيلقاه سائق التاكسي شاكياً من الموسيقي والاغاني التي تزيد احزانه بدلاً من الترفيه عنه «فتح السائق راديو السياره فجاء صوت فايزه احمد تغني (حمال الاسيه يا قلبي)، اغلق السائق الراديو علي الفور قائلاً بهدوء وهو يبتسم ساخراً: تاني.. قبل ان تركب حضرتك معي فتحت الراديو فغنت فايزه احمد نفس الاغنيه، هي قسمتي ونصيبي.. لن تصدقني، لكن هذا ما حدث، منذ توفيت زوجتي بالمرض اللعين بعيد عنك اجدها لا تغني الا (حمال الاسيه)، (يا لولي يا غالي)، (يا تمر حنا ليه شارده عنا) ستقتلني يا استاذ، كلما غيرت المحطه اجدها، اشتريت شرائط تسجيل، قلت بلاها راديو، طلبت اغاني شاديه، دمها خفيف، روحت البيت وفتحت الكيس لاقيت شرائط فايزه ايضاً، البائع غلط، ربنا كاتبها لي»، ومهما كانت نبره الحديث بسيطه ساخره تشف عن تلقائيه الرجل البسيط وكيفيه تلقيه للاحزان واستسلامه للقدر فان مطارده الاسي له في صوت فايزه احمد الفاجع هو الذي بديمومه الحزن، وهو الذي يربط بين هذا السائق وسامر حتي يصبح رفيقه في الرحله كلها، فاذا ما حملته الصدفه ليذهب الي علياء الطباخه في المكس ويزورها قالت له «ابوزهره - زوجها - تعيش انت، مات بسبب السرطان، لا حل مع هذا المرض يا سامر بيه، المهم ان تتماسك حضرتك من اجل ابنتك نور، وترمي حمولتك علي الله.. سكتت وسكت، هل جاء ليكتشف موت زوجها، السائق عثمان، ايضاً ماتت زوجته، وحين اتصلت بالجنايني وجدته قد مات ايضاً، لقد اقترب كثيراً من الموت في رحلته لعلاج ريم، لكن الموت لايزال يحاصره».

اللافت في هذا السياق ان انتظار الموت امرّ من وقوعه، وقد وضع سامر نفسه في موقف عجيب، رفض ان يعاونه احد، ترهب ليتقرب الي غيبوبه زوجته، رفض اتصالات اصدقائه واحبائه كي لا يحيطهم علماً بعزلته، حتي غاده زميله زوجته في العمل والتاليه لها في المستوي الفني رفض في البدايه الرد عليها مع انه يعرف حبها له، اعرض عنها بجفاء مقصود ليتحمل بنفسه مسؤوليه تمريض الزوجه وتفريغ قسطره البول وتنظيم محلول الدواء دون الاستعانه باحد سوي عند ارتفاع حرارتها اذ يستدعي طبيباً شاباً من مستوصف بالعجمي ليساعده في ذلك، ساهراً الليالي بجوار جسمها المسجي علي السرير مترقباً ومتوهماً انها تشعر به او تنادي عليه من ملكوتها السماوي، معتقداً ان وجوده معها بهذه الطريقه يمنع موتها او يؤجله، هذا التفاني العجيب يبلغ درجه كبيره من القسوه الغليظه عندما ياخذ سامر في وصف جسد الزوجه المترهل وهو يضع لها «البامبرز» او ينزعه عنها، عندئذ يشعر القارئ انه حيال حاله ساديه تتلذذ بتعذيب النفس بطريقه سوداويه مرهقه، ثم لا يلبث ان ينبثق عنصر سردي اخر يتوازي مع هذا الجسد المتاكل، حيث تبدا المياه الجوفيه في التسرب الي ارضيه الفيلا وتشقيق جدرانها، يضطر سامر الي تغيير الباركيه وتعليه الارض والغاء درجات من السلم اكثر من مره، يستثمر الكاتب معرفته الوثيقه بمشاكل منطقه العجمي وافتقادها للصرف الصحي وتدهور اوضاعها نتيجه للارتفاع العشوائي للعمارات الشاهقه التي اقيمت بها، مما ينتهي بالقضاء علي طابعها، وهجره سكان الفلل يجعل من المكان كياناً موازياً للانسان الذي يتحلل بدوره ولا تجدي معه اي عنايه فائقه، ثم لا يفوت الكاتب ان يستثير ذاكره هذا المكان عندما كان يحفل بالحياه الصاخبه علي شاطئ «بيانكي» وقد سمي بذلك نسبه الي «اشيل بيانكي» السويسري الذي اسس شركه لمواد البناء وتقسيم الاراضي منذ منتصف القرن الماضي دون ان يعرف ما ال اليه شاطئه، وكذلك مدام «هانو» اللبنانيه التي كانت اول من اقام فندقاً هناك اسمته «هانوفيل»، اما البيطاش فلم تعد كلمه قبطيه تعني الحدود كما يقول البعض، ولا كلمه فرنسيه تعني البقعه الجميله، وهنا يمزج الكاتب السكندري الوفي الذي تغني في ثلاثيته بسحر مدينته وغيبوبتها بين ولائه للمكان وتجسيد رؤيته له من ناحيه، وولائه للزوجه الراحله بهذا التماهي بين المكان والانسان من ناحيه اخري في روائيه اشبه بالمرثيه النادره في ايقاعها وشجنها.

لكن هذه الروايه المرثيه التي كتبت في الظاهر بلسان الراوي العليم المختلط بوعي الزوج الشقي في وعيه، لا تلبث ان تستدعي - علي الرغم منها عده موجات تمثل انتصاراً جزئياً للحياه، فخلال اصراره علي ترسيم الفيلا يتذكر ما كانت ترغبه سيده احلامه من تزيينها بالالوان الزاهيه، فيحضر مجموعه من العمال النوبيين يقومون بصبغها بهذه الالوان البهيجه، حيث تتجاوز الالوان البكر «من احمر وابيض وازرق واخضر واسود وقرمزي وبرتقالي، مع الوجوه السمراء والعيون الواسعه والرموش الطويله للنساء مع العمامه النوبيه للرجال، ونري التماسيح التي تدرا الشر، والطيور البريه طويله السيقان، ومواكب الحج والمحمل فوق الجبال»، لكن المياه الجوفيه لا تلبث ان تصيب هذه الالوان ذاتها بالشحوب والاضمحلال فتتواري بسرعه.

اما الموجه المتفائله الثانيه فتاتي عقب نجاح السائق عثمان في اغرائه بالتلهي بصيد السمك معه، وعثورهما علي جثه فتاه منتحره، ونشر الصحف لهذا الخبر مما اطلع «غاده» علي مكان اختفائه، فتاتي علي عجل لتصحبه في محنته وتقوم عنه ببعض العبء في خدمه المحتضره، هنا يغلب الروح الواقعي علي الكاتب الذي امعلن في تصوير مثاليه الزوج، فيقع في غوايه الصديقه ويتذكر تجربته في بدايه عشقه لريم مع روايات «هنري ميلر»، «مدار الجوي»، و«مدار السرطان» ودورهما في استثارته فيمارس باستغراق ما يفوق قدرته علي التصور، حتي ليتساءل هل احبها في هذه الايام التي جمعتهما ام كان يحبها من قبل دون ان يدري بالرغم من حصارها الرقيق ومطاردتها له من قبل، لانها بدورها فنانه حقيقيه، غير ان الاحساس الممض الاليم بالذنب يطاردهما معاً فتقرر غاده مغادرته بصمت متواطئ، فاذا ما خلا الي نفسه داهمته ذكرياته مع ريم المترجمه الي الحان عزفتها امامه، لكن واحد منها يستاثر بوعيه كله، خاصه بعد ان خيل له انه سمعها تهمس له بان الموعد هو الخامس عشر من الشهر، ولم تكن هذه اول مره يظن انها تكلمت بشيء، ومع ان السياق النصي يسمح للقارئ بتصور معجزه نطق ريم بالنبوءه، كما يسمح له بان يظن بانه مجرد وهم يسيطر علي من يستغرق في حالات شعوريه متضاربه من الاحساس بقرب النهايه والامل في ايقاف عجله الزمن الحتميه «انه يسمع اداجيو البينوني، تعشقه ريم، عرف ذلك وهو يحضر معها احدي حفلاتها، قالت له بعد الحفل ان الموسيقار لم يشتهر الا متاخراً رغم ان باخ تاثر به.. لا ينسي الات الفيولين تعزف مرثيه الوداع، لم لا يبتعد عنه هذا الاداجيو الجميل القاتل الان».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل