المحتوى الرئيسى

خواطر بالعامية: خمسة أسباب للاعتراض على قرار منع فيلم "الخروج"

01/01 19:43

امبارح رُحت اتفرج علي فيلم "الخروج" بتاع ريدلي سكوت هنا في نيويورك، بعد ما قرات عروض نقديه اغلبها سلبي للغايه، وطبعًا بعد ما تابعت قرار وزير الثقافة بمنع عرض الفيلم في مصر. وبالرغم من ان سقف توقعاتي كان بالفعل واطي جدا، الا ان الفيلم نجح في ابهاري بفشله.

مش حاقول لا قصه ولا مناظر، لان المناظر طبعًا مبهره، خصوصًا منظر شق البحر ومنظر السماء اللي بتمطر تماسيح وحيوانات عقابًا للمصريين علي استعبادهم لليهود. لكن القصه، حتي بمعايير هوليوود، سطحيه غير مقنعه سينمائيًا: لا في تطور درامي للشخصيات، ولا حبكه شيقه او جديده، ولا ابعاد نفسيه للشخصيات تخلّينا نتعاطف معها انسانيا. الملابس عبيطه مافيهاش اي ابداع: كريستيان بيل (موسي) لابس اسود في اسود، اما جويل ادجرتون (رمسيس) ففضّل يلبس ابيض في ذهبي. تصوير الذات الالهيه علي انها صبي مدرسه ابتدائي ممكن تكون خطوه جريئه لكنها مالهاش اي معني او عمق درامي. وبالتالي لقيت نفسي بعد نص ساعه عاوز امشي من الملل، وحتي المناظر الضخمه (وكنت في عرض ثري دي فبالتالي الابهار البصري كان علي اشده) زهقتني بعد نص ساعه وجابت لي صداع. لكني عصرت علي نفسي ليمونه وقعدت للاخر علشان اقدر اكتب الكلمتين دول.

والحقيقه ان ما زادش علي شعوري بالملل من الفيلم الا غضبي واعتراضي العميق والمبدئي علي قرار وزير الثقافه بمنع عرض الفيلم في مصر.

اسباب اعتراضي علي قرار المنع كتيره، لكني هاكتفي بذكر خمسه اسباب.

اول سبب هو اني كنت متغاظ من اني باتفرج علي فيلم متصور جزء منه في مصر وبتدور احداثه عن مصر ولكنه ممنوع من العرض في مصر. متغاظ تحديدًا اني مش هاقدر اناقش الفيلم مع اصحابي في مصر علشان وزير الثقافه  قرر انه خايف عليهم من اللخبطه، فحمايه لقيمهم ومبادئهم، قرر يمنعهم من مشاهده الفيلم. وطبعًا كتير من اللي كتبوا ضد قرار المنع ركزوا علي تهافت مبدا الوصايه ده اللي وزاره الثقافه مصممه عليه وشكلها واخداه نبراس تهتدي بيه.

تاني سبب، وزي ما ناس تانيه كتبت، هو ان حكومتنا السنيه لسه فاكره ان الرقابه مجديه، وان بقرار إداري ممكن تحمي قيم الشعب ومبادئه. مش هاقول اننا في عصر الانترنت وانها كلها كام اسبوع والفيلم هيتعرض علي يوتيوب ونتفليكس والناس هتتداوله علي الدي في دي. اللي هاقوله ان الرقابه كممارسه عمرها ما نجحت (الا لو عاوزين مصر تبقي كوريا الشماليه، وده افتراض يبدو انه مش مستبعد تمامًا) مش بس في الافلام لكن حتي في الكتب.

ومعلش علشان الطبع يغلب، مضطر اجيب مثال من القرن التسعتاشر علي عدم جدوي الرقابه، من ناحيه علشان اوضح قد ايه الرقابه لها تاريخ طويل، ولكن من ناحيه تانيه، علشان اوضح قد ايه هي فاشله.

مفيش كام سنه بعد تاسيس مطبعه بولاق وبعد ما بقي عندنا سوق للكتب، الدوله بمؤسساتها المختلفه انتبهت لضروره مراقبه الكتب دي والتحكم في اللي الناس بتقراه. والاجراءات وقتها كانت زي اجراءات النهار ده تمام: الضبطيه (اللي هي البوليس)، او محافظه مصر (يعني محافظه القاهره)، بيصادروا كام نسخه من كتاب جديد ويبعثوهم للازهر علشان ياخدوا رايه. وبعدين مفتي الديار المصرية يدلي بدلوه في القضيه.

وكمثال تعالوا نقرا رد الشيخ العباسي المهدي، مفتي الديار المصريه لمده نص قرن (ابراهيم باشا عينه في المنصب ده في اكتوبر ١٨٤٨ واستمر فيه لحد ما مات سنه ١٨٩٧) علي طلب من المحافظه بتاريخ ٥ فبراير ١٨٦٩ مضمونه "حضره ناظر مطبعه بولاق ارسل خطابا يتضمن ان السيد عبد الله نور الدين يرغب طبع كتاب (شمس المعارف) للبوني علي ذمته، وبسبب ان الكتاب المذكور لم يسبق طبعه في المطبعه رام ناظر المطبعه المومي اليه مخاطبه حضره شيخ الجامع الازهر وحضرتكم (يعني حضره المفتي) ليعلم جواز طبعه من عدمه. وحضره شيخ الجامع (الازهر) افاد ان الكتاب المحكي عنه هو من خصائص الايات القرانيه واسرار الاسماء الالهيه، وهو كتاب روحاني ولا مانع من طبعه، فلزم اخبار حضرتكم لترد الافاده من حضرتكم لاجل اشعار حضره ناظر المطبعه كطلبه".

رد المفتي شيق وما يفرقش في منطقه كتير عن راي وزير الثقافه اليومين دول. "ان هذا الكتاب مشتمل علي ابواب من علم الحرف والسيميا والكيميا واستعمالات لاهلاك من يراد اهلاكه او هدم داره او عقد لسانه او حصول الكراهيه بينه وبين غيره وما اشبه ذلك، وفيه بعض امور تستلزم (يعني تحتوي) اهانه لبعض ايات قرانيه كان تكتب ايه كذا وتمحي بماء هري الحمام، وهذا كله من المحرمات بمقتضي ما هو منصوص عليه في كتب مذهب امامنا الاعظم ابي حنيفه رضي الله عنه، وطبعه يؤدي لكثره انتشاره والاشتغال به، فلا يخلو اما ان يترتب عليه اضاعه المال بلا فائده او اضرار بخلق الله تعالي وكلاهما غير سائغ شرعا، والله تعالي اعلم".

طبعًا الجهه اللي صادرت وقتها هي المفتي، انما النهار ده الاداره المركزيه للرقابه علي المصنفات السمعيه والبصريه بالتعاون مع وزاره الثقافه. لكن اللافت في النظر هو ان منطق الوصايه واحد. وكمان مزايده الجهات السلطويه علي بعض ما اتغيرتش، فزي ما المفتي زايد علي شيخ الجامع الازهر وقتها، وزير الثقافه النهار ده بيزايد علي الازهر وبيقول ان وزارته هي المعنيه بحمايه الشعب وبمنع الافكار المغلوطه من التسلل لعقليته. لكن الاهم من ده وده هو عدم ادراك الجهات الابويه دي ان الرقابه ما بتجديش: فكتاب (شمس المعارف) متداول من يومها، زيه زي فيلم (الخروج) اللي الناس حتلاقي مليون وسيله تتفرج عليه.

ثالثًا، الوزير اكد في بيانه الصحفي ان قرار المنع اتخذته لجنتين، الاولي مشكله من الاداره المركزيه للرقابه علي المصنفات السمعيه والبصريه وكانت لجنه ثلاثيه برئاسه مدير الاداره العامه للرقابه علي الافلام الاجنبيه. اما اللجنه التانيه فالوزير هو اللي شكلها وكانت برئاسه الدكتور محمد عفيفي وعضويه رئيس الرقابه د. عبد الستار فتحي، واثنين من اساتذه الاثار المصريه.

الوزير اكد في بيانه الصحفي "ان اسباب رفض الفيلم ليس من بينها سبب ديني واحد علي الاطلاق"، وان السبب الحقيقي هو ان الفيلم احتوي علي "مغالطات تاريخيه، (...) ويعطي صوره ذهنيه مزيفه وخاطئه ومغلوطه عن تاريخ مصر". ومن ضمن الامثله علي المغالطات التاريخيه اللي ذكرتها اللجنتين: ان "الفيلم يقدم صوره غايه في العنصريه ليهود موسي، فلم يقدمهم علي انهم الطبقه المستضعفه في مصر بل قدمهم علي انهم الطبقه القادره علي المقاومه المسلحه، فيقومون بتفجير السفن التجاريه ويحرقون بيوت المصريين ويجبرون الفرعون علي الخروج". وان الفيلم "اظهر  المصريين علي انهم متوحشون، يقتلون يهود موسي ويشنقونهم، وينكلون بهم ويمثلون بجثثهم في الشوارع، بصوره بشعه، وهذا يتنافي تاريخيا مع الحقائق التاريخيه، حيث ان المصريين القدماء لم يعرفوا عمليه الشنق وهذه الاحداث ليس لها اي سند تاريخي، فهذه المشاهد لم تحدث نهائيا ولم يثبت تاريخيا انها حدثت".

والحقيقه انا مستغرب من امثله عدم الدقه التاريخيه اللي اللجنتين ذكروها. فلو كنا بنتكلم عن الدقه التاريخيه، مش عن مدي تطابق الفيلم مع الروايه التوراتيه او القرانيه عن الخروج، فالمشكله الحقيقيه انه، تاريخيا وعلميا، ما فيش اي دليل علمي علي قصه الخروج برمتها. فسجلات التاريخ الفرعوني الغزيره والدقيقه ما فيهاش اي ذكر لوجود الاف العبيد الاجانب في مصر لمده عقود ان ما كانش قرون. وقصه شق البحر صعب ايجاد تفسير علمي ليها. والحفريات في سيناء ما اثبتتش وجود اي اثر للالاف من الرُحَّل اللي المفترض انهم عاشوا هناك لمده سنين طويله في التيه. مفيش ولا قطعه خزف واحده عليها نقوش كتابيه بالعبريه تدل علي تواجد بني اسرائيل في سيناء. ولا حتي الحفريات في فلسطين اثبتت نزوح عدد كبير من القبائل اللي المفروض كانت هربانه من مصر.

يعني باختصار، لو الموضوع موضوع امانه علميه، ولو صحيح ان سبب المنع ما لوش علاقه بالدين، يبقي كان لازم علي اللجنه انها تقول ان موضوع "الخروج" كله ما لوش علاقه بالتاريخ، انما احنا بنعترض علي الفيلم لانه مش ملتزم بنصوص الكتب المقدسه. في الحاله دي يبقي عداهم العيب، ولكن تيجي اللجنه تقول علي نفسها انها لجنه علميه تاريخيه وتؤكد علي انزعاجها من "فداحه المغالطات التاريخيه" اللي الفيلم وقع فيها وما تتساءلش عن الاصول التاريخيه لقصه الخروج من اساسها، يبقي الواحد من حقه يتساءل عن الاسباب الحقيقيه اللي خلت اللجنتين يوصوا بمنع الفيلم.

رابع الاسباب والحقيقه بيت القصيد هو حيثيات قرار المنع زي ما جاه في تقرير اللجنه الاولي. فاللجنه بعد مع عددت المغالطات التاريخيه اللي الفيلم وقع فيها ختمت تقريرها بالقول انه "مما سبق كنا نود ان نصرح بعرض هذا الفيلم انتصارا لحريه التعبير والابداع، الا ان هذا قد يؤدي الي تسريب تلك الافكار المغلوطه التي يبثها الفيلم، لجيل يستقي معظم معارفه وثقافته عبر تلك الافلام، والتي تضرب التاريخ المصري في مقتل، ولذلك توصي اللجنه برفض الفيلم، وعدم عرضه في دور العرض المصريه".

مشكلتي مع الكلام ده في الحقيقه مش في فكر الوصايه اللي بيتضمنه، انما مشكلتي تكمن في كلمه واحده، كلمه "الا" المحطوط تحتيها سطر في الفقره السابقه، واللي لو كانت اللجنه مقتنعه بالفعل بحريه الراي، كان المفروض تحل محلها كلمه "مع"، بحيث تكون الجمله كالتالي: "مما سبق كنا نود ان نصرح بعرض هذا الفيلم انتصارا لحريه التعبير والابداع، مع ان هذا قد يؤدي الي تسريب تلك الافكار المغلوطه التي يبثها الفيلم".

قصدي ان مبدا حريه الراي والتعبير ما لوش معني ولا لازمه لو كانت الافكار الوارده في الفيلم ما عليهاش خلاف، يعني لو كانت الافكار دي مُتفق عليها ومش صادمه. مبدا حريه الراي والتعبير له معني واهميه وضروره تحديدًا لما يكون الكلام اللي انا عاوز اعبر عنه صادم ومُختلف عليه وغير مالوف. لانه ببساطه لو اللي باقوله الناس موافقاني عليه فيبقي في الحاله دي ما فيش مشكله، ومبدا حريه الراي ما لوش لازمه من باب الاصل. اهميه مبدا حريه الراي والتعبير بتظهر لما الراي ـ سواء كان فيلم او مسرحيه او كتاب او شعر او عمل فني ـ يكون صادم بل ويمكن يؤذي مشاعر الناس ويلخبطهم ويشتتهم. طاب ليه ندافع عن راي مخالف؟ ليه نسمح بكلام يؤذي مشاعر الناس؟ ليه نقبل بعرض افلام ممكن تلخبط الشباب وتوصلهم افكار تشتتهم وتلخبطهم؟، الاجابه بسيطه وتتلخص في سببين، الاول هو ان هي دي الطريقه المثلي للنضج العقلي والسياسي. المواطن الصالح لازم تتربي عنده ملكه التفكير النقدي علشان يعرف ياخد قرارات ويتولي مسئوليات، وبالتالي لازم تكون تحت ايده مش بس معلومات سليمه لكن برضه تفسيرات واراء مختلفه يمكن يكون بعضها متضارب وبعضها مشوش. المواطن الصالح بيبقي صالح تحديدًا لما بيعمل عقله ويفكر ويتناقش مع غيره وتكون المعلومات متوفره عنده دون رقابه ولا وصايه. السبب التاني هو ان التاريخ بيقول لينا ان ساعات الافكار السائده في المجتمع في وقت ما بتكون غلط، وان الفكره الجديده الصادمه، غير المالوفه، اللي الناس مستغرباها ومستهجناها ومخضوضه منها ساعات بيكون فيها الشفا، وتكون مفيده للمجتمع ككل مش بس لصاحبها اللي بيعبر عنها.

السبب الخامس اللي مخلّيني اعترض بشده علي قرار وزير الثقافه بمنع الفيلم مرتبط بالسبب الاخير. انا عارف ان في ناس هترد عليّ وتقول "يا عم انت مثالي. الكلام بتاعك ده عن المواطن الصالح ما ينفعش عندنا. احنا شعب مش جاهز للديمقراطيه ولا المجتمع هنا عنده استعداد لتقبل الفكره اللي انت بتقولها"، وممكن ناس تانيه تقول "الكلام اللي انت بتقوله ده كلام خطير. انت مش عارف اننا مستهدفين وفي قوي خارجيه كتيره بترعي مصالحها هنا وبتحاول تلعب بعقول اولادنا، وتشتتهم وتضعف انتماءهم للبلد". ردي علي الكلام ده هو اني سمعته وباسمعه في اعتي الدول الديمقراطيه واقدمها. انا عشت اكتر من خمسه وعشرين سنه في الغرب (انجلترا وامريكا) وعارف ان الكلام ده مطروح هناك برضه. وعارف انه من حين لاخر بتطلع اصوات تقول ان احيانا لازم نتخلي عن مبدا حريه الراي وخاصه وقت الحروب والازمات. وعارف برضه ان احيانا الاصوات دي بتنتصر وبتعرف تحط قيود علي حريه الراي، وخير مثال علي ده قانون مكافحه الارهاب الامريكي (الباتريوت اكت) اللي سمح للسلطات تتنصت علي مكالمات المواطنين وتتجسس عليهم ووضع قيود علي حريه الراي والصحافه.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل