المحتوى الرئيسى

«الوطن» تكشف فى تحقيق استقصائى: «مصائد الموت» فى محطات الكهرباء

12/25 11:15

اهلاً بكم في محطات الكهرباء، حيث تنتشر رائحه الموت فتقصف اعمار فنيين، وسط غياب الاهتمام باجراءات سلامه محطات الكهرباء، لتتحول الي مصائد للموت، حيث يقع مهندسون وفنيون ضحايا عدم الالتزام بخطوات الأمن الصناعي، الذي لا توجد لائحه خاصه به في وزاره الكهرباء، في ظل كشف عن غياب توقيع مسئولي الامن الصناعي عن اوامر الشغل اللازمه للعمل، في حادثه تسببت في وفاه اثنين واصابه 4، واستمرار عدم توقيعهم علي اوامر الشغل عقب الحادث. اهمال ادارات الامن الصناعي في تطبيق اجراءات السلامه اسفر عن مقتل 5 واصابه 20 وخساره تقدر بمليار و200 مليون جنيه في الفتره من 2012 وحتي 2014، وسط غياب الرقابه من وزاره الكهرباء والطاقه المكلفه بمعاقبه المسئولين، وتوفير السلامه للعاملين. «راجي» فني رحل، تاركاً خلفه «اسراء» و«شاكر» في انتظار عودته من العمل اليومي، ومصابين تعرضوا لخطر الموت دون تعويض مناسب وسط تخويفهم من الحديث للصحافه، وخمسيني صُعق علي سلم بسبب غياب عوامل الامن الخاصه بالامن الصناعي.

تتشوق تلميذه الابتدائي اسراء واخوها الاصغر شاكر لتلقف قبلته الصباحيه المعتاده. قبل خروجهما للمدرسه، يسبقهما الاب متوجهاً الي عمله في محطه الكهرباء بعد ان يطبع علي جبين كل منهما قبله بطعم ندي الصباح. يظل مذاقها العذب في فمه الي ان يعود من عمله المحفوف بالمخاطر بسبب التساهل في تطبيق لوائح الامن الصناعي في هذه المنشات. ويبقي احساس الحنان الابوي يسري في كيان الطفلين حتي يلتقيا بالاب مجدداً في المساء.

وفي يوم طال بهما الانتظار.. وتوالت صباحات ومساءات بارده دون حنان الاب وقبلاته. عرفا انه في المستشفي بعد اصابه عمل. كان ضمن فريق كلف بتوصيل كابل كهربي لميكروفونات النداء العالي في محطة كهرباء الكريمات. عمليه روتينيه قام بها الاب راجي محمد مراراً مع زملائه منذ التحق بالعمل في المحطه قبل 16 عاماً.

اثناء عمليه التوصيل سقط الكابل ليخترق حاجز محول كهربي علي مقربه ويحدث تماساً كهربائياً تسبب في انفجار مروع واندلاع حريق. وبعد عشره ايام في المستشفي طلب «راجي» رؤيه طفليه.. تراقص قلبا اسراء وشاكر فرحاً وبدا يسترجعان مذاق قبله الاب وهما يندفعان الي غرفته بالمستشفي. هنا جالت عيونهما في الغرفه وهما يقفان جامدين متسائلين امام الشخص الراقد علي الفراش وقد غابت ملامحه تحت طبقات دهان من المراهم.

وقف الطفلان وفي عيونهما صدمه واسئله كثيره. رنا الاب اليهما بنظره طويله.. واخيره.. وصعدت روحه الي بارئها في سبتمبر 2012.

هذه الماساه ليست الاولي وربما لن تكون الاخيره نتيجه الاهمال والتساهل في تطبيق اجراءات الامن الصناعي التي تحولت الي مجرد اجراءات تجميليه في محطات كهرباء باتت كانها «مصائد موت»، ووسط شبكات وتوصيلات واجهزه تحمل خطراً محدقاً بالعاملين في الشركه القابضه لكهرباء مصر، الذين يصل عددهم الي 70 الف موظف.

والمفاجاه التي تكشفها «الوطن» في هذا التحقيق الاستقصائي ان التقصير في تطبيق اجراءات الامن الصناعي في تلك المحطات تحول الي ما يشبه وضعاً ممنهجاً لا يحفز ادارات المتابعه والمراقبه والاجهزه الحكوميه المسئوله عن التاكد من اتباع تلك الاجراءات وتوافر الاجهزه الوقائيه.

محمد ابوشنب، المسئول عن العمال في محطه الكريمات، التابعه لشركه الوجه القبلي لإنتاج الكهرباء، يتذكر ماساه 29 اغسطس 2012، قائلاً: «لو كان الامن الصناعي موجود كان شال بلوه». واظهر تقرير النيابه والمستشفي ان الحروق الناتجه عن الحادث اودت بحياه المهندس محمد الهواري، وراجي محمد، فني شبكات المعلومات. كما اصيب اربعه عمال، فيما بلغت الخسائر الماديه نحو 200 الف جنيه (نحو 28100 دولار)، حسب تقديرات مسئولين بالشركه. تشترط انظمه العمل حصول اوامر الشغل التي تحدد المهمه والاجراءات الواجب مراعاتها في التنفيذ علي اعتماد من الامن الصناعي، وسط المخاطر في محطات الكهرباء. لكن اتضح ان امر الشغل في حادث الكريمات، الذي حصلت «الوطن» علي صوره منه، كان خالياً من توقيع مسئولي الامن الصناعي في المحطه.

وكان مديرو عموم التشغيل بمحطات التوليد التابعه للشركه قرروا يوم الاحد 16 نوفمبر 2008 انه لتنفيذ مهام الصيانه يجب اصدار امر شغل يتضمن (اسم الوحده - اسم المعده - رقم المعده - خطوات العزل للوحده موضع العمل) بمعرفه مهندس الصيانه واعتماده من مدير عام الصيانه. ويتولي مهندس الصيانه بعدئذ اجراءات استخراج امر الشغل ومراجعه اجراءات العزل وتامين المعدات مع مهندس الورديه ومهندس الامن الصناعي مع ابداء اي ملاحظات عليه اذا وجدت واضافتها. وتم الاتفاق في الاجتماع علي انه لا يمكن البدء في اي اعمال في المحطه دون استيفاء توقيعات امر الشغل لحمايه العاملين علي المعدات داخل المحطات. لكن «الوطن» حصلت علي نسخه من امر الشغل رقم 4133 الخاص بحادث الكريمات، وتبين انه لم يستوف التعليمات التي اتفق عليها في اجتماع مديري التشغيل في 2008، اذ لم يوقع مدير عام الصيانه المختص، هاني محمد علي، علي امر الشغل الذي لم يتضمن ايضاً توقيع مسئول الامن الصناعي. كما لم تحدد اي بنود للعزل والمواد التي من المفترض ان يستخدمها العاملون. وكشفت «الوطن» ان اوامر شغل تلت الحادثه باكثر من شهر لم تتضمن كذلك توقيع مسئول الامن الصناعي علي تصريح الشغل، ولم تحدد اي بنود للعزل، فيما يكشف استمرار مسلسل الاهمال. مسئول كبير في السلامه المهنيه بالشركه القابضه يقول ان لائحه الجزاءات تعاقب علي عدم توقيع امر الشغل بخصم يتراوح بين ثلاثه وعشره ايام. لكن «الوطن» اكتشفت ان المهندس هاني محمد علي، الذي لم يوقع علي امر شغل الحادثه في خانه مدير عام الصيانه المختص، رقي ليصبح مديراً عاماً للصيانه بقطاع نظم المعلومات، الذي وقع فيه الحادث. وتم تجديد عقده في يوليو 2014 رغم انه حين كان مديراً لاداره الحاسب الالي بقطاع النظم عام 2010 تعرض لثلاثه جزاءات اخري.

اما فتحي محمد عبدالهادي، رئيس قطاع النظم والاتصالات، وصاحب فكره توصيل الكابلات هوائياً، التي ادت لوفاه اثنين واصابه اربعه، فاسند اليه منصب رئيس قطاع محطه الوليديه في اسيوط التي تنتج 600 ميجا وات. وتمت ترقيته حديثاً، ليصبح نائباً لرئيس شركه الوجه القبلي لانتاج الكهرباء، التي تتبعها محطه الكريمات.

وحين توجه معد التحقيق للقاء المهندس هاني في مقر محطه الكريمات استقبله بجفاء ورفض اجراء اي حديث معه او مع اي من العمال الذين اصيبوا في الحادث. ووصف الحادثه بانها «عاديه»، وتساءل مستنكراً: «ايه يعني اتنين ماتوا؟»، واعتبر العلاقه بين المصابين والشركه مثل علاقه الابن والاب ولا يجوز لصحفي التدخل فيها. ويري العامل ان الامن الصناعي دائماً ما يتم الصاق كل الحوادث به، رغم ان «التهاون ياتي من رؤساء القطاعات ورؤساء مجالس الاداره، اذ لا يلتفتون الي اوامر الشغل، ويتغاضون عن مراجعتها بشكل مستمر حتي تسير الاعمال بشكل اسرع». ويري المصدر انهم «لو اهتموا بالامن الصناعي حيترفدوا، عشان الشغل حيتاخر، وده القياده مش حبّاه»، فيما يؤشر الي تزايد التساهل في تطبيق اجراءات السلامه في ظل الضغوط علي قطاع الكهرباء مع تكرار فترات انقطاع التيار الكهربي في انحاء البلاد.

ويشير الي ان الملابس الوقائيه من المخاطر لا تتوافر للعديد من المهندسين والفنيين الموجودين بمواقع العمل، بما يتعارض مع لوائح السلامه المهنيه في قانون العمل رقم 12 لسنه 2003.

من جانبه، يقول مسئول كبير عن السلامه والصحه المهنيه في شركه كهرباء الوجه القبلي التي تتبعها محطه الكريمات ان تجهيزات الوقايه قامت بدورها في حادث الكريمات وفصلت المحول تلقائياً والا كان الوضع تفاقم. مشكله هذا المحول انه من الطرازات القديمه ذات المجال المفتوح، حسبما يشرح المسئول. ويضيف قائلاً: «ولحين ربنا ما يسهل والبلد حالها يتعدل نغير مثل هذا المحول باخر معزول بالغاز الخامل سادس فلوريد الكبريت، الذي يمنع تعرض المحولات للانفجارات المتكرره».

ويري المسئول، الذي طلب عدم كشف هويته، ان للتكنولوجيا المتقدمه اضرارها وثمناً يدفعه الناس.. فالمحطات التي تزيد قدرتها علي 220 ميجاوات يجب ان يكون تبريد المحولات فيها عن طريق غاز الهيدروجين الذي يتميز بقدرته العاليه علي التبريد. ولتجنب تسرب غاز الهيدروجين من مساراته يقوم الامن الصناعي بعمل ما يسمي بـ«دائره عزل الزيت» التي توفر ضغطاً اعلي من ضغط الهيدروجين، وبالتالي تبقيه في مساراته المحدده. لكن حين يحدث تسريب في دائره العزل او انسداد في مواسيرها او غير ذلك من الاخطاء يتحرر الهيدروجين من مساراته ويتفاعل مع مركبات الهواء الجوي، ما يؤدي لحدوث انفجار وحرائق هائله مثلما حدث في محطه التبين يوم 27 اكتوبر 2012. واشار المسئول الي ان هذه التقنيه غير مستخدمه والغيت في عقود انشاء محطات كهرباء جديده في مصر مثل محطتي العين السخنه وجنوب حلوان.

ويقول مسئول السلامه والصحه المهنيه انه «لا يمكن انكار وجود قصور من جانب العنصر البشري، خاصه في مجال السلامه والصحه المهنيه». ويري ايضاً «ان امكانيات الحمايه المهنيه التي تشرف علي الامن الصناعي ضعيفه للغايه في حين ان اجراءات الامن الصناعي مكلفه والشركات بحكم انها تريد المكسب توفر من ميزانيه السلامه وهذا بالطبع خطا كبير».

ويقول انه «لا بد ان تكون اداره الامن الصناعي مستعده بخطط للطوارئ تشمل تشغيل اجهزه الاطفاء التلقائي، بالاضافه الي خطط للوقايه العاديه تتعلق بضمان استعداد المنشاه بصوره عامه من خلال نشر اجهزه الانذار المبكر علي صهاريج الوقود والتاكد من صلاحيتها، وايضاً الاستعداد الكامل باجهزه الاطفاء اليدويه لمكافحه الحرائق في بدايتها مع المتابعه والمرور المستمر للتاكد من عدم وجود اي مواد تساعد في اشتعال الحرائق والتخلص من المخلفات القابله للاشتعال مثل الصناديق الخشبيه التي تتخلف عن عمليات الصيانه او تركيب المعدات».

وراي معد التحقيق بعينه عمالاً في المحطات لا يهتمون بارتداء الخوذات الواقيه اثناء عملهم علي المعدات، كما ان بعضهم يدخل الي مناطق محظوره دون متابعه من مسئولي الامن الصناعي.

واكتفي رئيس الشركه القابضه لكهرباء مصر، المهندس جابر دسوقي مصطفي، التي تضم 16 شركه منها 6 شركات توليد وشركه نقل و9 شركات توزيع، بالرد حول عدم توقيع امر الشغل الصادر في حادث الكريمات والمهمات التي اعقبته بالقول: «ان التحقيقات ما تزال جاريه ولن يكون هناك اي تهاون». وبينما يؤكد ان «امر الشغل لا بد ان يستوفي جميع التوقيعات حتي يبدا العمل»، لا يستبعد «مصطفي» وجود «استسهال» من قبَل عاملين حين تكون اوامر الشغل كثيره. ويؤكد ان التحقيقات تجري علي اعلي مستوي وستكون هناك عقوبات رادعه وحساب للمسئولين مهما بلغت درجاتهم.

وسعي معد التحقيق لمعرفه نتائج التحقيقات في الحادث، لكن المهندس مصطفي لم يرد علي اتصالات متكرره طلباً للتعليق في هذا الشان رغم ان معد التحقيق بعث له عده رسائل علي هاتفه المحمول والبريد الالكتروني للشركه القابضه منذ يوم 20 اغسطس الماضي.

ويؤكد مسئول في السلامه المهنيه بالشركه ان العقوبات التي وقعت بعد التحقيق تراوحت بين جزاءات بخصم يوم او ثلاثه ايام بتهمه عدم اتباع اجراءات الامن الصناعي. ولم يكن المهندس هاني، رئيس القطاع، ضمن المعاقبين. واشار المسئول الي ان الاجراءات المقصوده تتمثل في عدم ارتداء العاملين الملابس الواقيه من الكهرباء او الحريق.

وفيما يتعلق بحادث محطه التبين القريبه من حلوان في اكتوبر 2012 الذي تقدر خسائره بنحو نصف مليار جنيه (نحو 71 مليون دولار)، يقول المهندس مصطفي: ان ما حدث في التبين «غير مسبوق علي المستوي الفني»، وعلي مدي 30 عاماً من وجوده في الشركه. ويضيف انه حدثت تداعيات غير متوقعه بدايه من الحريق الي كسر الريشه الخاصه بالتوربينه وصعوبه السيطره علي الامر.

لاجل هذا يدرس استشاريون والشركه المصنعه والفنيون ذوو الخبره في الوزاره اسباب ذلك الحادث، بحسب مصطفي، الذي ينفي «ان يكون الامن الصناعي اظهر تقصيراً في تعامله مع الحادث»، معتبراً ان «جهود السيطره علي الحريق تمت طبقاً للمواصفات العالميه». ويجادل «مصطفي» بان حريق محطه كهرباء طلخا بمحافظه الدقهليه في اكتوبر 2012 نجم بالاساس عن خطا بشري، حين فتح احد العاملين فلتر زيت لتغييره بشكل مغلوط. ورداً علي ذلك تم نقل رئيس القطاع ومدير عام الاجهزه المسئول عن الحادث، كما نقل العامل الذي قام بتغيير فلتر الزيت.

ويضيف «مصطفي» انه يجري اتخاذ اجراءات تصحيحيه اخري في محطه كهرباء طلخا وسائر المحطات التي وقعت فيها حوادث. ويؤكد ان 25% من العاملين بالوزاره يحصلون علي دورات اجباريه سنوياً في السلامه والصحه المهنيه. ويصل اجمالي عدد العاملين بالشركه القابضه لكهرباء مصر لنحو 70 الف موظف، بمن فيهم الاداريون، واياً كانت العقوبات التي تصدر فيما وقع من حوادث تبقي الاولويه لمراعاه اجراءات الوقايه كي لا تضيع ارواح اخري ويوقف الهدر.. ولا يفتقد اطفال مثل شاكر واسراء لمسات الابوه الحانيه.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل