المحتوى الرئيسى

قانون ليس كسائر القوانين جلال أمين

12/23 09:17

ما اشهر هذا القانون لدي الاقتصاديين. بل وحتي من لا درايه له بعلم الاقتصاد، ولا باي علم من العلوم، نسمع منه احيانا ما يدل علي انه يعرف هذا القانون حق المعرفه، حتي وان عبّر عنه بكلمات بسيطه وبدون اي مصطلحات. يقول لك هذا الشخص غير المتعلم، لكي يفسر ارتفاع اسعار السمك مثلا: «في هذا العيد يزيد اقبال الناس علي اكل السمك، والصيد قليل بسبب العواصف». هكذا يفسر لك الشخص البسيط ارتفاع الاسعار فاحوال العرض والطلب، دون ان يدري انه يعبر عن اهم قانون في علم الاقتصاد. كتب اقتصادي امريكي كبير «بول صامويلسون» مره انك «يمكن ان تحول ببغاء الي اقتصادي بان تعلمه كلمتين فقط: العرض والطلب». وتفسير ذلك بسيط. فالثمن هو اهم ظاهره يدرسها الاقتصاديون، والثمن يتحدد بهذين العاملين: العرض والطلب، يزيد الثمن اذا قل العرض او زاد الطلب. وينخفض الثمن اذا زاد العرض او قل الطلب. وهذه الحقيقه تنطبق حتي في مجتمع لا يستخدم النقود، فمادام هناك تبادل «ولو بطريق المقايضه» فان عدد ارغفه الخبز التي تحصل عليها مقابل عشر بيضات، يتحدد ايضا بالعرض والطلب، وكذلك ما يطلبه منك الحلاق من البيض او ارغفه الخبز، مقابل ان يقوم بقص شعرك. لابد اذن ان هذا القانون قد اكتُشف من قديم الزمان، سواء استخدم هذان اللفظان «العرض والطلب» او استُخدم غيرهما في التعبير عنه. واذكر فصلا قصيرا في كتاب ابن خلدون الشهير «المقدمه»، الذي كتبه في اواخر القرن الرابع عشر، وان كان له عنوان طويل هو «فصل في ان القائمين بامور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والامامه والخطابه والاذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب»، ويفسر ذلك بقله الطلب علي خدماتهم. ثم جاء ادم سميث، «في القرن الثامن عشر» فعبّر عن هذا القانون بصيغته الحديثه. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الاقتصاديون عن الكلام عنه. ولكن اقتصاديا شهيرا اخر «روبرت مالثوس» نشر كتابا مهما بعد كتاب ادم سميث بعشرين عاما، شرح فيه حقيقه اخري مهمه، تتعلق بزياده السكان، وفسرها ايضا بالعرض والطلب. فقال ان الاختلال بين العرض والطلب «اي المعروض من المواد الغذائيه بالمقارنه بعدد السكان» يمكن ان يترتب عليه بعض من اسوا الماسي الانسانيه: المجاعات والحروب والاوبئه. الا ان مالثوس خطا خطوه اخري مهمه، اذ بيّن انه، وان كان الطلب كثيرا ما يوجد العرض «اي ان احتياج الناس الي سلعه ما يؤدي الي العمل علي ايجادها » فان العلاقه العكسيه هي الاهم فيما يتعلق بزياده السكان. فزياده المواد الغذائيه تؤدي الي زياده السكان عن طريق ما تؤدي اليه من تخفيض الوفيات، بينما تؤدي ندره المواد الغذائيه الي العكس، اي الي انخفاض عدد السكان «عن طريق زياده عدد الوفيات». فكان ما يحدث هنا هو ان العرض هو الذي يوجد الطلب.

من المدهش في تاريخ العلم ان نظريه مالثوس في السكان تقدم لنا احد الامثله القليله جدا في هذا التاريخ، علي استفاده العلوم الطبيعيه من العلوم الاجتماعيه، بدلا من العكس، وهو الاكثر شيوعا. فقد جاء عالم الاحياء الشهير «تشارلس دارون» فنشر كتابه عن «اصل الانواع» بعد كتاب مالثوس بستين عاما، ليقدم تفسيره لما يطرا علي الكائنات الحيه من تطور، وتحولها من نوع الي اخر، فرد ذلك الي الصراع المستمر بين افراد اي نوع من هذه الانواع للحصول علي المواد اللازمه لاستمرار الحياه، او محاولتهم التكيف، والتاقلم مع ما يتوافر لهم من هذه المواد. فاذا بهذا الصراع او هذه المحاوله من جانب الكائن الحي للتكيف مع الطبيعه المحيطه به «وهو ما يمكن التعبير عنه ايضا فان المعروض في هذه الحاله هو الذي يحدد الطلب» هو ما يحدد في النهايه الصوره التي يتخذها تاريخ الحياه علي هذه الارض.

قال دارون بصراحه ان الذي الهمه الفكره عن تطور الكائنات الحيه، هو كتاب مالثوس عن السكان. «وان كان احد المؤرخين الكبار لعلم الاقتصاد يعتقد ان دارون كان في ذلك كريما اكثر من اللازم!». ولكن الذي يهمنا الان هو انه في كلتا النظريتين نظريه مالثوس في السكان، ونظريه دارون في النشوء والارتقاء، يقبع ذلك القانون الخطير المعروف باسم: «قانون العرض والطلب».

ما الذي يؤدي بي الي اثاره هذا الموضوع الغريب الان؟

غريب لا لقله اهميته بل لانه يبدو منبت الصله بما نحن فيه الان من مشكلات. ولكن الحقيقه ان الذي ساقني اليه هو التفكير في بعض مشكلاتنا الحاليه. فمنذ ايام قليله، نشرت مقالا «جريده الاهرام 22/12» عن قله جدوي اصدار قوانين جديده لعلاج بعض هذه المشكلات، وعن خطا الاعتقاد بان اصدار هذه القوانين سوف يصلح المعوج ويضع الامور في نصابها. اذ ان هذه القوانين كثيرا ما تصطدم بحقيقه راسخه ليس من السهل التغلب عليها. هذه الحقيقه هي ما يعبر عنه هذا القانون الشهير: «قانون العرض والطلب» فهذا القانون الشهير ليس كسائر القوانين فهو لا يصدر عن الحكومه او مجلس الشعب، بل قانون تسنه طبيعه الامور والسير الطبيعي للحياه، ولهذا فانه قد يعطل تطبيق اشد القوانين صرامه.

في فترات الحروب، تلجا بعض الحكومات في بلاد من اكثر البلاد التزاما بالمبادئ الراسماليه وحريه السوق، الي التدخل بوضع تسعيره جبريه لبعض السلع الضروريه والنادره «التي اصبحت نادره بسبب الحرب». فاذا بها تجد صعوبه في فرض التزام بعض الناس بها «مهما كانت درجه وطنيتهم وولائهم»، اذ تجد «السوق السوداء» قد ظهرت لبعض السلع، كتطبيق لقانون العرض والطلب.

وفي الشهور الاولي لثوره 23 يوليو 1952، اصدرت حكومه الثوره قانونا للاصلاح الزراعي يقضي بالاستيلاء علي الاراضي التي تزيد علي الحد الاقصي للملكيه، وتوزيعها علي المعدمين من الفلاحين، فتم تنفيذ هذا وذاك بالقوه ولكن ما لم تستطع الحكومه تنفيذه هو فرض حد ادبي للاجر الزراعي، اذ استحال تنفيذه طالما استمر عدد المتبطلين المستعدين لقبول اي اجر «وهذا هو جانب العرض» اكبر من الطلب عليهم، ولم تبدا مشكله انخفاض الاجر الزراعي في الانفراج حتي اوجدت فرصا جديده للعمل، بالتصنيع وبناء السد العالي. اظن اننا في مواجهه كثير من مشاكلنا الاقتصاديه والاجتماعيه الراهنه، علينا ان نتعلم الكفّ عن مناطحه قانون العرض والطلب.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل