المحتوى الرئيسى

اليوم.. مصر تحتفل بعيد العلم.. وروح حامد عمار حاضرة

12/13 09:39

تحتفل مصر اليوم السبت بعيد العلم وسط اهتمام واضح علي المستوي الرسمي بالعلاقه الوثيقه بين التعليم والبحث العلمي والثقافه، فيما ياتي هذا اليوم بعد ايام قليله من رحيل المفكر التربوي المصري الدكتور حامد عمار وهو احد الاباء الثقافيين المصريين المعاصرين وصاحب مقوله :''التعليم والثقافه والاعلام مثلث بناء البشر في اي مجتمع'' ولعل روحه حاضره في هذا اليوم بكل ما يعنيه من تجسيد لرؤاه الثقافيه.

وفيما يوصف الراحل العظيم الدكتور حامد عمار ''بشيخ التربويين المصريين''، فان الرجل كان مفكرا مصريا في مجاله وصاحب رؤي وطنيه بالدرجه الاولي اضافه لمناقب شخصيه يعرفها كل من اسعده الحظ بالاقتراب منه.

وحصل الدكتور حامد عمار ابن اسوان في اقصي الجنوب المصري علي درجه الدكتوراه من معهد لندن للتربيه عام 1952، فيما كان مسقط راسه في بلده ''سلوا'' الاسونيه في قلب اطروحه الدكتوراه التي اهتمت باشكاليه عدم تكافؤ فرص التعليم تعبيرا عن نهج تميز به وهو الانشغال والاشتغال علي القضايا المصريه والعربيه بمنظور نقدي وطني للواقع الاجتماعي من اجل البناء والتنميه المستدامه.

وراي استاذ اصول التربيه حامد عمار ان التعليم الجيد في مصر يعني ''ثقافه قويه وفاعله تسهم في بناء الحضاره العالميه''، كما ان هذا التعليم يعني تنميه اقتصاديه وبشريه تنتشلنا من هوه التخلف، معتبرا ان ''مشكلاتنا ترجع لعدم وجود نظام تعليمي فعال يسهم في بناء انسان مصري متحضر يعتمد العقل في حل مشاكله ولايعتد بالخرافه''.

وصاحب ''دراسات في التغير الحضاري والفكر التربوي''، او هذا الاب الثقافي المصري المعاصر في التربيه والاجتماع والتاريخ والتنميه البشريه كان يؤكد دوما علي اهميه مجانيه التعليم لانه اهتم علي وجه الخصوص بالفقراء، او ''ملح الارض المصريه'' من البشر الذين يعانون من ظروف اقتصاديه ليست بالمريحه او الميسره.

وحامد عمار هو صاحب الدراسات العميقه والثريه عن ''الشخصيه الفهلويه'' في سياق جهده المعرفي الثقافي الوطني لتحديد وتوصيف هذه الشخصيه التي كانت من اسباب الهزيمه في حرب الخامس من يونيو 1967 ولها ايضا اثارها المدمره في المجالين السياسي والاقتصادي حتي يمكن القول انه في طليعه من صاغوا هذا المفهوم في اطار دراسه علميه متكامله كان عنوانها ''التربيه والنمط الاجتماعي والشخصيه''.

فـ''الخصال الفهلويه'' تجعلنا عاجزين عن تقبل الحقيقه والواقع، لا وفقا لما تفرضه الظروف الحرجه من تصرف سريع وتضطرنا لاخفاء العيوب والفشل والنقائص كما ان من سماتها نزوعها الي الحماس المفاجيء والاقدام العنيف والاستهانه بالصعاب في اول الطريق ثم انطفاء وفتور الهمه عندما يتبين ''للفهلوي'' ان الامر يستدعي المثابره والجلد والعمل المنتظم الذي لا تظهر نتائجه الا ببطء وعلي شكل تراكمي، كما يوضح المفكر السوري صادق جلال العظم استنادا للمفهوم الذي صكه المفكر المصري حامد عمار بشان ''الشخصيه الفهلويه''.

ونال حامد عمار عن جداره واستحقاق جائزه النيل عام 2009 وقبلها كان قد حصل علي جائزه الدوله التقديريه في العلوم الاجتماعيه عام 1996، فيما لم يتوان عن التاكيد علي الحق في التعليم كحق اساسي من حقوق الانسان المصري وباعتبار ان التعليم يشكل ''نافذه الامل'' للعيش الكريم والتقدم.

ومن هنا لم يكن من الغريب ان تشارك رموز من كل الاطياف الوطنيه المصريه يتقدمهم رئيس الوزراء ابراهيم محلب في تقديم واجب العزاء مساء امس الاول ''الخميس'' في هذا المفكر التربوي المصري العظيم وصاحب السيره الذاتيه ''خطي اجتزناها'' التي تحدث فيها بكل الصراحه عن ظروف نشاته القاسيه جراء الظروف الاقتصاديه الصعبه وتغلبه علي هذه التحديات بالثقافه والعلم والتعليم.

ولعل الاكثر اهميه من القرار النبيل الذي اتخذه وزير التربية والتعليم الدكتور محمود ابو النصر باطلاق اسم حامد عمار علي اول مدرسه جديده يتم تجهيزها بكل من محافظه القاهره ومحافظه اسوان هو السعي الحثيث لتحقيق افكار ''صاحب دعوه التعليم للجميع'' تماما كدعوه الاب الثقافي المصري الجليل وعميد الادب العربي الدكتور طه حسين بان يكون التعليم في مصر كالماء والهواء.

واذا كان جل كتاب ''مستقبل الثقافه في مصر'' للدكتور طه حسين عن التعليم واهميه الإصلاح التعليمي، فان حاله التعليم في مصر لا يمكن ان ترضي الرجل الذي اراد ان يكون ''التعليم كالماء والهواء''، كما ان تلك الحاله ان استمرت لا يمكن ان تسمح بالحديث عن مستقبل مشرق للثقافه المصريه، كما انها لاترضي حامد عمار او اي مصري يري ان التعليم يشكل الرافعه الاساسيه لاي مشروع وطني مصري حقيقي.

وشانه شان عميد الادب العربي طه حسين كان الدكتور حامد عمار من كبار المدافعين عن حقوق المراه وفي مقدمتها الحق في التعليم وكان يري ان اتاحه التعليم الجيد هو الطريق للنهضه الحقه فيما تاسس فكرهما علي العقلانيه والحريه والنزعه الانسانيه والنظره المستقبليه واكدا دوما علي ان العلم لا يزدهر الا في مجتمع حر كما ان العدل لا يكتمل الا بالجانب المعرفي.

فابن قريه ''سلوا'' لا يختلف عن طه حسين ابن قريه ''الكيلو'' في صعيد مصر كنموذج للمثقف المهموم باحوال مجتمعه والساعي دوما لتشخيص وجيعه مصر، فيما لم يتنازل ابدا عن ايمانه الراسخ بقيم الحريه والديمقراطيه والعداله الاجتماعيه ودعوته للدوله المدنيه الحديثه التي تعلي من مكانه العلم باعتباره السبيل لارساء دعائم الحداثه.

وفيما تحتفل مصر اليوم بعيد العلم اكد الرئيس عبد الفتاح السيسي علي ان الوطن لن يتقدم الا بالعلم، فيما كان قد شدد علي الدور الرئيسي للشباب في تطوير التعليم والبحث العلمي والصناعه لافتا في سياق لقاء عقده مؤخرا مع اعضاء ''اكاديميه الشباب المصريه للعلوم'' الي ضروره ان ''تقترن القدره علي التفكير والابداع بالاراده اللازمه لتنفيذ الابتكارات علي ارض الواقع''.

كما اكد السيسي حرص الدوله علي ''صياغه استراتيجيه متكامله لتطوير التعليم كميا ونوعيا بالتوازي مع البحث العلمي''، منوها بافكار خلاقه مثل فتح مدرسه للمتفوقين علميا في كل محافظه ومضاعفه عدد المنح المقدمه للطلاب النابهين للدراسه في جامعات عالميه.

واوضح الدكتور محمود صقر رئيس اكاديميه البحث العلمي ان اكاديميه الشباب للعلوم تمثل احدي مبادرات اكاديميه البحث العلمي لتمكين شباب الباحثين، مشيرا الي ان اللقاء مع الرئيس عبد الفتاح السيسي تضمن عرض اراء وافكار لشباب الباحثين حول تنميه مفهوم التعليم الابداعي.

وكان الدكتور حامد عمار ينتقد دوما عدم تركيز برامج اغلب الاحزاب في مصر علي اولويه دور التعليم والبحث العلمي فيما تتطلبه التنميه والنهضه الثقافيه من تاسيس لمجتمع المعرفه، لافتا الي ان ''المعرفه العلميه من مقومات اي مجتمع ديمقراطي''.

واذا كانت الحريه هي الصيحه الغاليه التي هتف بها المصريون في ثورتهم الشعبيه المجيده بموجتيها في الخامس والعشرين من يناير 2011 و30 يونيو 2013 فان حريه الابداع والبحث العلمي واصلاح التعليم تبدو الان مطلبا للشعب والحكومه معا وموضع اجماع وطني يتطلع لبناء مصر الجديدة بيد الابداع وسلطه العمل والابتكار لاسلطه الاحتكار والاستئثار.

وفيما اعرب العديد من المثقفين المصريين عن شعور بالارتياح حيال فعاليات الموسم الثقافي والفني التي كانت قد بدات في قاعه المحاضرات الكبري بجامعه القاهره، اكد رئيس الوزراء المهندس ابراهيم محلب علي ان حكومته تسعي لمستقبل افضل يتناسب مع ثورتين عظيمتين شارك شباب مصر في صنعهما.

وكما يقول الشاعر والكاتب فاروق جويده فان الجامعات كانت ''اكثر المناطق التي تعرضت لعمليات تخريب منظمه وجاء الوقت لانقاذ اجيالنا الجديده من هذه المحنه حيث لا ثقافه ولا سياسه ولا تعليم'' .

ويري جويده ان الانشطه الثقافيه يمكن ان تكون بدايه لخروج اعداد كبيره من الشباب من متاهات الفكر المتطرف، مؤكدا انه ''واجبنا جميعا ان نعالج جوانب القصور الفكري والثقافي والسياسي في جامعاتنا''.

فالانسان ينتج الثقافه بقدر ما هو نتاج الثقافه وفي هذه المعادله التفاعليه لا يمكن غض النظر عن اهميه عنصر التعليم، كما ان ثمه حاجه للتساؤل عما اذا كانت المناهج التعليميه الحاليه تتسق مع الديمقراطيه ام تشكل عائقا امامها كما يذهب البعض من الباحثين.

ولعل الحاجه تدعو بالحاح ''لتدشين مدرسه عربيه في التربيه والتعليم بمقاربات ونظريات ومصطلحات عربيه والخروج من حاله التبعيه المزريه لعالم الشمال في هذا المجال الذي يدخل في صلب عمليه التنشئه والتكوين للانسان العربي''، وهي بالتاكيد مهمه ليست بالسهله وتتطلب درجه عاليه من التراكم البحثي والخبرات العمليه والتوجه الديمقراطي الاصيل.

فمع التسليم بالمشترك الانساني واهميه الانفتاح علي كل التجارب الناجحه في العالم لا يمكن التعويل بصوره كامله علي ادوات بحث ونظريات ومناهج ومقاربات اجنبيه في مجال التربيه والتعليم لان كل ذلك نتاج ثقافه وبيئه وهويه ليست هي الثقافه والبيئه والهويه العربيه.

واذا كان المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري قد نبه مرارا لاهميه توخي الحذر عند التعامل مع المفاهيم الاجنبيه المراد نقلها للواقع العربي والتعرف عن قرب علي تاريخ المفهوم المراد نقله والنظر في كيفيه اعاده استنبات هذا المفهوم في المرجعيه المراد نقله اليها، فان ظاهره ترجمه المفاهيم في مجال التربيه والتعليم دون معرفه خصوصيه بيئتها امر خطير بكل المقاييس.

ومن هنا ابتكر عابد الجابري مصطلح ''تبيئه المفاهيم'' الذي يعني المعرفه الوثيقه لكل مايتعلق بدقائق المفهوم المراد نقله من بيئه اجنبيه للبيئه العربيه ثم النظر في كيفيه اعاده استنبات هذا المفهوم عربيا وهي فكره تشكل احد الحلول الجاده للتوفيق بين ''عالميه العلوم وادواتها'' وبين ''خصوصيات الهويه والثقافه'' الي ان يحين الوقت لاستقلاليه تعتمد علي جهد بحثي عربي اصيل .

ومن نافله القول ان ذلك كله محكوم بمحددات اجتماعيه واقتصاديه وثقافيه ويشكل تحديا للعقل الثقافي المصري والعربي ويتطلب استجابات علي مستوي التحدي والبحث عن حل ناجع للمعضله في صوره ''ثقافه جديده للتربيه والتعليم'' لن تكون بعيده عن الثقافه العامه المرجوه للمجتمع.

وهذه الثقافه الجديده للتربيه والتعليم في المجتمع المصري والعربي علي وجه العموم لابد وان تعكس السمات التي تميز هذا المجتمع بقيمه ومعاييره ومعتقدته وموروثاته التاريخيه والحضاريه كما تتمتع بالقابليه الحداثيه وتميز بين الاستقلال البحثي المحمود وبين الانغلاق علي الذات المذموم دون ان تغفل عن اهميه التحول الديمقراطي في المجال التربوي-التعليمي.

واذا كان الراحل العظيم الدكتور حامد عمار قد لعب دورا كبيرا في تاسيس المركز الدولي لتنميه المجتمع ومحو الاميه في العالم العربي بسرس الليان في محافظه المنوفيه، فان قال الدكتور عبد الله محارب مدير عام المنظمه العربيه للتربيه والثقافه والعلوم ''الالكسو'' قد تطرق لاوضاع التعليم في العالم العربي بقوله :اننا يجب ان ندق ناقوس الخطر كون المنظومه التعليميه في بلادنا في تراجع ومخرجاتها تضعف سنه بعد سنه.

واضاف محارب: لابد ان نضع قضيه التعليم علي راس اولوياتنا وان نحاول ان نركز في تجويده ووضع مشاريع محدده ليتم نقلها من الميدان النظري الي ميدان العمل نفسه ''ونتمني وجود اراده سياسيه من الدول العربيه للاهتمام بهذه القضيه.

ونوه المدير العام للالكسو بان التقدم لن يتم الا بالتعليم الجيد ''والتعليم لن يكون اداه فعاله من ادوات التقدم والتنميه الا اذا اتصف بمواصفات معينه تربط بين بنيته ومحتواه وسياسه القبول فيه غير ان الرقم الذي اعلنه حول تقديرات ''الالكسو'' لعدد الاميين في الدول العربيه والذي يتجاوز 97 مليون امي ربما يثير الكثير من التاملات حول امكانيه حدوث تقدم حقيقي في زمن مابعد الحداثه مع وجود هذه الكتله الاميه الضخمه في الامه العربيه.

وفيما كان الطغيان معول تدمير للبحث العلمي بقدر مايقتل روح الباحث فان المصريين شعروا بالاسي العميق وهم يطالعون انباء محزنه توالت في ظل النظامين السابقين عن خروج جامعاتهم من القوائم العالميه السنويه لافضل الجامعات وبدت نفوسهم تذهب حسرات مع التردي الواضح في التعليم .

ومنذ ثوره 25 يناير- 30 يونيو توالت تصريحات لمسؤولين في الحكومات المتعاقبه بمصر تؤكد علي ان التعليم سيحظي بالاولويه خلال المرحله المقبله باعتباره مطلبا اساسيا للثوره وتنوه بانه سيتم وضع معايير محدده للنهوض بمستوي معيشه المعلمين واعضاء هيئات التدريس بالجامعات وتطوير المناهج التعليميه بما يتناسب مع مرحله مابعد الثوره.

وقبيل ثوره 25 يناير كان الجهاز المركزي للمحاسبات قد ابدي انزعاجه من خروج مصر من قائمه افضل الجامعات وافضل البحوث العلميه وفي المقابل فان 47 بحثا من جامعات ومعاهد اسرائيليه حصلت علي امتياز تاكيدا للظاهره الملحوظه في الاعوام الاخيره وهي حضور جامعات ومعاهد اسرائيليه في القوائم العالميه لاافضل الجامعات والمعاهد العليا وغياب الجامعات والمعاهد العليا المصريه بل والعربيه ككل عن هذه القوائم.

ويري الدكتور عبد الله محارب ان من اهم معوقات البحث العلمي العربي ''الافتقار الي سياسه محدده وواضحه في كثير من الدول العربيه او بقاء هذه السياسات علي الورق الامر الذي ادي الي تغيب هذا القطاع او جعله هامشيا وجعل اسهامه في التنميه الاقتصاديه والاجتماعيه يكاد يكون منعدما''.

واضاف ''ولذلك فان هذا القطاع غير قادر علي تاديه دوره لضعف الموارد وضبابيه توجهاته وعدم استقلاليته وعدم تحديث هياكله ونظمه'' داعيا لتطوير مقومات البحث العلمي عن طريق الدعم المالي وتوفر الاطر العلميه المؤهله ووجود الوسائل اللازمه لتطبيق نتائج البحث العلمي وتطوير نظمه الاداريه مع دعم تكامل البحث العلمي العربي.

ومن المثير للتامل هذا الاهتمام غير العادي حقا في الغرب بقضايا التعليم والجامعات وكل هذا الزخم من الكتابات وفي الاونه الاخيره صدرت عده كتب تتناول اوضاع الجامعات في الولايات المتحده مثلا ومنها كتاب : ''حطموا البوابات..مواجهه التقسيم الطبقي في التعليم الأمريكي'' بقلم بيتر ساكس وكتاب ''اداره رائده للحافظه الماليه..توجه غير تقليدي للاستثمار المؤسسي'' وهو من تاليف دافيد سوينسن ويتناول في طبعه جديده ومزيده ومنقحه اداره الوقفيات لصالح الجامعات الامريكيه مركزا علي نموذج جامعه ييل في مواجهه الازمه الماليه.

انها الوقفيات التي لها مكانتها العزيزه في الابداع الاقتصادي الاسلامي واصوله..فالاقتصاد الوقفي يشكل احد اهم مرتكزات التمويل للجامعات الامريكيه حتي ان جامعه هارفارد تغطي مايربو علي ثلث الاعتمادات الماليه للموازنه السنويه والمقدره بنحو ثلاثه مليارات ونصف المليار دولار من عائدات وقفيتها التي تعد الاكبر علي مستوي الجامعات في الولايات المتحده وبعدها تاتي وقفيه جامعه ييل ثم وقفيه جامعه ستانفورد.

ومع ظهور وتشكل ماعرف بالجامعات الحديثه في اواخر القرن التاسع عشر بالولايات المتحده-لم يعد اساتذه الجامعات والباحثين في مختلف المجالات الاكاديميه يكتفون بالتدريس والبحث وانما انخرطوا بفعاليه في قضايا الشان العام ليدلوا بدلوهم فيها مرتكزين علي خبراتهم العلميه لتقديم مايفيد المجتمع ككل والمساعده فيما يسمي ''بعمليه الفحص والتمحيص وغربله كل الاراء والاجتهادات'' مع الاقرار بانهم ليسوا معصومين من الخطا والتسليم بان احدا لايمكنه ادعاء احتكار الصواب .

وكما يقول الكاتب انتوني جرافتون فان قواعد اللعبه الديمقراطيه اقتضت ان يقبل اساتذه الجامعات في غمار مشاركتهم في قضايا الشان العام المعارضه لارائهم بل وهدير الغضب من جانب الراي العام مادامت القضايا التي يدلون بدلوهم فيها تدخل في مجال الشان العام بعيدا عن دائره التخصص العلمي.

وفي سياق الاهتمام المستمر بقضايا الجامعات كشان مجتمعي امريكي- صدر لميتشيل ستيفنز كتاب بعنوان :''صنع طبقه..الالتحاق بالجامعات وتعليم النخب'' فيما اشترك مايكل ماكفيرسون وساندي باوم مع اخرين في وضع كتاب بعنوان:''الوفاء بالالتزام..توصيات مختصره لاصلاح دعم التعليم الفيدرالي'' وهاهو كتاب اخر لجين ويلمان بالاشتراك مع مؤلفين اخرين وعنوانه:''انماط الانفاق علي التعليم العالي..من اين تاتي الاموال واين تذهب؟''.

ويبدو المنظور النقدي حاضرا دائما في هذه الكتب والكتابات عن التعليم وهناك كاتب مثل اندرو ديلبانكو يري ان الجامعات تعاني من مشاكل ومتاعب في ظل الازمه الماليه والاقتصاديه العالميه لتي انفجرت منذ عام 2008رغم الوقفيات الهائله للجامعات في الغرب حتي ان وقفيه جامعه هارفارد الامريكيه كانت تصل قبل هذه الازمه الي 40 مليار دولار.

والمثير للاهتمام ان خريجي هذه الجامعه الشهيره تلقوا رسائل عبر البريد الالكتروني تحثهم علي مسانده جامعتهم حتي تعبر بامان الامواج العاتيه للازمه الاقتصاديه والتي سببت عجزا لجامعه هارفارد يقدر بمئات الملايين من الدولارات.

فقراءه واقع الجامعات الامريكيه تفيد بان خريجي هذه الجامعات يشكلون احد مصادر تمويلها عبر تبرعاتهم السنويه للجامعات التي تخرجوا منها وفي تجسيد رائع لقيمه الوفاء والولاء..ولعل مايثير الاعجاب ان المجتمع الامريكي سعي بمرونه وجديه لتقليص الاثار السلبيه للازمه الماليه-الاقتصاديه علي الجامعات وهي االازمه التي تفيد تقديرات معلنه انها كبدت وقفيات الجامعات الكبري في الولايات المتحده خسائر تتراوح مابين العشرين والخمسين في المائه من اصول هذه الوقفيات.

غير ان المجتمع الامريكي مضي عبر جدليه المثقف ورجل الشارع ومن خلال كتابات متعدده في الاجابه علي السؤال الكبير والمركب والمؤرق لهذا المجتمع:''ماالذي تعنيه الازمه الماليه بالنسبه للجامعات الامريكيه وكيف ننقذ هذه الجامعات باعتبارها ثروه للمجتمع كله بقدر ماهي عنوان راس المال الرمزي لامريكا ولانسمح بتهديد المعايير الاكاديميه او التراجع عن المركز الاول الذي تحتله جامعاتنا علي مستوي العالم''؟

وحتي فيما يسمي بالجامعات الخاصه في امريكا فان العداله الاجتماعيه حاضره فالطلاب الذين ينتمون للشرائح الميسوره يدفعون رسوما اكبر من زملائهم المنتمين للشرائح المحدوده الدخل وفي كل الاحوال فان المساله ليست تجاره لان الرسوم السنويه التي يدفعها الطالب المنتمي للشرائح الثريه لاتغطي بالكاد سوي ثلثي تكاليف تعليمه الجامعي ومن ثم فهذه الجامعات مدعومه بصوره او اخري من الدوله والمجتمع الذي بلغ من الوعي حدا لايسمح بتحويل التعليم الي ممارسات عشوائيه او ''سداح مداح''!

ويحذر بيتر ساكس في كتابه الجديد ''حطموا البوابات'' وهو كتاب غني بالمعلومات بقدر ماينطلق من نظره نقديه من ظاهره انخفاض التمويل علي مستوي الولايه في امريكا للجامعات العامه في الولايات مثلما يحدث في جامعه ويسكونسين التي تعاني رغم ما يسمي بالتقاليد التقدميه الطويله الامد في هذه الولايه من انخفاض تدريجي في الدعم المالي وهو ماتتعرض له ايضا جامعه فيرجينيا رغم ان الازمه الماليه الراهنه تزيد من عدد الطلاب الراغبين في الالتحاق بهذه الجامعات بدلا من الجامعات الخاصه .

واللافت للنظر هذا الاقبال الكبير في سياق الازمه الماليه الاخيره علي كليات المجتمع في الولايات المتحده والتي من المفترض ان معاهد اعداد الفنيين في مصر تشبهها او تقوم علي نفس فكرتها وفلسفتها وان كانت هذه المعاهد المصريه تبدو في ازمه مستعصيه تحول دون ان تاتي بالثمار التي كانت مرجوه منها مع ان حتي الكبار في المجتمع الامريكي ممن تجاوزوا سن التعليم النظامي يلتحقون ببرامج مسائيه في تلك الكليات بغرض ''اعاده التدريب واكتساب المزيد من المهارات اللازمه للفوز بوظائف مطلوبه في سوق العمل''.

والمتامل للتجربه الامريكيه المتفوقه في التعليم يخرج بانطباع فحواه ان هذا التفوق وليد فلسفه تمزج مابين المال العام والمال الخاص ببراعه في تمويل الجامعات ومقننه بحكم تاريخي للقضاء الامريكي في بدايات تكوين الاتحاد الفيدرالي قضي بامكانيه اسهام المال العام في تمويل الجامعات وكان الحكم يتعلق بجامعه هارفارد لكنه بات يشكل سابقه استفادت منها جامعات امريكيه اخري في مجتمع قيل الكثير عن تقديسه للمبادره الخاصه وارتكازه علي القطاع الخاص ورجال الاعمال.

ولقد قالها الرئيس الامريكي جون ادامز منذ اكثر من 225 عاما :''علي الشعب باكمله ان يتعلم باكمله وان يكون مستعدا للنهوض بتكاليف هذا التعليم''..وحتي في ذروه حكم المحافظين الجدد للولايات المتحده وفي ظل اداره الرئيس السابق جورج بوش تدخلت السلطه الفيدراليه لضمان العداله التعليميه وتكافوء الفرص بعد ان اصدرت لجنه استشاريه فيدراليه تقريرا في عام 2002بعنوان ''وعود فارغه'' رصدت فيه جمله حقائق من اهمها ان الحواجز الماليه تحول دون التحاق نحو 400 الف طالب امريكي بالجامعات التي يرغبون في دخولها وتؤهلهم قدراتهم لذلك لولا انتمائهم لشرائح محدوده الدخل.

ومن ثم فقد نادي بعض الاكاديميين الامريكيين البارزين مثل ويليام براون الرئيس السابق لجامعه برينستون بضروره اقرار مبدا التمييز الايجابي لصالح محدودي الدخل عند الالتحاق بالجامعات تماما مثلما يطبق هذا المبدا علي المنتمين لبعض الاقليات والموهوبين في الالعاب الرياضيه والهدف في الحقيقه هو الحد من التشرذم الطبقي في التعليم والحيلوله دون حرمان الموهوبين من فرص التعليم العالي بسبب ظروفهم الاقتصاديه غير المواتيه .

فالامريكيون يدركون بالفعل وبعيدا عن الشعارات ان التعليم قضيه امن قومي ..ويبدو جليا ان الرئيس الامريكي باراك اوباما هو نتاج اصيل لنظام تعليمي لم يهدر ابدا العداله وتكافوء الفرص في دوله تقود الراسماليه في العالم لكنها تعي ان التعليم هو الذي يمنحها صك الامتياز لقياده الراسماليه العالميه.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل