المحتوى الرئيسى

ياسوناري كاواباتا.. عملاق حلَّق مع سرب طيور بيضاء

12/02 18:40

فتيات صغيرات، مراهقات يانعات، عاريات، نائمات تحت لحاف سميك، يدفئ أطرافهن المثلجة بفعل البرد، عقولهن أسيرة مخدر يلقيهن في غيابة النوم عميقة الغور.. غارقات في أحلام غامضة لا يعرف عنها العجوز "إيجوتشي" شيئًا، وهو يقبع ليلة بعد ليلة بجوار فتاة منهن، مجترًا ذكريات شباب خبا بريقه، وعهدًا من البهجة طال أمد فراقه.

في هذه الأجواء الغريبة التي لم تخل من أسى ساحر، نسج الياباني العظيم ياسوناري كاواباتا خيوط روايته البديعة "الجميلات النائمات"، تلك الرواية التي قال عنها جابرييل جارثيا ماركيث إنها العمل الأدبي الوحيد الذي ودَّ لو كان هو من كتبه، وكانت بذرة ألهمته بروايته المميزة "ذكريات غانياتي الحزينات".

وفي كل من "الجميلات النائمات"، و"ذكريات غانياتي الحزينات"، تخيم على سطور الروايتين أجواء الشيخوخة الخاوية من البهجة، فيجاهد البطل لاسترداد بعضًا من ذكريات عهد الشباب السعيد، وما فيه من نزوات ومغامرات، وخفقات قلب ضخت فيه الحياة ذات يوم.

في 14 يونيو 1899، أبصر كاواباتا النور في المدينة اليابانية التاريخية أوساكا، وفقد والديه وهو بعد في الثانية من عمره، لتنتقل مسؤولية رعايته إلى جديه، بينما افترقت عنه أخته الكبرى وذهبت لتعيش في كنف عمتهما، وفي السابعة من عمره انتقلت جدته إلى العالم الآخر، وبعد سنوات ثلاث لحقت بها أخته التي لم يرها إلا مرة واحدة فقط منذ افترقا، وخيمت على حياة الصغير، المقدر له أن يصبح أحد أعمدة الأدب الياباني في المستقبل، ظلالًا كئيبة لأجنحة الموت وهي تضرب فوق رأسه، حاصدة أرواح أحبائه، ثم اكتملت المأساة برحيل الجد وهو بعد فتى في الخامسة عشر.

ومن كنف عائلة كاواباتا، إلى عائلة كورودا التي انحدرت منها أمه، انتقل الفتى ليعيش، ولعل انتقاله المستمر هذا كان أحد العوامل التي أظهرت شعورًا بالوحدة والتباعد في كتاباته، وكأن جدارًا يفصله عن الآخرين.. لا بد أن سنوات مراهقته لم تكن سهلة على الإطلاق، إلا أنه خاض حياته الدراسية بثبات، فاجتاز الثانوية، ومن ثمَّ انتقل إلى جامعة طوكيو الإمبراطورية، حيث تخصص في دراسة العلوم الإنسانية، وانطلق ليشق طريقه كمراسل صحفي، وجذب إليه انتباه العديد من الكتاب، في وقت كان العالم يتخبط فيه بعد حرب عالمية أولى طاحنة.

هل كانت الأجواء الكئيبة التي خيمت على العالم عقب الحرب واحدة من بذور الوجع التي انتثرت في روحه، جنبًا إلى جنب ندوب موت أحبابه؟ لا أحد يعرف، لم يخبر كاواباتا أحدًا بدواخل نفسه بوضوح، ولعل رواياته التي تتابعت في عُقد أدبيّ بديع، وشكّلت عامودًا أساسيًّا وراسخًا في الأدب الياباني، نقلت بعضًا من مشاعره الدفينة، والتي تخبطت ما بين الرقة والحزن والوحدة والموت والألم والخوف، فجاءت مجسدة للإنسانية في أكثر لحظاتها وهنًا وتوهجًا.

بعد سنوات من الدراسة الجامعية، واهتمام لافت بالأدب، لاسيما الياباني، تخرج كاواباتا في الجامعة الإمبراطورية، وبدأ مشواره الأدبي بقصته الأولى "راقصة آيزو"، ولم يكتف بما قوبلت به من حفاوة، فأخرج إلى النور صغيرته الثانية "بلد الثلج"، مجسدًا قصص حب أبطاله بشكل مختلف لفت إليه الأنظار، ورسّخ مكانة أعماله كأهم كلاسيكيات الأدب الياباني المعاصر.

نصب تذكاري لمحل ميلاد كاواباتا

ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، لتسحب العالم إلى بوتقة مشتعلة كالجحيم، انصهرت فيها أرواح ملايين البشر حول العالم، وتلقت فيه اليابان ضربة قاتلة ساحقة، بإسقاط القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجاساكي، ليعلن الإمبراطور نهاية الحرب، محطمًا أحلام شعبه.

كيف كان وقع كل هذا البؤس على نفسية أديبنا؟ كيف تفاعلت روحه مع الأسى الذي صبغ العالم؟ وكيف استقبل هزيمة وطنه؟ كانت الهزيمة، وما تبعها من احتلال غاشم، أمرًا بالغ القسوة بالنسبة إلى اليابانيين، كونهم شعب لم يعرف قط مذلة تدنيس أرضه عبر التاريخ، وكرهوا الأمريكيين أيما كراهية في أثناء الحرب، حتى أنهم كانوا يرونهم كشياطين مشوهة تعيث في الأرض فسادًا، وازداد الانطباع رسوخًا في أنفسهم والمجتمع يتعرض لاجتياح بالغ الوحشية من الجرائم، لعل أشهرها حالات الاغتصاب الألف التي وقعت بمحافظة كاناغاوا خلال أسبوع من دخول الأمريكيين إلى الأراضي اليابانية، وحالات النهب التي انتشرت كالنار في الهشيم، والجوع الذي بدأ ينهش أحشاء ملايين الأيتام والمشردين بعد الحرب، بخلاف عشرات آلاف من الضحايا الذين بدؤوا في التساقط في هوة الموت، تأثرًا بتوابع الانفجار النووي.

في تلك الفترة قال كاواباتا إنه لم يعد قادرًا على كتابة شيء إلا المراثي، إلا أن حسن الحظ جعل تلك كلمات حزينة عابرة، فتوالت إبداعاته العظيمة، كـ"صوت الجبل"، و"البحيرة"، و"سيد الغو" التي استقبلها البعض كرواية شبه خيالية مختلفة عن سائر أعماله، بينما تلقفها آخرون ليجدوا فيها رمزية ما لهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية.

في الأعوام التالية بذل كاواباتا جهده في تنشيط حركة ترجمة الأدب الياباني إلى اللغات الأخرى، وأهمها الإنجليزية بالطبع.. وراحت اليابان تتخبط في نير الاحتلال الأمريكي، وما تلاه من موجة تغريب بدأت تطيح بالقيم اليابانية الأصيلة، وتنتزع التقاليد العريقة التي صهرت الشعب في كيان واحد على مر العصور، بعد قرون من الانغلاق التام.

لم يخبرنا التاريخ عن موقف كاواباتا مما حدث في بلاده في تلك الفترة، ولكنه حفظ كتاباته التي توالت عامًا بعد عام.. "الجميلات النائمات"، و"العاصمة القديمة"، و"سرب طيور بيضاء" التي حازت لقب أفضل رواية عام 1952، بجانب القصص القصيرة التي كتب منها نحو 140 قصة مختلفة الأسلوب والتناول، متباينة المشاعر والأجواء، وكانت الفن الأدبي الذي فضله عن سواه، رغم ما تميز به من براعة كروائيّ، وفي عام 1965 نشر كاواباتا رواية "جمال وحزن"، التي قدر لها أن تكون آخر رواية كتبها، قبل أن يحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1968، كأول أديب ياباني ينال هذا الشرف، والذي استحقه عن جدارة لحساسية سرده، ودقة تعبيره عن جوهر العقل والوجدان الياباني، لاسيما في رواياته الثلاث "العاصمة القديمة"، و"بلد الثلج"، و"طيور الكركي الألف".

في نهاية الستينيات، كانت اليابان غارقة في موجة تأمرك حادة تغلي لها أوساط المثقفين، لعل أشهرهم الأديب الشاب يوكيو ميشيما، صديق كاواباتا الأثير وتلميذه، والذي ارتبط معه بعلاقة عميقة ووثيقة، حتى قاد انقلابًا عسكريًّا يعترض به على ما تنقاد إليه بلاده، وحالفه الفشل فانتحر على طريقة الساموراي العتيقة "الهاراكيري"، طاعنًا نفسه بسيف حاد أزهق روحه، ليترك في روح كاواباتا جرحًا غائرًا بفقده.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل