المحتوى الرئيسى

بطلة أرمنية مجهولة كمال رمزي

11/22 09:07

كلما بدات الكتابه عن فيلم «قطع» للمخرج الالماني، ذي الاصول التركيه، فاتح اكين، اعادتني الذاكره، بالحاح، الي تلك السيده التي التقيتها، منذ ما يقرب من نصف القرن، اكثر من مره، وحكت لي بصدق شفاف حكايتها التي يمتزج فيها الخاص بالعام، والبهجه بالقتامه، والياس بالامل.

ربما، كان الفيلم الذي يتعرض لمذبحه الارمن، عام 1915، علي يد العثمانيين، هو السبب في حضور صوره وقصه تلك السيده، علي نحو اقوي واعمق من العمل السينمائي المتميز، الذي نال عده جوائز، في مهرجانات دوليه.

في عام 1969، جاء تعيين: اخصائي فنون مسرحيه بمديريه شباب الدقهليه.. محافظه بالغه الضخامه، يقظه ومتفتحه، وقبل ذهابي الي المنصوره، العاصمه التي لا اقارب لي فيها، ولا اعرف احدا، نبهني صديق الي انسب لوكانده، بالنسبه لي، هي «لوكانده القاهره الصغري»، ذلك ان مبيت الليله فيها بعشرين قرشا، وحذرني من الذهاب للوكانده «القاهره الكبري»، المنشاه حديثا، والتي تتكلف الليله فيها جنيهين.

تنقلت، من لوكانده لاخري، الي ان استقر بي الترحال في بنسيون صغير، دافئ ومريح، خلف شارع السكه الجديده، مكون من ثلاث غرف فقط، تديره صاحبه البيت، اليونانيه، السبعينيه، البدينه، اللامعه الذكاء. تعرف طباعك ونمط حياتك منذ اليوم الاول. مع اليوم الثاني تحقق لك ما تعودت عليه.

تجلس عاده علي كرسي هزاز، بجوارها مذياع ضخم، انيق، من الطراز القديم، لا ينطق ولا يغني الا باللغه اليونانيه. من عاداتها الجميله، انها كل اسبوعين، تجميع سكان الحجرات الثلاث، لسهره اسريه حميمه، حول طبق بطاطا، او كيكه تصنعها بنفسها، او صينيه تمتلئ بالفول الحراتي.

لم يكن لصاحبه البنسيون اصدقاء، اللهم الا قله.. من بينهم سيده في مثل عمرها، تصطحب معها غلاما، فارق الشكل يلفت الانتباه، هي، ذات شكل اجنبي، لا يزال وجهها يلتمع باثار جمال غابر، ملامحها شديده الطيبه، تتطلع لك وكانها تريد ان تحدثك.. بينما الولد، شديد السمره، بتقاطيع مصريه تماما.. وعلي مدي عده سهرات، روت المراه قصتها.

فيما اذكر انها من مدينه صغيره بالقرب من «اضنه» التركيه، ولدت في بدايات القرن الماضي، ربما في عام 1905 او 1906.. لاحظت، وهي طفله، ان اجواء الوئام والطمانينه تبدلت في بلدتها، خاصه عقب زياره احد اعمامها، بعيون حمراء متورمه من شده البكاء، اخبرهم بان قريبهم، الطبيب الشهير في استانبول، تم اعدامه، مع اخرين من خيره الارمن، في ميدان عام.. لم تمر عده ايام حتي استيقظت الطفله، ليلا، علي اصوات صراخ واستغاثات. امرتها والدتها بالهرب الي الخارج.

اندفعت الي الشارع، رات الجنود يقودون طابورا من شباب الارمن، مكبلين بالحبال، ومجموعات من الحثاله، يقتحمون البيوت، يستولون علي كل ما تصل اليها اياديهم، بينما يهرب السكان، في اتجاه الشاطئ.

واصلت السيده سردها. اثارت دهشتي بوضوح بعض التفاصيل في ذاكرتها.. منها انها كانت تعدو بفرده حذاء واحده لان الثانيه انخلعت من قدمها، وان الصيادين، اصحاب المراكب، ياخذون كل شيء من الهاربين، قبل ركوب المراكب التي ستحملهم بعيدا عن المذبحه، ولسبب ما، احس احد الصيادين بالشفقه تجاه الطفله الوحيده، المرتعشه رعبا، فوافق علي اصطحابها، بلا مقابل.. هكذا، كما لو ان المرء لن يعدم قلبا رحيما، وسط الجحيم.

اتجهت المراكب الي البلدان المطله علي الابيض المتوسط، لبنان، سوريا، فلسطين ـ ايامها ـ مصر، قبرص، اليونان، حيث نزلت الطفله مع النازلين.. وهناك عملت خادمه عند اسره ميسوره الحال، وبعد عده ايام، اثناء غسل المواعين في المطبخ، سمعت صوتا، ليس غريبا عليها. انطلقت الي الشارع، فوجئت بان صاحب الصوت هو والدها، متسولا، بملابس مهترئه.. تعانقا، سالت الدموع. اخذته الي الاسره الطيبه التي عينته بستانيا للحديقه الصغيره.

قضت الطفله عده سنوات مع بنات الاسره، تخدمهن، تذاكر معهن، تشجعهن، وحصلت علي الشهاده الابتدائيه.. بدا الحظ يبتسم لها، متمثلا في ذلك الشاب الرقيق، الارمني، صاحب مصنع الحلوي بسوريا، الذي يزور الاسره اليونانيه، لعلاقات تجاريه، بانتظام.. خفق قلبه بحب الفتاه، طلب يدها.. الطريف، ملامح السيده، اثناء سرد حكايتها، تتباين، تكاد تجاعيد وجهها وعنقها تتلاشي، وتلتمع نظراتها بالنضاره والاشراق، حين تصل لمحطات السعاده، وها هي، بحذر وحماس، تفتح حقيبتها، لتخرج منها صورتين، تعرضهما علينا مبتسمه برقه لا تخلو من انتشاء. واحده لها، مع عريسها، تحت برج ايفل، تضع قبعه فرنسيه كبيره علي راسها، والثانيه مع شريك حياتها، عند سور نهر السين. اللون البني يصبغ الصورتين، علي طريقه «كروت بستال» الاربعينيات.

استجابه لاغراءات عده، انتقلت السيده مع زوجها الي مصر، بعد تصفيه اعماله في سوريا.

الاثنان، استقرا في المنصوره، وبيقين، تؤكد المراه ان «المنصوره»، باهلها، وبمياه النيل الدائمه التدفق في النهر العريض الذي تقع «طلخا» علي الجانب الاخر منه، وفرص العمل المتوافره في مجتمع ذراعي، صناعي، وجمال فيللاتها ذات الزجاج الملون، المعشق، لنوافذها، هي اجمل مكان في الدنيا، من وجهه نظرها، خاصه حين اكتشفت انها عامره بجاليه ارمينيه كبيره، شطر منها متواجد قبل المذابح، بل منذ ايام محمد علي «1805 ـ 1849»، الذي اسند لهم ارفع المناصب لما تميزوا به من مهاره واخلاص، فضلا عن قدره انسانيه علي التعامل والاندماج مع المصريين، حتي ان فنان الكاريكاتير «صاروخان»، الارمني، هو الذي ابتكر شخصيه المصري افندي.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل