داعش.. من الداخل | المصري اليوم

هذا ليس مقالًا للهجوم علي داعش وبيان عوراته الفكريه والسياسيه والفقهيه. فقد كُتب العشرات منها. ولم يعد العرب والمسلمون في حاجه الي زياده منها. فالتنظيم يقوي يوما بعد يوم. ويزداد عددا وعده. ويصبح هو العدو الاول بدلا من اسرائيل. وهو ليس ايضا دفاعا عنه فلا يوجد عاقل واحد يفعل ذلك الا اذا كان موتورا، مصابا نفسيا. بل هو تحليل من الداخل. لا هدف له الا فهم اسباب نشاته وتطوره. وبالقضاء فقط علي هذه الاسباب يمكن القضاء علي نتائجها بتجفيف منابعها. فالتعامل مع البذور افضل من الانتظار من اجل التعامل مع الثمار. ومعالجه الجذور خير من معالجه الفروع والاوراق.

ويعني التحليل من الداخل فهم البواعث والدوافع التي وراء ظهورها. فالظواهر السياسيه هي قبل كل شيء ظواهر اجتماعيه. والظواهر الاجتماعيه هي في احدي ساقيها ظواهر نفسيه. فالظواهر السياسيه هي اولا وقبل كل شيء ظواهر نفسيه اجتماعيه بل ثقافيه قبل ان تكون ظواهر اخلاقيه سياسيه. لها رصيدها في الوعي التاريخي الذي تتراكم فيه وتصبح بنيه له، تحدد رؤيته وسلوكه.

فالباعث الاعمق هو سقوط الخلافه في 1923 وضياع رمز وحده الامه والتي تعلق بها المسلمون من الصين الي المغرب. دافعت عن استقلال الجزائر ضد الغزو الفرنسي. كما دافعت عن استقلال الدول الاسلاميه في اواسط اسيا من الغزو الروسي اثناء الثوره البلشفيه في 1917. كانت بها عيوب ومساوئ، الاستبداد والفساد. واي من النظم السياسية المعاصره لها لم يكن بها عيوب مماثله؟ والتوحيد كعقيده اولي للمسلمين ينعكس في الوحده كنظام سياسي لهم. الله واحد، والامه واحده «وَاِلَهُكُمْ اِلَهٌ وَاحِد»، «اِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّهً وَاحِدَهً». الخلافه قلب الامه تحمي اطرافها، من المدينه الي دمشق الي بغداد الي استانبول. وارادها محمد علي الي القاهره، وكما فعل صلاح الدين اثناء الدوله الايوبيه. فقد تم احتلال البديل وهي الدوله الوطنيه، ممتلكات الرجل المريض. احتلت فرنسا دول المغرب العربي الثلاث والشام، سوريا ولبنان، وايطاليا ليبيا، وانجلترا مصر والسودان والعراق والاردن واليمن والخليج وعمان. ووضعت بينها حدودا مصطنعه. تقسم القبائل والعشائر والشعوب. وتنشب بين كل دولتين جارتين حروب اهليه، نزاعا علي الحدود مثل المغرب والجزائر، ومصر والسودان، وعمان والامارات، والكويت والسعوديه، والكويت والعراق. نشات الدول الوطنيه البديله علي النموذج الغربي دون ان تتمتع بشروطه، حريه المواطن وديمقراطيه الحكم. وبعد الاستقلال تحولت الي دول مستبده وفاسده مما استوجب الثورات العربيه الاخيره التي لم تنجح في القضاء علي الاستبداد العسكري او الديني والفساد والتجزئه.

ثم جاء البديل القومي في الخمسينيات والستينيات وبلغ الذروه في الجمهوريه العربيه المتحده بين مصر وسوريا او في الجمهوريات العربيه المتحده باضافه العراق والسودان او ليبيا. وبدات العروش تهتز حتي وقعت هزيمه 1967 ووفاه زعيمها. وتفككت عري الوحده. وانتهت قسمه الوطن العربي الي تقدمي ورجعي، اشتراكي وراسمالي. وبدا الاعتراف باسرائيل، والتحالف مع امريكا، والتخلي تدريجيا عن تدعيم المقاومه الفلسطينيه بل المشاركه في حصارها.

ثم بدا تفتيت الدوله الوطنيه ذاتها الي دويلات عرقيه وطائفيه ومذهبيه. تتقاتل فيما بينها. وتتغير حدود الدول الوطنيه. وتتبدل انتماءات المواطنين. وفي نفس الوقت تتجمع دول التحالف الغربي الامريكي بل العربي ضد هذا البديل الجديد. المسلم يقتل مسلما. والمسلم يساعد غير المسلم علي قتل المسلم.

ثم سقط البديل الاسلامي الديمقراطي في مصر. ولم يدم طويلا. وثار عليه الشعب. وايد الجيش الشعب. فقد حُكمت الدوله بعقليه الجماعه. ولم تستطع الجماعه ان تكون حاضنه لباقي التيارات السياسيه. وحكمت بعقليه الفرقه الوحيده الناجيه. والجماعه اقل عمقا في التاريخ من الدوله. ومصر دوله بلا شمال عبر سيناء، وجنوبا عبر نهر النيل، وغربا عبر المغرب العربي، وشرقا عبر شبه الجزيره العربيه التي اتي منها فتح مصر. والاسلام ايضا ثقافه بلا حدود. تقوم علي التوحيد والعدل، اصلي المعتزله. وما كان اسهل من تركيب احدهما علي الاخر دون ما حاجه الي الاقلال من الدوله لصالح العقيده، والاعلاء من شان العقيده علي حساب الدوله.

غاب الحكم الاسلامي الذي سقط بسقوط دوله الخلافه ولم يمكن استعادته من جديد لصالح البديل الوطني او القومي او الاسلامي في مصر. وغاب المثل الاعلي الذي يعبر عن وحده الامه والذي يبحث عنه الشباب فلم يجده الا في الهجره خارج الاوطان او في الايديولوجيات العلمانيه للتحديث، الليبراليه او الماركسيه او الناصريه. ولم يبق للمواطن في الداخل او للاوروبي في الخارج الا خيال الماضي او سحر الشرق، الفتوحات الاولي، والقضاء علي امبراطوريتي الفرس والروم، والسلاح والشهاده والهويه العربيه، الشعور والعادات ووضع النساء للجنس كسبايا وغنائم ورق ونكاح.

وهناك نهضات اسلاميه اخري ولكنها منقوصه، اما شيعيه في ايران او يزيديه في اليمن تستعمل السلاح. ونهضات سنيه في تركيا تتجاوز الثوره الكماليه القديمه وتعيد تركيا الي مجالها، الشرق، بعد ان لفظها الحليف الاوروبي الجديد. والاصلاح الديني العربي كبا عده مرات، من الافغاني الي محمد عبده لفشل الثوره العرابيه، ومن محمد عبده الي رشيد رضا بسبب الثوره الكماليه في تركيا، ومن رشيد رضا الي حسن البنا بسبب الصدام مع النظم العسكريه ودخول الاخوان الي المعتقلات منذ 1954 حتي الان. وهناك ظهور جديد للاسلام الاسيوي في ماليزيا واندونيسيا والجمهوريات الاسلاميه في اواسط اسيا، ولكن يصاحبه اضطهاد اخرين في سنكيانج في الصين، وفي ميانمار في بورما. والمقاومه الفلسطينيه المسلحه داخل فلسطين وخارجها محاصره. يُفرض عليها السلام وتحاصر غزه، وتستوطن الضفه الغربيه. وتعقد معاهدات السلام مع العدو والارض مازالت محتله. وقاومت الشيشان الاحتلال السوفيتي ومازالت محتله. وقاومت افغانستان الاحتلال السوفيتي ثم الامريكي ومازالت محتله. والقاعده بدايات متناثره. حرب عصابات لم تفتح ارضا. والتوغل الشيعي في العراق والخليج حتي اليمن وباب المندب. ولم تعد هناك بؤره سنيه جاذبه في شبه الجزيره او في مصر او في الشام.

فما الحل؟ الدفاع عن الدوله الوطنيه، والقضاء علي استبدادها وفسادها واقامتها علي المواطنه والمساواه في الحقوق والواجبات، وحقوق الانسان كبؤره صغري. ثم اقامتها علي الدوله القوميه كبؤره ثانيه تجمع العرب. فالعرب قاعده الاسلام، لا فرق بين مسلمين ومسيحيين ويهود. فالعروبه هي اللسان. وكل من تحدث العربيه فهو عربي. تسقط الحدود المصطنعه بينها. واقامه دوله فيدراليه بين الوحده الاندماجيه والجامعه العربيه، ليست باقل من الاتحاد الاوروبي. ثم اقامتها علي الدائره الثالثه الاوسع، الافريقيه الاسيويه التي يجمعها الاسلام. فالاسلام ثقافه. الحل هو هذه الدوائر الثلاث، الصغري والوسطي والكبري. وفي نفس الوقت يُعاد بناء الفقه القديم الذي تغير عصره من فقه الجَلْد والرجم والصلب وقطع اليد والرق والسبايا، الي فقه الثوره والتحرر والعدالة الاجتماعية والتنميه والمواطنه والمساواه بين الرجل والمراه.