المحتوى الرئيسى

يوميات الحرب الليبية (الحلقة الثالثة): زعيم «إمارة درنة» يتحصن بضاحية «لميس التركية» ويستخدم طيور الكناري لمراقبة هجمات الجيش

11/19 02:09

كان الرجل ذو اللحيه السوداء الطويله، القادم من سجن غوانتانامو الي مدينه درنه الليبيه علي ساحل البحر المتوسط، يريد ان يجعل منها اماره اسلاميه مواليه لتنظيم القاعدة، لكن تطورات الاحداث منذ مقتل العقيد الراحل معمر القذافى حتي ظهور ما يسمي تنظيم «داعش في العراق والشام»، اجبر الرجل المدعو سفيان بن جومه، علي تعديل خططه. الا ان هذا ليس كافيا حتي الان علي ما يبدو للحفاظ علي تماسك عده مئات من القاده المتطرفين القادمين من دول مختلفه ويقودون شبانا من المتشددين واللصوص وقطاع الطرق، فقد تجاوز الامر فكر تنظيم القاعده واصبح مطلوبا من الجميع في درنه موالاه تنظيم «داعش». ووفقا للمعلومات، لم يحسم «بن جومه» موقفه، بينما هو يتحصن في الضاحيه المعروفه في المدينه باسم «ضاحيه لميس التركيه»، نسبه الي ممثله في احد المسلسلات التركيه، وايضا لان من قام بتنفيذ بناء المجمع السكني في تلك الضاحيه في درنه، قبل عده سنوات، كانت شركه تركيه.

ويعد «بن جومه» في نظر قطاعات ليبيه، اخطر رجل في درنه في الوقت الراهن، وتقول مصادر امنيه انه بدا في شراء منازل في «ضاحيه لميس»، واصبح يتحصن فيها مع زملائه من المتشددين، وغيّر اسم الضاحيه من «لميس التركيه» الي «ضاحيه السيده خديجه». الا ان الرجل الذي تجاوز عمره 55 عاما، لم يظهر علي السطح بشكل مباشر حين اعلنت مجموعات من المتطرفين موالاتهم لتنظيم داعش، قبل ان يتوجهوا الي مصرف المدينه لسرقه ما يساوي نحو 3 ملايين دولار. ويتخوف المتطرفون في درنه من نجاح «عمليه الكرامه» التي اعلن عنها اللواء المتقاعد في الجيش، خليفه حفتر، لتحرير ليبيا من الارهابيين والمتشددين.

ويقول قائد عسكري في معسكر علي مشارف درنه، ان مخابرات الجيش تتابع «كل تصرفات تلك الجماعات التكفيريه، وساعه الحساب اقتربت»، مشيرا الي ان المخابرات رصدت وجود خلافات بين قاده المتشددين في تلك المدينه الواقعه بين جبال وعره التضاريس، لكن موقف «بن جومه» يبدو غامضا، كما يقول. ويضيف: «تشير المعلومات الي انه ما زال القائد الاول هناك، لكنه يبدو غير متحمس لما قام به بعض المتطرفين بموالاتهم (داعش)».

ويزيد موضحا: «بن جومه كان دائما قائدا معروفا بموالاته لتنظيم القاعده، ودائما يحرص علي ان يكون القائد الاول للمكان الذي يوجد فيه، ويريد ان يستمر في ذلك، سواء في تعامله مع باقي الجماعات الموجوده في ليبيا، او مع التنظيمات الخارجيه الدوليه.. يريد ان يكون الامر الاول للمدينه».

وحاولت «الشرق الاوسط» تدبير اتصال مع «بن جومه» لمعرفه دوره في درنه، لكن الوسطاء الذين قاموا بالاتصال به قالوا انه لا يريد التحدث للصحافه. كما لم يحبذ شقيقه، وهو ضابط برتبه عقيد في البحرية الليبية في طبرق، الدخول في الجدل حول شقيقه بسبب حساسيه وظيفته. ويقول مقربون من بن جومه انه كان حتي منتصف هذا العام يداوم علي زياره اقاربه في طبرق، لكنه توقف عن ذلك بعد ان قرر الجيش ملاحقه المتطرفين.

وبينما تبدو الخلافات مقبله لا محاله بين زعماء المتطرفين في درنه، كما يتوقع البعض، يقوم «بن جومه» بالاشراف علي بناء تحصينات عسكريه في كهوف بالوديان المحيطه بالمدينه، استعدادا للهجوم الذي يعتزم الجيش الوطني الليبي شنه علي درنه، لكن اطرف الملاحظات التي اوردها بعض المنشقين عن تلك الجماعات، تتلخص في امرين؛ الاول لجوء بعض المتطرفين لسجن خصومهم في براميل، وسيرد الحديث عن هذه الطريقه في هذه الحلقه، والامر الثاني قيام اتباع «بن جومه» بالاستعانه بطيور الكناريا، وذلك من خلال وضعها في اقفاص امام بوابات الكهوف في جبال درنه، وهي بوابات جري صنعها من قضبان الحديد والزجاج. والهدف من وضع الطيور علي البوابات الزجاجيه للكهوف، هو مراقبه ما اذا كان الجيش قد اطلق غازات سامه علي المتشددين ام لا.

«اذا وقعت غاره بطائرات الجيش، فلا بد، قبل فتح باب الكهف المحصن، من التاكد من ان الطائر ما زال حيا، اما اذا وجدته ميتا، فيمنع فتح الباب حتي انتهاء مفعول الغازات السامه»، هكذا يقول سليمان الشرماوي، احد القاده السلفيين في درنه ممن فروا اخيرا الي مدينه البيضاء الواقعه قرب بنغازي. ومثله مثل غالبيه السلفيين المعتدلين يطلق الشرماوي علي جماعات المتطرفين في درنه لقب «الخوارج»، مشيرا الي ان «فرضيه لجوء الجيش لاستخدام الغازات السامه ضد الخوارج المتحصنين في الوديان، مستبعده لان الجيش لم يعد لديه مثل هذا النوع من الغازات»، مضيفا ان مخاوف «الخوارج» مستقاه من تجربتهم مع نظام القذافي الذي دكَّ وديان درنه علي الخوارج بالطائرات والصواريخ حين هاجموا قوات الامن والجيش في عام 1995.

ومثل كثير من قيادات التطرف في ليبيا، لم تعد الخارطه واضحه بالنسبه للمستقبل في درنه، لان الانواع الثلاثه لمعتنقي الفكر المتشدد اصبحت تقف علي مفترق طرق. وهذه الانواع الثلاثه هي «القيادات الاخوانيه»، و«القيادات المواليه لـ(القاعده)» و«القيادات المواليه لـ(داعش)»، وان كانت جماعه «الاخوان» تحاول حتي الان، من خلال قادتها في كل من مدينتي مصراته وبنغازي، الاستفاده عسكريا من التنظيمين الاخيرين، مقابل «استرضاء بن جومه اولا»، وكذلك مقابل التستر علي تحركات «القاعديين» و«الداعشيين» واعطائهما شرعيه رغم وضع المجتمع الدولي لهما علي قوائم التنظيمات الارهابيه. ويوجد فيديو مسرب عن لقاء مبعوث من جماعه «الاخوان»، حين كانت تهيمن علي حكم ليبيا قبل اشهر، مع «بن جومه» للتفاهم حول حكم البلاد في المرحله المقبله.

وفي حاله درنه، حاليا، يبدو الموقف شديد التعقيد؛ فالمدينه التي يبلغ عدد سكانها نحو 80 الف نسمه وكانت في السابق مركزا للفنون والاداب، تخلو تماما من اي مظاهر للدوله.. لا جيش ولا شرطه ولا قضاء ولا مؤسسات. وتَشكَّلت فيها، منذ سقوط نظام القذافي، جماعات مسلحه متباينه، منها الجماعه السلفيه، تحت اسم «كتيبه شهداء ابو سليم»، و«جماعه بن جومه» وهي احد الفروع الرئيسه في تنظيم «انصار الشريعه»، وهو تنظيم اعلن منذ وقت مبكر ولاءه لتنظيم القاعده، اضافه الي مجموعات من المتطرفين الاجانب الذين بادروا الشهر الماضي باعلان الولاء لـ«داعش». ووفقا للمصادر الامنيه، اصبح يُشكِّل الغالبيه في وسط المجموعه الاخيره شبان من جنسيات سوريا وجزائريه ومصريه واوروبيه ايضا، حيث تعززت قوه المجموعه الاخيره بوصول نحو 500 من دواعش سوريا الي درنه عبر مركب رسا في ميناء المدينه اواخر شهر رمضان الماضي. ويوجد تعاون بين هذه الجماعات وجماعه «الاخوان» التي تقود عمليات المتطرفين ضد الجيش والشرطه سواء في طرابلس او مدن الشرق، او الجنوب.

ويقول الشرماوي، ان الغالبيه العظمي من اتباع الفريق السلفي، خاصه ممن كانوا ينضوون تحت اسم «كتيبه شهداء ابو سليم»، فروا من درنه، تاركين اسلحتهم، الي مدن مجاوره لا يوجد فيها نفوذ يذكر لاتباع «بن جومه» و«الدواعش»، كمدن طبرق والبيضاء وشحات. ويضيف انه مهما قيل عن وجود خلافات بين قيادات الخوارج الذين يسيطرون علي درنه، الا ان القائد الاول في المدينه ما زال «بن جومه»، لافتا في الوقت نفسه الي ان اتباع «بن جومه» في المدينه يتراوح عددهم بين 2000 و3000 عنصر، لكن ربع هذا العدد فقط من الليبيين، والباقي من الاجانب الذين قام معظمهم بتمزيق جوازات السفر الخاصه بهم بمجرد وصولهم الي درنه «علي اساس انهم جاءوا ليبقوا».

ويوضح الشرماوي، الذي فر من المدينه الشهر الماضي مع اكثر من 30 من قاده التيار السلفي وكوادره، ان السلفيين في درنه كانوا منخرطين في «كتيبه شهداء ابو سليم»، لكن المتطرفين فيها سيطروا علي الكتيبه، وبالتالي اصبحت تابعه لهم، وليست تابعه للسلفيين في الحقيقه، رغم ان جماعه «بن جومه» حرصت علي ترك الاسم كما هو، لكي يبدو ان الكتيبه غيرت موقفها واصبحت مواليه لهم، وهو غير صحيح، مشيرا الي ان جماعه «بن جومه» تتحكم في مساحات شاسعه من درنه وضواحيها، اي من منطقه «راس هلال» حتي منطقه «الفتايح»، بالاضافه الي مقار اخري محصنه في الوديان الواقعه بين الجبال المحيطه بالمدينه من 3 جهات.

ويضيف: «هناك تحولت كهوف الوديان الي مخازن للسلاح واماكن لاقامه الخوارج ايضا، بمن فيهم (بن جومه) نفسه الذي اصبح يمتلك الكثير من المقار حيث يوجد احيانا مع المقاتلين في الكهوف الواقعه في السفح الجبلي الممتد من جنوب وسط المدينه، واحيانا في ضاحيه (لميس التركيه) غرب درنه حيث اصبحت الضاحيه هي الاخري معقلا خطيرا للخوارج من الليبيين والاجانب، بعد الاستيلاء علي بيوت السكان هناك، سواء بالقوه او بالشراء باسعار زهيده تحت تهديد السلاح، كما ان له مقار سكنيه اخري في منطقه (راس هلال)».

ومن بين قاده السلفيين الذين فروا من المدينه هربا من القتل علي ايدي انصار «داعش» وانصار «القاعده»، الشيخ عبد السلام الذي يقيم في الوقت الحالي لدي اقاربه في طبرق، الذي قال: «درنه اصبح وضعها صعب جدا. اي احد يشعر (الخوارج) انه غريب عن المدينه يلقون القبض عليه كرهينه للمقايضه به. لكن هل يمكن ان تقول ان هؤلاء الذين ينتمون لـ(داعش) هم من قاموا بالعمليه، لا يمكن ان يعترف احد بهذا. هل يمكن ان تتهم جماعه (بن جومه)، هنا يرد بنفسه علي عواقل المدينه ويقول لهم انه لا شان له بتصرفات الاخرين، وانه ليست له جماعه. لكن في الحقيقه نحن كسلفيين نعده المسؤول الاول عن كل ما يجري في درنه».

ويضيف الشيخ عبد السلام موضحا موقف اتباعه من السلفيين مما يجري في درنه، ان الحقيقه هي ان هناك شبابا من السلفيين تركوا المدينه مضطرين ولجاوا الي طبرق، وبعضهم لجا الي مدن اخري اكثر استقرارا مثل البيضاء التي يوجد فيها مقر الحكومه. «المشكله التي امامك تتلخص في ان اي شخص يدخل درنه، وله علاقه بمجلس النواب او له علاقه بـ(عمليه الكرامه) او الجيش او الاعلام، يتم قتله علي الفور.. في الفتره الماضيه القوا القبض علي رجل صحافي غربي.. وهم يعدون اي تصرف مع هذا النوع من الناس عملا مشروعا، ويقومون بالمقايضه به، بينما نحن كسلفيين نعد الكافر الذي يدخل بلاد الاسلام معاهدا لا يجوز قتله، ويحرم دمه كحرمه دم المسلم».

ويتابع موضحا انه لهذا السبب «يكفروننا كسلفيين، لاننا نحن نطيع ولي الامر، بينما هم يقولون ان طاعه ولي الامر كفر.. ثم انهم يقومون بتكفير من يحلقون لحاهم ومن يدخنون ومن لا يصلون الا في بيوتهم، بينما نحن نري ان هؤلاء مسلمين مثلنا مثلهم». ويصمت الشيخ عبد السلام قليلا ثم يتساءل قائلا: «من يحق له ان يكفِّر الذين يصلون في بيوتهم او يحلقون لحاهم او يدخنون؟! بل نحن نري ان هؤلاء مسلمون عصاه، يمكن ان يتوب عليهم الله ويصبحون مشايخ».

وحين ادرك الشيخ عبد السلام انه ربما سيكون هناك سفر الي درنه خلال اليومين المقبلين، اعتدل في جلسته وهو يقول محذرا: «لا تذهب.. هذا خطر. يمكن ان تتحول لورقه، ويتلاعبون بك قبل قتلك. لا انصح بالذهاب اليهم.. هؤلاء خونه. اذا ذهبت اليهم فلن ترجع.. علي الاقل سيحتفظون بك الي ان يجبروك علي القتال معهم حين ياتيهم جيش حفتر وجيش الكرامه».

لكن هناك بعض شيوخ السلفيه في درنه ما زالوا يقيمون فيها ولم يغادروا رغم الخطر. وهنا يقول الشيخ عبد السلام: «هذا لان بعض السلفيين لديهم عائلات كبيره لها وزن في المدينه، ولهذا لا يقترب منهم الخوارج، لكن يضايقونهم ويمنعونهم من اعتلاء منابر المساجد او الاعلان عن اي تعاطف مع الجيش او البرلمان، اما من ليست لهم عائلات كبيره، فيتم التعدي عليهم وتهديدهم وضربهم ايضا واحيانا يصل الامر الي القتل، كما حدث في الهجوم علي (كتيبه شهداء ابو سليم) والاستيلاء عليها».

ويشير الي ان هجوم «الخوارج» علي «كتيبه شهداء ابو سليم»، جري بعد انتخاب البرلمان الجديد منتصف هذه السنه، وذلك لان قاده الكتيبه من السلفيين جهروا وقتها بالقول بانهم يدعون للكتاب والسنه دون اقتتال، اي انهم حرموا قتل المسلمين ومن يلجا اليهم، وانهم يريدون عوده الجيش والشرطه، وهذا لم يعجب «بن جومه»، وتسبب ذلك في مناوشات بينهما، ثم صارت مشكله وحربا بالاسلحه.. «وعلي هذا انقرضت جماعه ابو سليم من درنه، فهناك، من بينهم، من طاوع الخوارج ومشي معهم، ومنهم من ترك الكتيبه واعتصم ببيته، واصبح في حاله، ومنهم من ترك درنه اساسا. واصبحت السيطره الكليه لجماعه بن جومه ومن معه من عناصر من ليبيا ومن خارج ليبيا مثل الباكستانيين والجزائريين واليمنيين والمصريين».

وفي كل يوم يمر علي مدينه درنه، وفي كل يوم ترد فيه انباء عن تقدم الجيش في معقل المتطرفين في بنغازي المجاوره، تزيد درجه العنف في المدينه، ويحاول قاده «الخوارج» فيها اظهار قوتهم وتحديهم لقوات الجيش، وبالتالي تتضاعف ماساه درنه وسكانها.

وفي لقاءات مع فارين من درنه يقول احد تجار المدينه، ويدعي حسين من قبيله العشيبات، وهو يخضع للتفتيش في بوابه «وادي السهل»، التي تفصل بين درنه وطبرق، ان كل من يشتبه في رفضه لحكم الجماعات المتطرفه، او يشتبه في موالاته للجيش والبرلمان، يتعرض للقتل بقطع الراس كما يحدث في التلفزيون علي ايدي «داعش» في العراق وسوريا، و.. «في كل يوم نعثر علي الاقل علي 3 او 4 جثث مقطوعه الرؤوس، او علي رؤوس دون جثث».

واحتل المتطرفون في درنه مبني البلديه، وكتبوا عليه: «المحكمه الشرعيه»، وقاموا باصدار احكام علي العشرات من جنسيات مختلفه ورموهم بالرصاص او قطعوا رؤوسهم بمناشير خاصه بقطع الشجر، مره في ارض معلب المدينه ومره في ساحه مسجد «الصحابه» في وسط درنه. ورغم الامكانات الامنيه المتواضعه للدوله، الا ان رجال الجيش يواصلون فحص اوراق الاشخاص وسياراتهم من القادمين من درنه، وذلك في البوابه العسكريه الواقعه شرق المدينه، قبل السماح لهم بالتوجه الي مدينه طبرق الاكثر امنا والتي تنعقد فيها جلسات البرلمان ويقيم فيها كثير من رجال الدوله.

ومن بين الفارين من درنه ايضا، يقول احد تجار الفاكهه ان المدينه اصبح يكثر فيها الليبيون الذين يرتدون ملابس افغانيه او باكستانيه الطابع ويشهرون اسلحتهم في وجه من لا يطيع اوامرهم، و«الغريب ان هؤلاء الليبيين يعملون مع جماعات من الغرباء الذين ينفقون اموالا ضخمه ويقتنون سيارات مسلحه ومجهزه ولا احد يعرف من اين اتوا او ماذا يريدون.. ما يقومون به حقا هو نهب الاموال من اهل درنه، واطلاق الرصاص علي من يعترض طريقهم»، مشيرا الي انه كلما تقدم الجيش الوطني في تحقيق الانتصارات علي المتطرفين في انحاء ليبيا، زادت عصبيه هؤلاء، سواء كانوا ليبين او اجانب.. «الان اصبحوا ينصبون الحواجز في معظم شوارع المدينه، ومن يرون انه ثري او لديه مال، يقايضونه علي نصيب من ثروته، والا قاموا باختطافه او اختطاف احد افراد اسرته الي ان يسدد لهم الفديه».

وتمكن الجيش خلال الاسبوعين الماضيين من فرض سيطرته علي الطريق الدولي الجنوبي الواصل بين طبرق وبنغازي، وهو طريق يمر من جنوب درنه ويمتد لاكثر من 450 كيلومترا، وكانت الجماعات المتطرفه تسيطر عليه وتثير الرعب بين المسافرين، ووقع عليه كثير من الاعمال الانتقاميه ضد عناصر الجيش والشرطه. وفي الوقت الراهن يحاصر الجيش مداخل درنه ومخارجها من الشرق ومن الغرب ومن الجنوب ايضا، ويسدد ضربات منتقاه علي مواقع المتطرفين في المدينه وضواحيها.

ويقول رئيس اركان الجيش الليبي، اللواء عبد الرزاق الناظوري: «نحن الان نسيطر علي المداخل الثلاثه لدرنه، لكننا نترك الخوارج الذين فيها الان، لان معظمهم هربوا لبنغازي في محاوله منهم لمسانده المتطرفين هناك، لكن الكثير منهم لقي حتفه فيها»، مشيرا الي ان هناك مجموعه جاءت من تنظيم داعش واستقرت في درنه، لكنه اكد انه سيتم القبض عليهم، مشيرا الي ان بينهم سوريين ومصريين وافارقه من «تنظيم بوكو حرام» ومن الشيشان وافغانستان وموريتانيا واليمن. ويسعي الجيش لاستنزاف قدرات المتطرفين، كما يقول اللواء الناظوري.. «حتي لا يصبح امامهم غير الخروج من مواقعهم واماكنهم، وهذا، في نهايه المطاف، يؤدي الي القضاء عليهم بالتدريج».

وقصفت قوات الجيش منطقه «وادي الناقه»، ومحيط ضاحيه «لميس التركيه»، ثم اعقب القصف اشتباكات مع متطرفين كانوا يتحصنون قرب غابه «ابو مسافر» في المدخل الشرقي، كما ادت ضربات الجيش الي انسحاب مجموعات المتطرفين الذين يطلقون علي انفسهم «الشرطه الاسلاميه»، من شوارع المدينه والاختباء داخل مقر «شركه الجبل». ويرد المتطرفون بانواع مختلفه من الاسلحه منها المدفع «23 مم» المضاد للطيران المنخفض.

وتعكس روايات عدد من شهود العيان القادمين من درنه الي طبرق، ان حصار الجيش للمدينه بدا يرهق المتطرفين فيها بالفعل، ويدفع بعضهم الي محاوله الهروب، بعد ان تراجعت قدرتهم علي جمع الاموال من الاسر الثريه بالمدينه او من المسافرين عبر الطرق القريبه منها، كما كان يحدث في الاشهر الماضيه. وبالتالي لم تعد القصص تقتصر علي حوادث جمع الملايين من المقتدرين، كما كان قبل اسابيع، بل دخل علي الخط نوع جديد من الحكايات عن عمال وموظفين وقعوا في قبضه المتطرفين، وخيروهم بين تسليم مدخراتهم البسيطه او القتل.

ومن بين هؤلاء شاب، يدعي منصور، كان يقود شاحنه لنقل المياه في درنه، قبل ان يخرج منها، ويجلس علي مدخل طبرق ليروي ما حدث له. يقول: «كنت اعمل علي تلك الشاحنه لنقل المياه من محطه تقع علي المدخل الشرقي للمدينه، الي مزرعه تخص احد اعيان درنه، لكن جماعه (داعش) استولت علي مدخراتي وعلي تعبي، واحمد الله انهم لم يقتلوني».

وكان منصور يمر علي بوابه للمتشددين يطلق عليها «بوابه الكاف» ويتناوب الحراسه عليها ما بين 3 و5 من المسلحين، وحين يصل عندهم، وقبل ان يعبر بشاحنه المياه، يلقي عليهم السلام، ويقول لهم ايضا «جزاكم الله خيرا»، لكي يتجنب اي مشكلات معهم، حيث كان يراهم في كثير من الاحيان وهم يحتجزون سياره او يضربون من فيها او يصادرون متعلقات الاخرين. وكانوا يعرفون انه من طبرق وانه يعمل باجر لدي رجل درناوي.

ويضيف منصور انه بعد ان اعلن المتطرفون بدرنه ولاءهم لتنظيم داعش، رفعوا علي «بوابه الكاف» الرايه السوداء، وكتبوا علي الجدران المجاوره «الدولة الاسلامية - ولايه درنه»، و«دوله الاسلام باقيه». ثم بدا منصور يلاحظ ان المجموعه احضرت براميل فارغه ووضعتها خلف السور المجاور للبوابه.. «براميل من الصفيح من تلك التي نستخدمها احيانا في تخزين المياه». وبعد ذلك يقول انه لاحظ احتجاز حراس البوابه عددا من المواطنين داخل تلك البراميل، دون ان يفهم السبب، وان بعض المحتجزين كان يظل في البرميل لعده ايام حتي يبدو من ملامح وجهه انه يشرف علي الموت.

ويتذكر منصور انه لم يشا ان يسال عما يجري، واكتفي بالقاء التحيه ومقوله: «جزاكم الله خيرا». ويزيد في اسي موضحا انه كان يتقاضي نحو الف دينار (اقل قليلا من الف دولار) في الشهر من صاحب العمل، لانه كان يقوم ايضا بمساعدته في الزراعه وسقايه الاغنام، وغيرها من الاعمال. وكلما تقاضي راتب شهر ارسله الي اسرته في طبرق لكي تدخر له من اجل ان تخطب له الفتاه التي يريد ان يتزوجها.

وفي يوم من الايام حان وقت السفر لانهاء اجراءات الزواج. ويضيف: «بدلت ملابس العمل، وسلمت مفتاح الشاحنه لصاحبها وركبت سياره اجره، مع ركاب اخرين، وبدانا في الخروج من درنه، الي ان وصلنا الي بوابه الكاف تلك التي كنت اسلم فيها علي المسلحين واقول لهم كل صباح: (جزاكم الله خيرا)، وحين راوني في السياره الاجره تعرفوا عليَّ، لكنهم طلبوا مني ان انزل، وصرفوا السياره والركاب، وقالوا لي انت تمر علينا منذ 7 اشهر، وتتقاضي الف دينار، اي اننا نريد منك 7 الاف دينار، والا قطعنا راسك. واخذوا مني هاتفي المحمول وحقيبه ملابسي».

وحين شرح لهم القصه، وانه كان يرسل راتب كل شهر لاسرته في طبرق اولا باول من اجل اجراءات الزواج، وانه ليس معه اي اموال الان الا ثمن اجره الانتقال الي طبرق، وضعوه في واحد من تلك البراميل.. «قالوا لي ادخل، فتذكرت علي الفور حاله من سبقوني ودخلوا قبلي في هذه البراميل.. وكان هناك 3 يصارعون الموت وتبدو رؤوسهم مائله علي حواف البراميل التي وضعوا فيها منذ عده ايام».

ويضيف منصور انه لم يكن يعرف ان هذا المحبس الصغير فيه العذاب كله.. يجبرك البرميل علي ان تظل واقفا داخله ساعات وراء ساعات تحت الشمس. واذا غفوت تنثني ركبتاك تحتك لكنهما تصدمان بالدائره الحديديه الموجود داخلها.. «المهم غلبني الخوف والرعب.. كيف اتصرف؟ ومن اين اتي لهم بالاموال التي يريدونها.. وبقيت علي هذه الحال يوما بطوله، بينما كانت جماعه البوابه تطبخ وتاكل وتشرب ولا يلتفتون للجوع والعطش والاعياء الذي يعانيه المحبوسون في البراميل. ومع غروب الشمس تقدم مني احدهم وكانت لهجته سوريه، واعطاني قطعه خبز وقال لي: (تناول غداءك). ثم لحق به زميل له، وهو ليبي يتحدث بلهجه المدن الغربيه، واعطاني هاتفي المحمول وطلب مني ان اتصل باسرتي واطلب منها ان تبعث لي السبعه الاف دينار مع سائق اي سياره قادمه الي درنه، وان يسلمها لـ(بوابه الكاف)، دون اي ذكر لاي تفاصيل».

ولان اسره منصور اشترت حاجات العرس وانفقت معظم ما ارسله لها من مدخرات، فقد استغرق الامر اسبوعا من اجل ان تعيد جمع المبلغ بالاقتراض والبيع، وترسله له، ليعود لاسرته بخفي حنين بعد شهور من الكد والعمل.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل