المحتوى الرئيسى

هل تبوء جميع الثورات بالفشل؟!

10/26 18:02

يصعب علي حكامنا تلك الايام اقناع جموع الشعب بان كل شيء علي مايرام مع انتشار الفيضانات والتغير المناخي والتقشف والبطاله والفقر والعنصريه وغير ذلك الكثير.

ومع ذلك، فلايحتاج الحكام لاقناع الشعوب بذلك علي الاطلاق، فجل مايحتاجونه للاستغراق في النوم ليلًا هو اقناعهم انه ما في اليد حيله. ومع انطلاق حمله التبريرات للراسماليه والحروب وحاله عدم المساواه، دائما مايظهر شعار “اننا لانستطيع تغيير الطبيعه البشريه”، وترديدها دائمَا وابدَا من قبل اصحاب القوي لتصبح نغمه رنانه في اذان جموع الشعب.

يتصل هذا الشعار صله وثيقه بالفكره السائده ان الثورات دائما تبوء بالفشل متكلين في زعمهم علي عدم قدره الجموع العاديه علي اداره المجتمعات. ويصبح بذلك تمكن الشعب من مصادر القوي هو مجرد وهم.

ولذلك، وعلي الرغم من توجه جورج اورويل اليساري الاشتراكي، فان روايته “مزرعه الحيوانات” لاقت شهره كبيره لتدريسها في مناهج التعليم المتوسط، فهي تشير لتدهور الثورة الروسية، لتصبح بعد ذلك الديكتاتوريه الستالينيه تدهوًرا حتميًا، فهو يرجع بالاساس الي عدم ذكاء الحصان “بوكسر” وباقي الحيوانات ممن ينتمون الي الطبقه العامله.

وبالرجوع الي الشعار السابق، سوف نجد انه كلما باءت ثوره ما بالفشل، كلما قويت شوكه هذا الشعار وترسخ في اذهان الجموع الغافله علي انه الحقيقه المجرده من اي شك. ومع الوضع الحالي والظروف الصعبه التي تمر بها مصر والتيار اليميني الذي يهدف للاطاحه بنظام يانكوفيتش في اوكرانيا، كل تلك الاوضاع تعزز وترسخ الحقيقه السابقه بشكل كبير. وهذا ما اتضح في مقال الكاتب سيمون جنكينز بصحيفه الجارديان بعنوان “الميدان في اوكرانيا .. التحرير في مصر اصبحت ميادين تمثل الفشل لا الامل”. (صحيفه الجارديان 26-2-2014)

يمكن الرجوع الي التحليلات الجدليه لسيمون جنكينز لاحقًا، ولنتطرق اولا الي الزعم بان الثورات دائمًا ماتبوء بالفشل.

من السهل تقديم قائمه بكل الثورات التي باءت بالفشل مثل: ثورة الفلاحين عام 1381، وحرب الفلاحين في المانيا عام 1952، وكومونه باريس عام 1871، والثورة الاسبانية عام 1936 وهكذا، الا ان التعميم التاريخي لفكره ان كل الثورات تبوء بالفشل هي فكره خاطئه للغايه.

بادئ ذي بدء، يمكن القول بان عديد من الانظمه الراسماليه الجماهيريه الرئيسيه هذه الايام تعود نشاتها في الاصل الي ثورات ناجحه في الماضي ومن الامثله الواضحه لتلك الثورات هي الثوره الهولنديه ضد امبراطويه هسبرج الاسبانيه في القرن السادس عشر، والتي اسست جمهوريه هولندا في بدايه القرن السابع عشر، والتي ادت بالتبعيه لقيام دوله هولندا، والثورة الإنجليزية عام 1642-1649 والتي اطاحت بحكم تشارلز الاول وقامت بكسر قوه الملكيه المطلقه والارستقراطيه الاقطاعيه وفتح الباب امام الديمقراطيه البرلمانيه وتطور الراسماليه في بريطانيا. ومن امثله ذلك ايضًا الثورة الفرنسية عام 1789-1794 والتي ازالت راس الملك لويس السادس عشر وكسابقاتها قامت بكسر الارستقراطيه الفرنسيه وانهاء الاقطاعيه في فرنسا. والثورة الأمريكية عام 1775 والتي اعلنت الاستقلال الامريكي ومهدت الطريق لتطور الولايات المتحده الامريكيه لتصبح اكبر دوله راسماليه في العالم.

الجدير بالذكر ان البرجوازيه المعاصره المتمثله في الطبقات الراسماليه الحاكمه هذه الايام والتي تعد من القوي الرجعيه في العالم، تشعر بالحرج من جذورها الثوريه وتحاول طمسها قدر المستطاع عن طريق تطويع بعض المؤرخين لصالحها. واصبحت الاشياء تسمي بغير اسمائها الحقيقيه، فاصبحت الثوره الهولنديه مسماه بـ “التمرد الهولندي” او حرب الثمانين يومًا واصبحت تذكر في هوامش التاريخ كما اصبحت الثوره الانجليزيه تسمي بـ” الحرب الاهليه” ولم يعد اسمها ثوره مطلقًا. ليس هذا فحسب، ولكن اصبحت الطبقات البرجوازيه الانجليزيه المحافظه متحيزه بطريقه او باخري لتابعي الملك تشارلز الاول وضد البيروتانيين المتعصبين تابعي اوليفر كروميل، علي الرغم ان اوليفر كروميل هو من وضع الاساس لحكم تلك الطبقه الرجوازيه الحاليه. وبالمثل، اصبح للمؤرخين، خاصه المؤرخين البريطانيين، نزعه تشويه الثوره الفرنسيه العظيمه وتصويرها بانها مجرد طقوس عربده لعنف غير منضبط والتي افرطت في استخدام المقصله ونشرت الارهاب عامي 1793-1794.

ولكن لم تنجح كل محاولات الطمس التاريخي في اخفاء حقيقه ان تلك الثورات كانت ثورات حقيقيه حشدت لها الجموع الغفيره من الشعوب والتي ادت الي الاطاحه بقوه بالنظام القائم ونقل السلطه بشكل حاسم من الطبقه الارستقراطيه الاقطاعيه الي الطبقه البرجوازيه لتخلق بذلك نظامًا اقتصاديًا واجتماعيًا جديدًا.

الجدير بالذكر ايضًا ان كل تلك الثورات – ثورات صنعتها الطبقه البرجوازيه الراسماليه وليست الطبقه العامله – كانت في حد ذاتها ثورات ناجحه بشكل مذهل. فالثوره الهولنديه انشات الجمهوريه الهولنديه لمده 60 عامًا (1600-1660) والتي تعد من اقوي وانجح النظم الاقتصاديه في اوروبا وفي العالم اجمع. قامت الجمهوريه الهولنديه علي اسس الديمقراطيه والحريه والتقدم بحسب معايير الوقت المعاصر فقد كانت معقل الثوار والمفكرين والفنانين مثل حركه الـ”ليفيلر” السياسيه، والسياسي جون ليلبرن، والفيلسوفان ديكارت واسبينوزا، والرسام “ريمبراندت”.

وفي عام 1660، استعاد الملك تشارلز الثاني حكم انجلترا، الا انه عاد وفقًا لشروط مختلفه غير التي حرص اباه تشارلز الاول علي الحفاظ عليها. فقد هزم البرلمان الملك هزيمه نكراء ولم تعد بريطانيا محكومه بالملكيه المطلقه بعد ذلك ابدًا. لم تلق قوي البرلمان صعوبه في الاتحاد مع الطبقه البرجوازيه بفعل الثوره المجديه في بريطانيا عام 1689 وبها اصبحت بريطانيا هي موطن الثورة الصناعية واكبر ورشه صناعيه في العالم اي انها اصبحت القوه الراسماليه المسيطره في العالم في القرن التاسع عشر.

وعندما ناتي علي ذكر فرنسا، فان الثوره الفرنسيه لم تكتف بتحويل فرنسا الي دوله راسماليه عصريه او جعل باريس هي العاصمه السياسيه والثقافيه للقرن التاسع عشر فحسب، ولكنها عمدت الي اعلاء قيم الديمقراطيه والفلسفه السياسيه المعاصره عن طريق ترسيخ مفاهيم الحريه وحقوق الانسان ثم الاشتراكيه.

بالاضافه الي تلك الثورات وثورات برجوازيه اخري ناجحه (ثورة ميجي في اليابان عام 1868، والثورة المكسيكية 1910-1920 وما الي ذلك)،فقد شهد القرن العشرون عددًا كبيرًا من الثورات القوميه التي اطاحت بالحكم الاستعماري وتبنّت قواعد الاستقلال الوطني. تتراوح تلك الثورات في الفتره من بدايه الثوره الايرلنديه التي بدات بعد انتفاضه عيد الفصح عام 1916 وبلغت الذروه عام 1920-1921، مرورًا بالثورة المصرية عام 1919، والثورة الصينية عام 1949، والثورة الكوبية عام 1959، والثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي من عام 1954 حتي 1962، والثورات ضد الحكم البرتغالي في انجولا، والثوره في غينيا بيساو، والثوره في موزمبيق وغيرها الكثير.

فكيف بعد هذا السرد التاريخي لكل تلك الثورات الناجحه ان يظل لادعاء “ان الثورات دائما تنتهي بالفشل” هذا الصدي القوي؟ الاجابه علي هذا السؤال تتلخص ان ايًا من تلك الثورات لم تؤسس مجتمعًا تسود فيه المساواه والحريه كما تزعم كل ثوره منها انها فعلت.

ثوره الطبقه البرجوازيه وثوره الطبقه العامله

لتفنيد هذه المساله، فلابد من ذكر الفرق بين ثوره الطبقه البرجوازيه في الماضي وثورات الطبقه العامله في الوقت المعاصر. الثوره الهولنديه والانجليزيه والامريكيه والفرنسيه هي ثورات ناجحه تحرريه ولكنها لم تنجح في نشر المساواه الاقتصاديه او القضاء علي الطبقيه. قامت تلك الثورات بتبني خطاب “تساوي الحقوق” فقط لكسب الدعم الشعبي، اما في حقيقه الامر، فقد قامت بنقل السلطه الي طبقه اخري وهي الطبقه البرجوازيه الراسماليه وهي طبقه مستغله بطبعها لم تكن لتقوم لولا وجود الطبقه العامله لمؤازرتها من الخلف. لذلك تقوم كل ثوره من هؤلاء باطلاق شعارات تحقيق الديمقراطيه الدستوريه الرسميه والحقوق القانونه المتساويه (الا انها لم تحقق ايًا من ذلك علي ارض الواقع).

ينطبق هذا ايضا علي عدد من الثورات المقاومه للاستعمار والثورات القوميه التي تم ذكرها بالسابق. فقد قامت تلك الثورات القوميه لاسباب تاريخيه بتبني لغه تدعو الي التغيير الجذري اكثر من الثورات البرجوازيه، حتي انها قامات بتسميه نفسها ثورات شيوعيه او ماركسيه ومن امثله ذلك الثوره الصينيه والثوره الكوبيه. ولكن بعيدًا عن الشعارات الرنانه وفي حقيقه الامر، فقد ظلت تلك الثورات تحت قياده الطبقه الوسطي لا الطبقه العامله، بل ونقلت السلطه الي تلك الطبقات الوسطي و كل ما استطاعوا فعله هو اقامه دول تقطنها مجتمعات راس ماليه مستقله والتي لم تكن مجرد مجتمعات طبقيه بل مجتمعات خاضعه لكل اشكال الضغوط المدمره للسوق العالمي الراس مالي.

ومع ذكر ماسبق، لابد من الاتيان علي ذكر الفلاحين، فمنذ 5000 عام مضي، ومع تطور الصيد والزراعه، شكل الفلاحون الغالبيه العظمي من عدد سكان العالم. لذلك كان من الحتمي ان يمثل الفلاحون العدد الاكبر، ان لم يكن معظم العدد في بعض الاحيان، في تشكيل الثورات كما كان الحال مع الجيوش الثوريه التابعه لبانشو فيا وايميليانو زاباتا في الثوره المكسيكيه وكما كان الحال ايضًا مع الجيش الاحمر التابع لـ “ماو” في الصين وفيديل كاسترو مع فرقه الغوريلا التابعه له في كوبا.

ومع ذلك، وعلي الرغم من قدره الفلاحين علي الحرب بقوه وشراسه ضد الانظمه القديمه واصحاب الاراضي والمستعمرين، الا انهم لم يمثلوا قوه ثوريه بشكل ناجح حيث انهم لم يستطيعوا التحكم في المجتمع الجديد الذي ينبثق من ايه ثوره ناجحه. لم يرجع هذا الضعف الي انتفاء القوه او الذكاء او مايتعلق بحالتهم الحياتيه، الا ان القوه في اي مجتمع تعتمد في النهايه علي التحكم في قوي الانتاج والتي تتواجد في المجتمعات المعاصره في المدن. والفلاحون، علي حسب تعريف الكلمه، متواجدون في الريف. بعد المشاركه في الثوره او في الجيش الثوري، حتي وان قامت تلك الثوره بغزو المدن، يعود الفلاحون في نهايه الامر الي الريف مخلفين وراءهم شخصًا ما لاداره شؤون المدن وبذلك المجتمع. وبطريقه نظاميه، يخطو هذا الشخص اولي خطواته لتشكيل الطبقه الحاكمه الجديده (حتي وان اطلقت تلك الطبقه علي نفسها مسمي ماركسيه او شيوعيه).

وعلي عكس الفلاحين، فتجد الطبقه العامله او البروليتاريا – التي تحيا علي قوة عملها – متمركزه بشكل اساسي في الاماكن الصناعيه الكبري – بما تتضمنه من المصانع او مراكز الاتصال، ورش ترميم السفن او مكاتب المجلس – وايضًا متمركزه في المدن الكبيره حيث توجد مصادر القوه الحقيقه للمجتمع. ومع انتشار الراسماليه في العالم، زاد عدد افراد الطبقه العامله بشكل كبير وبهذا يشكلون معظم عدد سكان العالم ومعها تجد انتشار المدن الكبري مثل ساو باولو، ولاغوس، والقاهره، ومومباي، وشنجهاي، وسيول في كل قاره في العالم حيث تعتمد كل قوي الانتاج الحديثه علي عملهم. فبدون الطبقه العامله، لن تُجمع سياره واحده او حاسب الي واحد، لن يتوفر عمال للعمل في اي سوبر ماركت او محل، لن تُفتح مدرسه او مكتب ولن يتحرك قطار او اتوبيس او طائره.

كل هذه العوامل تعطي الطبقه العامله قوه محتمله هائله، قوه لن تستطيع فحسب هزيمه الراسماليه ولكنها قوه تخولهم ايضا بناء وحكم اي مجتمع ينشا بعد ذلك وبطريقه ديمقراطيه للغايه. فالطبقه العامله هي اول طبقه مضطهده تاريخيًا والتي لديها القدره علي تشغيل مجتمع دون استغلال او اضطهاد الاخرين.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، اتستطيع الطبقه العامله الحفاظ علي فرض سيطرتها الديمقراطيه علي قادتها، الن يواتي الحظ بعض المستبدين للخروج من بين هذه الطبقه لتولي زمام الامور في نهايه الامر؟ طرح هذا السؤال يثير مساله الطبيعه البشريه المذكوره في بدايه هذا المقال، وكذلك احضار مصير الثوره الروسيه وتحولها الي الدكتاتوريه الستالينيه.

لاعطاء مساحه من الفهم، فساتطرق وبايجاز لمساله الطبيعه البشريه. يزعم البعض عاده ان الطبيعه البشريه تتميز بالجشع والانانيه مما يجعل مساله ترسيخ المساواه شيئًا مستحيلًا ولكن هذا ادعاء خاطئ حيث ان الطبيعه البشريه طبيعه متغيره، فهي تتغير وتتطور بتغير وتطور الظروف المحيطه. وبالمعرفه المترسخه في اذهاننا ان الصيادين وجامعي الثمار عاشوا في مجتمعات تسودها المساواه والديمقراطيه لعشرات الالاف من السنين قبل وجود الطبقيه، فيصبح من الصعب ان نصدق ان الطبيعه البشريه ضد المساواه بالفطره.

بشان الثوره الروسيه، فمن الضروري ان ندرك ان خروجها من عباءه الثوره لتاخذ حيز الاستبداد هي واحده من الاسباب الرئيسيه التي تجعل الكثير من الناس يعتقدون ان الفشل هو مصير كل الثورات. فالثوره الروسيه وعلي الرغم من كل شيء كانت اعظم ثورات القرن العشرين وهي الثوره الوحيده التي نجحت فيها الطبقه العامله في الاستيلاء علي السلطه والبدء في عمليه بناء الاشتراكيه. ينظر لهذه الثوره علي انها حتمًا حاله اختبار لجميع الثورات.

ولكن في ظل الظروف الماديه القاسيه التي عاشتها الثوره الروسيه في السنوات التي تلت 1917، فكانت انتكاستها حتميه وهذا ماتوصل اليه وتوقعه لينين وتروتسكي وغيرهم من الماركسيين في ذلك الوقت. ولنذكر سويًا بايجاز هذه الظروف:

 قبل الثوره كانت روسيا هي القوة العظمى الاكثر تخلفًا من الناحيه الاقتصاديه في اوروبا. وكانت الاغلبيه الساحقه من سكانها من الفلاحين، مع الطبقه العامله التي شكلت اقل من 10% من تعداد السكان.

ادت الحرب العالميه الاولي الي تدمير الاقتصاد الروسي ثم ما لبث الا ان وصل الي قاع الحضيض بعد نشوب الحرب الاهليه في البلاد عام 1918 والتي استمرت ثلاثه اعوام وكان التدخل الامبريالي الاجنبي هو اليد وراء الصراع. فبحلول عام 1921 سقط الانتاج الصناعي ليصل الي 31 بالمائه عما كان عليه في عام 1913 وهبط مؤشر الانتاج الكلي الي ما يقرب من 21 بالمائه . ولم تصب البلاد نكبه الانهيار الاقتصادي فحسب بل صحبته مجاعات وانتشار الامراض مثل التيفويد والكوليرا.

كان التاثير الاجتماعي لهذا الانهيار الاقتصادي هو تدمير الطبقه العامله في المدن التي عملت علي انجاح الثوره واسست سلطه العمال عام 1917. انخفض مجموع العمال الصناعيين في روسيا من نحو 3 ملايين في عام 1917 الي 1.25 مليون فقط في عام 1921. وكما وصفها لينين في ذلك الوقت، فقد “اندثرت” الطبقه العامله اي انه انُتزع منها قوتها الفئويه ولم يعد لها وجود كـ”بروليتاريا”. وبعد انتهاكها سياسيًا وجسديًا، فقدت الطبقه العامله القدره علي السيطره علي حكومتها ومسؤولي دولتها.

وفي ظل هذه الظروف، كان لامفر من ان يقوم مسؤولو الدوله او الحزب، سواء كانوا شيوعيين او ماركسيين مخلصين ام لا، بنشر البيروقراطيه غير الخاضعه للمساءله وقد تغير وعيهم وفقًا لذلك. فديكتاتوريه البروليتاريا والتي تصورها ماركس ولينين اصبحت في نهايه المطاف ديكتاتوريه تُمارس علي طبقه البروليتاريا نفسها.

اذًا، هل كان هناك سبيل للخروج من هذا المازق؟ والاجابه نعم، ولكن اذا كانت ثوره العمال نجحت في الانتشار الي غيرها من البلدان الاكثر تقدمًا اقتصاديًا مثل المانيا وايطاليا وفرنسا وغيرها والتي كان من الممكن ان ترفع الضغط عن الثوره المحاصره وان تقوم بارسال المساعدات للعمال الروس المستضعفين. اوشك هذا علي الحدوث بالفعل، فقد انتشرت الثوره في المانيا وايطاليا (وكذلك في اماكن اخري) واصبحت علي بعد خطوه واحده من الانتصار، الا ان هزيمه الثوره في تلك البلدان رجع الي غياب القياده الثوريه وهذا ماترك الثوره الروسيه معزوله وقد تقرر مصيرها بالفشل.

ولكن بمجرد فهم الظروف الماديه التي تسببت في فشل الثوره الروسيه، فمن الواضح انها ترسل لكل ثورات اليوم رساله من الامل وليس الياس، حيث انه لاتوجد دوله عظمي، كالصين او الهند او البرازيل او الارجنتين، لاتشهد فيها قوي الانتاج قدرًا من التطور مقارنهً بالماضي ولاتشهد فيها الطبقه العماليه قوهً اكثر من التي شهدتها الطبقه العماليه في روسيا عام 1917. والاكثر من ذلك، ان العالم يشهد الان قدرًا كبيرًا من العولمه واصبح اكثر انفتاحًا من اي وقت مضي. لذلك فبمجرد اندلاع اي ثوره في ايه دوله، فلن تلقي صعوبه في الانتشار عالميًا مثلما لاقت صعوبه في عام 1917-1923.

بعد ان قمنا بتفنيد الجدال التاريخي ضد الثورات، فيمكننا الرجوع لمناقشه مساله جدليه محدده والتي يطرحها سيكون جنكينز وغيره حول فشل الميادين (ميدان تيان ان من – ميدان التحرير – ميدان بويرتو ديل سول – ميدان تقسيم – الميدان في اوكرانيا … الخ) في انشاء مجتمعات جديده افضل. يقول جنكينز ان الحشود في الميادين اصبحت تمثل “رموز السياسه الثوريه الحديثه” ويعترف بقوتهم الملهمه الا انه يدعي ان “الحشود تهدم اكثر مما تبني”.

“فالحشود يمكن ان تفجر فتيل اي نظام ضعيف وتغرق الدوله في ظلام دامس. فهي نادرًا ماتضيء قابس الديمقراطيه. اي ثوره يمكن ان تزرع الامل في خلق ازمان افضل الا انها تقف امام حقيقه واحده، هي ان التاريخ كائن متشكك دائمًا”.

لكن في نهايه الامر، يعتبر هذا خطابًا صحفيًا وليس تحليلًا جادًا، فقد وقع جنكينز في خطاين اساسيين . الاول هو انه تعامل في جدله مع كل الحشود في الميادين بنفس الظاهره، بدلًا من ان ينظر في تكوين الطبقه واهدافها السياسيه وايدولوجيتها السائده، وبالتالي فلم يحاول التفرقه بين حشود الطبقه الوسطي وحشود الطبقه العامله، بين الحشود الرجعيه والحشود المتطرفه وما الي ذلك. تظهر حاله عدم التفرقه تلك بقوة خاصةَ عند تطبيقها علي الحشود المُتحدث عنها في نفس وقت كتابته للمقال، وهي الحشود في ميدان الميدان في اوكرانيا والتي تتبني توجهًا مختلفًا للغايه، توجه اكثر يمينيه واكثر فاشيه من حشود ميدان التحرير او ميدان بويرتو ديل سول عام 2011.

اما عن الخطا الثاني فيتلخص في ان الحشود في بعض الميادين تمثل بعض الحركات الثوريه، مما جعل جنكينز يعرف الثوره بالحشود في الميدان فحسب ولم يستطع حتي ان يضع في عين الاعتبار العناصر الاخري المكونه للثوره او القوي الاجتماعيه الاوسع نطاقًا التي تنطوي عليها. ينطبق هذا المثل علي اختزال الثوره الفرنسيه العظيمه في اقتحام سجن الباستيل فقط او اختزال الثوره الروسيه في المسيره الي قصر الشتاء الملكي.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل