المحتوى الرئيسى

3 أفلام عظيمة عن حكاية واحدة.. (تحليل بصري)

10/15 18:16

الحكايه بسيطه جداً، قصه حب بين امراه ورجل وسط مجتمع يرفض تلك العلاقه

قُدمت الحكايه في ثلاثه افلام، لثلاثه مخرجين كبار في بلادهم وزمنهم: دوجلاس سيرك في فيلم All That Heaven Allows عام 1955، راينر فيرنر فاسبندر في الفيلم الالماني Ali: Fear Eats the Soul عام 1974، واخيراً تود هاينز.. بفيلم مستقل عام 2002 يحمل اسم Far From Heaven.

الشيء المثير في الحكايه، والذي كان دافعاً لاعاده سردها مراراً، رغم بساطتها، هو انها تقدم شيئاً ازلياً عن علاقه الفرد بالمجتمع، ومن الممتع تتبع كيف اختلف المنظور والزمن والمنطق في تناول كل مخرج من الثلاثه للحكايه نفسها، والاهم.. كيف اثر ذلك علي خياراته البصريه.

سيرك هو واحد من اهم مخرجي اميركا خلال الخمسينيات، ظل التعامل معه لوقت طويل باعتباره مخرجاً تجارياً يحكي حكايات عاطفيه عن المراه، قبل ان تتم اعاده اكتشاف افلامه وقيمته عبر مجموعه من النقاد الفرنسيين الذين اسسوا لاحقاً ما سُمي بالموجه الفرنسيه الجديده.

قصه سيرك هي عن السيده كاري سكوت، الارمله التي تعيش مع ابنها وبنتها الشباب، وتنقلب حياتها حين تقع في حب البستاني رون كيربي ويقرران الزواج، حيث تُواجه برفض وعداء من ابنائها –الذين لا يرفضون فكره زواجها.. ولكن يرفضون الزواج من بستاني من طبقه اجتماعيه اقل- وكذلك من مجتمعها الذي يري في فعلهٍ كهذه تجاوزاً لكل التقاليد المتعارف عليها.

يحكي سيرك الحكايه من جانِب المراه، التي تقوم بدورها جين ويمان، بانحياز كامل الي جانبها، والثقل الحقيقي في فيلمه ياتي من تتبع مشاعر تلك السيده مع تطور احداث الفيلم، وهو ما يفسر اعتبار الرجل «مخرج المراه» واستاذ الميلودراما، فلم يهتم مخرج اخر في هوليوود بحكايتهن مثله.

تبعاً لهذا (المنظور) الذي قرر منه «سيرك» ان يحكي، فان كل خياراته البصريه التاليه اتت من ذلك، تحديداً في استخدام الالوان والتكوينات، وهو امر برع فيه الرجل بشده.

مبكراً، يؤسس «سيرك» لعلاقات لونيَّه واضحه تبعاً لحكايه فيلمه: الالوان الدافئه.. الاحمر تحديداً.. هو تعبير عن العاطفه وانحياز للخيارات الفرديه ضد المجتمع، والالوان البارده.. الازرق بدرجاته.. هو كل ما يمثل عكس ذلك.

مثلاً، ظهور السيده كاري في حفله في بدايه الفيلم.. تكون هي الوحيده التي ترتدي فستاناً احمر، مع تنوع اشكال الاضاءه في المكان.. ومن بينها درجه الاخضرار المتكرره في الفيلم، والمتصله دوماً بحاله من عدمِ الراحه.

في المقابل فان لقاءاتها مع كيربي تكون دوماً في اضاءه طبيعيه، او دافئه، وهو يرتدي شيئاً من درجات الاحمر، لبس مناسب لبستاني يحب الترحال ويقوم باعاده بناء بيته بنفسه.

في واحد من اهم واعظم مشاهد الفيلم، حين يطلب «كيربي» الزواج منها، وتشعر بالخوف من الابناء والمجتمع، يحدث التلاعب بالضوء والنور بشكل مدهش، تتحرك الشخصيات من مساحتها الدافئه.. الي مساحه اخري مزرقه الاضاءه قرب الشباك، قبل ان يتم التعامل مع كيربي كظلٍ وتصبح كاري هي الشيء المضاء في الصوره لانها الشخص الموضوع تحت ضغط في تلك اللحظه والذي يجب ان ننظر اليه.

كيربي يطلب الزواج، ملامحها والاضاءه الحمراء في كل الكادر والمكسوره –فقط- بالزرقه في جانبها.. علي عكس كيربي، تعامل دقيق مع الاضاءه والنور لعكس حاله الشخصيات

الامور تنقلب هنا –بعد ثوانٍ من اللقطه الاولي- بالحركه الي جانب الشباك

في تلك اللقطه يزداد التداخل اللوني المدهش، كيربي اقرب للظل، بينما الاضاءه علي وجه كاري متداخله بين الازرق والاحمر –في تاثير مبهر فعلاً- ويدعّم دراما الشخصيه: كامراهٍ مُحبه خائفه من المجتمع

كيربي في هذه اللقطه ظلٌّ بالكامل، بينما كاري هي من يجب ان ننظر اليها

وفي بقيه اجزاء فيلمه، يطوّع «سيرك» الاضاءه والديكور والالوان كانعكاس بصري لمشاعر تلك المراه، الشيء الحقيقي الذي يهمه في الحكايه.

بعد 19 عاماً من فيلم «سيرك»، قرر المخرج الالماني الكبير فيرنر فاسبندر اعاده انتاج الحكايه.

افلام «فاسبندر» في ذلك الوقت كانت هجائيه حاده للمجتمع الالماني الغربي، وهو في نسخته من الحكايه لا يهتم بالشخوص، بقدر ما يتعلَّق اهتمامه الاكبر علي البيئه المحيطه بهم.

حكايه «فاسبندر» عن السيده العجوز الوحيده ايمي، التي تقع في حب «علي»، المهاجر المغربي الاسمر، ويقرران الزواج، بعد نصف ساعه فقط من الفيلم، وبعدها.. يتابع «فاسبندر» قدره المجتمع.. العنصري والحاد والبارد.. في تدمير علاقتهم ببطء.

تبعاً لهذا المنطق، فان «فاسبندر» اعتمد علي اللقطات الواسعه في كثير من الاحيان، كلها تدور حول العلاقه بين الاشخاص والمساحه الفارغه المحيطه بهم، مع منح تلك المساحه طاقه سلبيه لانهم –طوال الوقت- موضوعون تحت مراقبه المجتمع او الاخر.

خيار بصري اخر يعتمده «فاسبندر» في فيلمه، وهو متعلق بالحصار، الشخصيتان محاصرتان، وتحديداً «ايمي»، بعناصر اخري داخل الكادر علي مدار الفيلم.

وفي النهايه فان «الخوف ياكل الروح»، والعنصريه والكراهيه كذلك.

ورغم ان ابطال فاسبندر ينتصرون –نسبياً- في النهايه، الا ان هذا المجتمع –الذي كان هجاؤه هو السبب الرئيسي في تنفيذ هذا الفيلم.. وهو ما اثر علي الخيارات البصريه للحكايه- لا يتركهم، حيث يصاب علي بالقرحه نتيجه لعمله غير الادمي في المصانع الالمانيه.

«تتجه السينما خلال السنوات الاخيره لمنحي واقعي للغايه من اجل اقناعنا ان ما نشاهده قصه حقيقيه، في فيلمي هذا احافظ علي لغه اصطناعيه اتيه من عالم السينما، لانه –في اعتقادي- ان تلك اللغه تجسد الشعور العاطفي اكثر من اي شيء اخر».. تود هاينز في حوار عام 2009.. يصف فيلمه «بعيداً عن الجنه»

جمله «هاينز» تفسر لماذا يقرر مخرج مرموق ان يحكي حكايه كلاسيكيه باسلوب كلاسيكي خمسيناتي تماماً، ليصبح واحداً من صفوه افلام العقد الماضي.

ورغم ذلك فان مُنجَز «هاينز» لم يتعلق فقط باعاده سرد حكايه «سيرك» باسلوبه نفسه، بل ذهب لابعد من ذلك، قصصياً وفكرياً، في تناول محظورات كان من المستحيل تناولها في الخمسينيات.. فقدمها هو في فيلم خمسيني مقدم في الالفيه، وبصرياً كذلك.

قصه هاينز –المقتبسه عن نفس الحكايه- هي عن السيده كاثي التي تعيش حياه مثاليه تبعاً لتصور الحلم الاميركي، قبل ان يهتز كل شيء حين تكتشف مثليه زوجها الجنسيه، وبالتزامن مع ذلك تبدا مشاعر عاطفيه في النشاه بينها وبين بستاني.. من غير طبقتها.. وهو –فوق كل هذا- اسود!

جزئيتي «العنصريه والمثليه الجنسيه» هما ارتكاز اساسي لقراءه هذا الفيلم، الذي يصطدم فيه «هاينز» مع العصر الخمسيناتي الحالم. باسلوبه السينمائي نفسه منذ تترات البدايه وحتي تترات الختام.. ولكنه يهدُّ مثاليته تلك من جذورها عبر بناء القصه علي التعامل مع المثليه والعنصريه.

بصرياً، وبالرغم من المحاكاه لافلام الخمسينيات في اغلب التفاصيل الخاصه بالديكور والملابس والبيئه والمونتاج وحركه الكاميرا والموسيقي، الا ان «هاينز» تجاوز ذلك لخلق شيء يخصه، كانه «مخرج مجدد في الخمسينيات» مثلاً، واحدي تلك الصور هو تعامله مع اللون عند اقتباس اسلوب سيرك.

«هاينز» لم ياخذ الالوان بمعناها المباشر عند «سيرك»، بل اعتمد، مع مدير التصوير «ادوارد لوشمان»، علي صنع منطق الفيلم تبعاً للتداخل اللوني بين البارد والساخن، واختلاف الدرجات فقط هو ما يصنع فارق التلقي تبعاً لـ«موود» المشهد.

احد الامثله الكبري علي ذلك هو استخدام الالوان نفسها في مشهدين باثر مختلف تماماً: الاول دخول فرانك ويتكر الي «بار» يخص المثليين.. وهو مشهد مزعج وموتر، والثاني مشهد هادئ جداً بين كاثي ورايموند في «بار» يخص السود:

العناصر اللونيه نفسها، ولكن فرق الدرجات يغيّر «موود» المشهد تماماً

التداخل اللوني بين الاصفر، والاحمر، والازرق في لقطه كتلك مثلاً

وهي بعد اكتشاف «كاثي» مثليه زوجها «فرانك» وقرارها مساعدته، لا يعكس فقط عاطفه الشخصيات: كاثي التي تتحرك بمحبه، فرانك المصدوم والغاضب من نفسه وحياته. ولكن الاهم ان درجات الاصفرار –في الديكور والنور- بطول المشهد يصنعان حاله من عدم الراحه، تماماً كحياه الشخصيات.

Comments

عاجل