المحتوى الرئيسى

حمار الحكيم توما

09/29 23:39

الطبيب توما ورِثَ المهنه عن ابيه الذي كان حكيما ماهراً، وللاسف لم يكن الابن في مهاره ابيه، ولكن احتفظ بلقب الحكيم رغم جهله، وقله علمه، وانعدام حكمته، الي درجه ان حماره ثار عليه، وطالب بان يركبه، لا ان يكون ركوبته:

قال حمار الحكيم توما... لو انصف الدهر كنت اركب

فانا جاهل بسيط....  وراكبي جاهل مركب

ومصر في هذه الايام تعيش حالهً مثل حاله حمار الحكيم توما، فكل شيء فيها يؤكد وجود حاله مستقره من الجهل، بل ان هناك تقدماً في مضمار الجهل، وتصاعدنا علي  درجاته، وانتقال من الجهل البسيط الي الجهل المركب، واصبح اكثر المصريين جهلا هم صناع الفكر والثقافه، وقاده الراي، ونجوم الفضائيات، الذين يحددون لنا من هم الخبراء، والمحللون السياسيون، والوعاظ، والفقهاء، فقد اصبحت الفضائيات هي من تمنح الدرجات العلميه، وليس الجامعات كما كان في الماضي، فالتركيز علي مدرس فقه مبتدئ، كان بالامس لا يعرف من دينه الا احكام الحيض، والنفاس، اصبح اليوم يناطح العلماء، ويعترض علي من هو اعلم منه؛ دون ان يعلم ما قال، فقط لانه نجم في الفضائيات، كذلك من يخرج علينا بتحليلات اقتصاديه حول مشروع قناه السويس الجديده، وهو لا يعرف من الاقتصاد قواعده، او تعريفه، اومن يطل بطلعته البهيه كل يوم يبدي رايا في كل شئ، وهو للاسف لا يحيط علماً بشيء.. فقط لانه يملك برنامجا لصناعه الجهل المركب.

ولكن ما الفارق بين الجهل البسيط والجهل المركب؟ يجيبنا امام الحرمين ابو المعالي الجويني المتوفي ٤٨٠ هجريه، في كتابه المختصر جداً «الورقات في اصول الفقه»، فيقول «الجهل البسيط هو ادراك الشيء علي غير حقيقته، والجهل المركب هو ادراك الشيء علي غير حقيقته، مع اعتقاد المدرِك انه يدركه علي حقيقته»، اي ان تري الارهابَ جهاداً، فهذا جهل بسيط، اما ان تعتقد انك  الوحيد صاحب الراي الصحيح، وتدافع عنه، وتتهم من يخالفه، فهذا هو الجهل المركب، فالجهل البسيط، يمكن العلاج منه، والتخلص من تبعاته، ولكن الجهل المركب، مرض عضّال، لان الجهل في هذه الحاله يتحول الي عقيده، يستميت صاحبها في الدفاع عنها، ولا يقبل اي علاج، بل علي العكس، يري الاصحاء مرضي، والمرضي اصحاء.

لقد عانت مجتمعاتنا قروناً من هذا المرض، ومازالت تعاني حتي اليوم، بل ان المعاناه اليوم اشد مع انتشار وسائل الاعلام الجماهيري، والتواصل الاجتماعي التي تحولت الي ادوات ناجحه في نشر الجهل المركب بين الناس، فكل من مَلَكَ ساعه في قناه فضائيه، او حسابا علي الفيس بوك، او التويتر اصبح عالما، وخبيرا، ومصدرا للمعرفه، وكل من استطاع الفهم يظن انه مفكر، يجب علي الاخرين التعلم منه واتباعه، حاله ماساويه من الجهل المركب، تتمدد، وتتسع، وتنتشر بين الناس؛ يختلط فيها الجاهل بنصف العالم بالعالم، والكل سواء، لانه كلام في مواجهه كلام.

في ظل هذه الحاله لا تكاد توجد قضيه واحده في بر مصر واضحه، وفيها حقائق واقعيه، كل شئ اصبح فيه رايان، او ثلاثه، او مائه راي، لان كل شئ اصبح خاضعا للتذوق الشخصي، او لمعايير، ومتطلبات الجهل البسيط، والجهل المركب، ولا يستطيع الانسان ان يقول قولا محددا في اي شئ، الابيض عند البعض، هو في نفس الوقت اسود عند اخرين، ولا يوجد معيار محايد، او راي مرجعي يفصل بين المختلفين، الكل علماء، والكل فقهاء، والكل سياسيون، او اقتصاديون.. الخ، لاشيء حقيقي علي الاطلاق، كلها اراء وتذوقات شخصيه، افتقدنا النقطه المرجعيه، فلا يوجد لدينا نقطه صفر، ولا ارض نقف عليها، وفي ظل كل ذلك يصبح كل شئ مباحا، وكل شيء غير مباح، المهم انت مع اي جانب تقف.

واصل هذا النوع من الجهل بشقيه البسيط، والمركب في عقول الناس ياتي من القائمين علي المنظومه الاخلاقيه للمجتمع، من يحددون الصواب من الخطا، والصحيح من غير الصحيح، والمقبول من المرفوض، وفي القلب من هؤلاء علماء الدين، والمعلمون، واساتذه الجامعات، والمثقفون، وكل من ينظر اليه الناس علي انه قدوه، ومثل اعلي، اذا افتقدت هذه الطبقه المثقفه المعايير، وتحولت الي تبرير كل شئ طبقا للمصالح، والمنافع، والتحيزات الايديولوجيه؛ فان المجتمع في عمومه يفقد المعيار، ويدخل في مرحله التيه، والتوهان الاخلاقي، والمعرفي، والقيمي، والثقافي، ويصبح الحق باطلاً، والباطل حقاً، والخير شراً، والشر خيراً، وتضيع البوصله ويتشتت الناس، ويفتقد المجتمع وجهته، ولا يعرف الي اين يسير، الي الماضي، ام الي المستقبل.

وقفت كثيراً عند قول الله سبحانه وتعالي «ولا يجرمنكم شنان قوم علي الا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوي» امر الهي بالا تدفعنا كراهيه الاخرين علي عدم العدل معهم، وانكار جهودهم، وتشويه انجازاتهم، او مواقفهم، او سلب حقوقهم، فبرغم كراهيتنا لهم، لابد من العدل معهم، لان ذلك اقرب للتقوي، حاله يصبح معها الجهل مستحيلاً.. لانه قد تم تحييد الهوي، والتحيزات الشخصيه، واصبح هناك معيار خارج حدود مصالح الانسان واهوائه.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل