المغربي.. الرجل الذي أسقط النظام بـ''جرة قلم'' - حوار
ردهه طويله، بالدور الرابع لـجريده ''الاهرام''، تتراص علي جانبيها صور، ميدان التحرير يطل بتجمعاته، ملامح بين غضب وفرحه وترقب، الاعلام المصريه واللافتات المرفوعه، ''بانوراما'' لاعوام ثلاث تمر في دقائق حتي الوصول الي ركن زجاجي، هدوء مسيطر يتخلل الاضاءه المبهره المنبعثه من ''صاله التحرير''، تُعرف بسيماها دون دليل؛ مكاتب انتهي يوم آخر لعمل اصحابها فذهبوا عنها، الا قله، بدا وقت عملهم، الساحه تفرغ لهم، هو منهم، بل يتقدمهم، طاولته حاضره، قلم باليد، وورقه بيضاء تنتظر احباره ليسطر''مانشيت'' جديد، تخرج به الجريدة الرسمية صباح يوم حدث مهم.
''الشعب اسقط النظام'' لقارئه هو عنوان تحتفظ به الذاكره عن ''الاهرام'' في لحظه تغير بها كيان البلاد ولـ''محمد المغربي'' هو ''المانشيت'' الذي ادخل كاتبه ''التاريخ''.
11 فبراير 2011، كان اليوم الجمعه اجازته الاسبوعيه، الشارع مكتظ بالمحتفلين، تحقق الامل المنشود منذ 18 يوم، اصطحب ''المغربي'' زوجته ''نشارك الناس فرحتهم''، في الطريق الي ميدان حدائق القبه حيث المكان الاقرب لسكنه توجها، دقت الساعه التاسعه مساءًا، يرن الهاتف، دون تحيه ياتي صوت ''انور عبد اللطيف''– نائب رئيس التحرير ورئيس قسم الاخراج الصحفي بالاهرام- ''تحب تدخل التاريخ؟''، بغير تردد اجاب الخطاط الصحفي، ثم اغلق الهاتف، اخبر زوجته ان تعود للمنزل لان عليه الذهاب الي الجريده ''فورًا''، فانتفضت قائله ''هتروح بالجلابيه''.
لم يتوقع ان ياتيه نداء العمل في تلك اللحظات، لذا لم يتقيد بزيه، جلباب رمادي و''شبشب'' كان يرتدي؛ قرب منطقه رمسيس، الزحام شديد، الـ''تاكسي'' لا يتحرك، لم يجد ''المغربي'' مفر، انطلق تاركًا زوجته بالسياره، جريًا استكمل الطريق حتي ''الاهرام''، دلف مهرولاً، ورجال الامن من ورائه فزعي، ما تبينوا الرجل ''ابو جلابيه''، حتي استوقفوه، وتاكدوا من هويته، ثوان كان امام طاوله الرسم خاصته.
امتدت يداه الي الاوراق، تحسس جيبه ''نسيت النضاره''، لم يعبا، امسك بالقلم، فرحه تختلج القلب ما شعر بها من قبل، اخذ يسطر حروف اول ''مانشيت'' يتصدر صفحه ''الاهرام'' منذ انضامه اليها ''الشعب اسقط النظام''، عشر دقائق استغرقها في الكتابه، ليلحقها بـ''مانشيت'' الملحق بخط الرقعه ذاته المفضل له ''انتصرنا''.
''الاهرام اترد لها اعتبارها'' هكذا شعر ''المغربي'' حينما راي ''المانشتات'' في اليوم التالي، فالانتقادات الموجهه للجريده الرسميه بموالتها للنظام سقط مع حروف ذلك العنوان علي حد قوله.
منذ ذلك التاريخ بات ''المغربي''؛ توقيع تنساب حروفه تُذيل الكلمه الاخيره للعنوان المتصدر للصفحه الاولي بلونه الاحمر، واصبحت يد صاحبه تمتلك النظره الاولي والطابع المتروك عن الجريده الرسميه بعد ثوره الخامس والعشرين من يناير، ليس لكونها اول مره يعلو بها ''مانشيت'' عن شعار الصحيفه منذ 30 عامًا، لكن للمضمون المخالف لما كانت عليه الصحيفه قبل ساعات، وسنوات كان فيها خطاط الاهرام كما يطلق عليه ''معافرًا'' لتحقيق حلم وحصاد موهبه ظهرت مع خطواته الاولي وهو طفلاً.
السادس من سبتمبر قبل 58 عامًا، تتمايل زروع قريه ''القشطه'' بالمَنّزله-محافظه الدقهليه-، الاب يعمل بالارض من اجل رزق ابناءه، الذي استقبل ثانيهم، ''محمد''، باركوا اسمه، عسي الصبي يكون سندًا اذا ما اتي الزمن بما لم يُتوقع، مختلفًا كان، تحفظ عيناه ويدون سمعه تفاصيل الاشياء، ''في اسره فقيره'' نشا ''المغربي''، تلك السيده التي ضمت صرخته الاولي لها شان كبير في حياته ''هي اول حد اكتشف موهبتي''.
مع اول حصه في المدرسه الابتدائيه، بصفه الاول ابصر''الاستاذ عوض''، تمر يداه علي ''السبوره'' خاطًا الحروف بجمال لم تنساه عيناه، ينتهي اليوم الدراسي، ياخذ بعض ''الطباشير'' معه للمنزل، الحوائط من الجير الابيض ''كانت بتغريني اكتب عليها''، تنهال يداه كتابهً ورسمًا، تدلف امه، تنظر الي فعلته، ينتظر الصغير غضب ينصب عليه لكن ذلك لم يحدث قط، تمتد حروف ''المغربي'' لما استطاعت يداه اليه سبيلاً، حتي دلفه خزانه الملابس ''كانت حلوه اوي في الرسم والكتابه عليها''، يكتب، فتتسخ الملابس، تاتي الام، تبتسم، تمسح من ورائه وينتهي الامر ''مكنتش بتزعقلي''.
''المغربي'' لا ينسي ولا يتوقف، لا شاغل له الا اشكال الحروف؛ في صلاه الجمعه يجلس علي حصير المسجد، يتامل الايات المنقوشه علي جدرانه، تداعب يداه الهواء برسم الحروف كما يراها، او يسمعها من الامام، ''سقطت في 3 اعدادي بسبب الخط'' لم يكن محبًا لماده العلوم، كلما بدا المذاكره، راودته الحروف، لينشغل برسمها وكتابتها علي الاوراق.
وكان القدر يلاحقه، بالصف الرابع الابتدائي لازال يتذكر ''استاذ احمد عبد العظيم'' بمدرسه ''ميت غمر''، المدرس الشاب الذي زاد من شغفه بالخط العربي لحسن كتابته، وفي تلك الايام فور عودته من المدرسه، اختلفت المرحله الدراسيه ومعها الطبشور، الملون منه كان له طابع مختلف يليق بالفاصل الابيض بين حائط وسقف المنزل.
نظره تحدي قرر بعدها الصبي جَلبَ السلم، صعدَ كاتبًا بخط كبير كي يراه الجميع، اخذت تنساب يداه علي الجانب الابيض حتي انتهي من كتابه ''وقل ربي زدني علمًا''، وظلت تزين الجدار، تسر الناظرين من اهل البيت وضيوفه.
بصعوده هذا تاكد لال ''المغربي'' موهبه ابنهم التي زرع ابواه نبتها ''كان خطهم حلو''، رغم انهم لم يتلقوا قدرًا كبيرًا من التعليم ''امي خرجت من سادسه ابتدائي'' غير ان ذلك بمعاير اهل القري كان درجه تعليميه مرتفعه، فضلاً عن كونها لم تكن سيده ''عاديه''.
بلسان ''ريفي'' مبين ظلت تُحيه بكلمات تطرب اذنيه حتي الان ''محمد يا قلبيني وعنتيني وروح الروح''، ما كان حنو الام وطيبه نفسها هو ما يحتفظ به ''المغربي'' عن السيده التي لا يذكر سيرته الحياتيه او المهنيه الا وخاض في تفاصيل ذكراها، المشاده التي قد تحدث بين اي زوجين لم تخرج عن ''كتاب كانت عايزاه''، قارئه نهمه عرفها الابن رغم ''الجيش البريطاني''-كما وصف عائلته المكونه من 8 ابناء-، يستيقظ مساءًا في بعض الاحيان علي صوت ابيه ''ما تطفي النور ده عايزين ننام، لا تغفو والدته دون قراءه شيئًا ما، توقد المصباح المجاور للسرير الحديدي، واضعًه الكتاب علي رجليها، تنهل من صفحات احدي الكتب الموضوعه علي ''التسريحه'' التي لا تفارق صورتها مخيله الصبي؛ كتب تغطي سطحها رغم بساطه الحياه وضيق ذات اليد.
لم يرث الابن شغف والدته بالقراءه حال رسم الكلمات، وان اكتسب منها معرفه الكلمه الجيده دون غيرها ''بنجذب لاي شيء تقع عليه عيني''، لكن الحب والقدره علي لم شمل الاسره ظل زاده منذ نعومه اظافره.
''امي ما بتسلمش..امي بتحضن''، دقائق حنان شاركه فيها اصدقاؤه لم تتوقف عنها حتي اخر لحظات حياتها قبل خمسه اعوام، تقاسما فيها الحياه بوجوهها؛ حزن وفرح ''لما جت القاهره وديتها المسرح والسينما''، المشقه، والقلق علي العمل، كانت له بمثابه مستشار، ياخذ رايها في رسوماته ''حلوه بس لو الكلمه جت كده شويه'' تخبره عن رايها، اما هو لها فـ''رفيق عمري'' كما تصفه، ما استطاع ان يحل جزء من مكانها سوي زوجته التي غدت تقول الكلمات ذاتها اذا ما اخذ رايها، فقد اكتسبت خبره شاركت بها ''المغربي'' .
عامان قبل التحاق ''المغربي'' بالثانويه العامه كانا الاقسي علي الام وابنها البكري، توفي الاب بعد معاناه مع المرض ''صرفنا كل اللي ورانا وقدامنا''، لم يعد للاسره عائل، اضطر ''المغربي'' الانصياع لحديث خاله ''مايدخلش ثانوي يطلع يساعد اخواته''، التحق بدبلوم المعلمين كان افضل من لا شيء، 5 سنوات يحصل بعدها علي مؤهل فوق المتوسط، في القلب غصه، وما باليد حيله ''لما يخلص اليوم الدراسي كنت اشتغل عند الفلاحين''، اما الاجازه فله، استغل موهبته، يكتب لهذا لافته، ويخط لذاك ايه قرانيه علي محله، 30 قرش كان اول مبلغ يتحصل عليه، عرف من وقتها مهنه ''الخطاط''.
استمر الوضع، سام الشاب، العمل مدرس هو المصير المنتظر الذي لم يريده، اراد الالتحاق بالجامعه، افصح عن رغبته لخاله الذي تولي رعايتهم بعد وفاه الاب، ''لو شديت حيلك هدخلك الجامعه''، قالها له، تهللت اسارير ''المغربي''، بذل الجهد حتي العام الاخير، 80% جاءت نتيجته للسنه النهائيه، الحلم يقترب، لكن القدر كان له ترتيب اخر ''يوم النتيجه خالي مات''، مصعوقًا بالكهرباء يوم 24 ابريل 1981.
الاستسلام لم يعرف طريقه قط لـ''المغربي''، اختار ان يروض واقعه من اجل ما يؤمن به، اشتغل بالتدريس، والتحق في الوقت ذاته بمدرسه الخط العربي، لتاتي محطه فاصله في حياه الشاب عاشق الخط العربي.
في عمر الخامسه والعشرين التحق ''المغربي'' بالجيش، لم يعد مفر من تاجيلها اكثر من ذلك بعد تعثر اخيه الصغير في الدراسه، بالقاهره كان اداء الخدمه العسكريه، ''ناس كتير بالنسبه لها الجيش فتره صعبه الحياه بتتوقف فيها''، لكن الشاب العشريني استطاع ان يسخرها، الالتزام اكثر ما زاد من خبرته، مع دقات الخامسه فجرًا يستيقظ الشاب العشريني، 6 جنيهات ونصف كل ما كان يمتلكه في تلك الفتره، ما كان باستطاته مساعده اسرته، قرر البحث عن عمل، تحرك صوب هدفه، العمل بالصحافه، ''مجله الزمالك'' كانت عشق ''المغربي''، يقراها في قريته، فضلاً عن ميوله الكرويه تجاه النادي، لذا ذهب الي هناك.
تقابل للمره الاولي مع رئيس تحرير الاهرام في تلك الفتره ''مرسي عطا الله''، ورئيس نادي الزمالك حينذاك ''محمد حسن حلمي''، لينضم الي المجله، ومن ثم الجريده الرسميه، ''اشتغل ويرموا الشغل في الزباله'' بابتسامه مشيرًا الي سله القمامه جواره بينما يحمل الان لقب مساعد رئيس التحرير الاهرام قال ''المغربي'' عن بدايه عمله، اول عنوان خطه، كان ''لوجو'' جريده الشعب عام 1982، حتي تلك اللحظه خبرته كانت العمل المعتمد علي الموهبه ''انا لغايه دلوقتي بدرس''، اما عنوانه الاول في ''الاهرام'' كان لمقال الكاتب ''رشاد رشدي'' بالصفحه الثالثه للعدد، صدفه كان الامر، تغيب الخطاط الرئيس في ذلك الوقت لاجازه الصيف، ما كان هناك بديل غيره، توالي عمله خاصه في ملحق الجمعه.
اضحت الجنيهات الست، 20 جنيه تزداد باقبال الجرائد والمجلات الاقليميه، ''انا خطاط محظوظ'' يصف نفسه رغم الطريق الذي لم يكن يسير، استقر ''المغربي'' في القاهره عام 1983، حينها عزم استكمال الدراسه الجامعيه، التحق بكليه التربيه –قسم رياضه-، غير انه مع قرار تعينه بـ''الاهرام'' عام 1985 ''سبت التعليم بكل ما فيه''، انشغل بالعمل ''اكون او لا اكون'' هدفه، ولا سبيل الا النجاح.
بالطريق كان ''سمير عزيز'' الاب الروحي لـ''المغربي''، يدعم موهبته بخبره العمل الصحفي ''كان بيتعامل معايا اكتر من الاب''، يمنحه الفرصه، ويجلب له العمل حتي لا تتوقف يداه.
''ثروت اباظه، احسان عبد القدوس، عبد الرحمن الشرقاوي، زكي نجيب محمود'' وغيرهم كان ''المغربي'' خطاط عنوان مقالاتهم بـ''الاهرام''، لم يلتق بهم لكن امضاؤه الذي كان وقتها ''محمد المغربي'' يحتفظ به ارشيف ''الاهرام'' ملحقًا باعمال الكبار.
في التسعينات ''طمعت ابقي صحفي''، لم يكن ذلك ممكنًا، الحصول علي المؤهل العالي حائل امامه، رغم انه كان ''سكرتير فني'' للجريده الرسميه الاولي، ''انا دايما طماع في العلم وعندي عزيمه'' لذلك لم يعبا لابنائه الثلاث، التحق بكليه التجاره عام 1996، ما بين العمل والدراسه المنقسمه للخط العربي والجامعيه ظل ''المغربي''، حتي مرض ابنته الكبري ''هند''؛ ضربه قاسيه في حياه الرجل، فلذه كبده طريحه الفراش لمرض مميت، لكنه قاوم ''كنت بذاكر جنبها في المستشفي''.
رحلت ''هند''، تاركه لابيها ابتسامه لم تفارقه يستمدها من ابنائه ''هاله واحمد''، واصل عمله حتي وردت له عام 2004 فكره الكتابه مع الاستعانه بالخط ''بقيت اجيب لوحه واعمل منها ماده صحفيه''، تحت عنوان ''من روائع الخط العربي'' حمل ''المغربي'' مهمه تعريف ذلك الفن لقراء ''الاهرام''.
لا يعبا ''المغربي'' لمضمون ''المانشيت'' بقدر جوده اخراجه في ابهي شكل، وان كان منها ما يسر النفس وما يوجمها حال ''محد مرسي اول رئيس مدني للجمهوريه''، لم يكن من مريديه، انتخب ''حمدين صباحي'' في الجوله الاولي، ليبطل صوته في الثانيه ''مابحبش الاخوان'' لكنه اعتاد الا يتاثر عمله بانطباعاته، اقل من ثوان معدوده ويعود لحالته التي يتطبع بها لحظه الكتابه.
Comments