المحتوى الرئيسى

التلاعب بعقل المصريين.. خبرة فترة أسرة محمد علي باشا

09/25 16:42

ان خبره تزييف الحقائق حول الحاكم واصوله وخصائص شخصيته قد تنجح في احداث قدر من تغييب عقول البعض لبعض الوقت، لكن هذه العمليه تنطوي ايضا علي "صناعه الخطر" في ظل الازمات المستعصيه في اداره شئون الحكم!

ان الغارقين الي اذانهم في بؤس الواقع، والمحرمون والمضطهدون ليست لديهم رفاهيه الاستماع للوعود والامنيات او للمزيد من الاكاذيب؛ وهو ما ينذر بظهور اجتماعي للشعب، ولو بشكل فج في مسار العمليه التاريخيه؛ مع الاخذ في الاعتبار انه بين خدر الوعي وبؤس الواقع مسافه تعد في اغلب الاحوال نسبيه وتختلف من شعب لاخر.

لذا كان عنوان هذا المقال. فلما بلغ خبر كتاب "الامير " محمد علي والي مصر طلب الي احد عماله ان يترجمه له، وان يقرا عليه في كل يوم فصلاً، فلما كان الفصل الثالث، اشاح محمد علي عن عامله، واشار مكتفياً قائلا: "لقد تجاوزنا هذا بكثير، وعبرناه بمسافات.. ولم يعد يجدي معنا نفعاً.. بل مضرته علينا ابلغ".

كان محمد علي يعرف طبيعه الشعب الذي حمله الي كرسي الحكم، فالمصريون اهل فطنه، ولهم تاريخ طويل امتد قرون عديده تسلطت عليهم قيادات اجنبيه وفاسده، لكنها كلها لم تحظ بثقتهم ابداً، فاذا حُدثوا عن الوعود طلبوا الاَماره، والاَماره في عرفهم ولغتهم تعني العلامه والاشاره والدليل والبرهان، وهو ما ظل في سلوكنا واحاديثنا حتي الان؛ فاذا قلت لاحدهم سافعل كذا؛ فسرعان ما ياتي رده: "اعطني اَماره "، وقد قدم محمد علي "اماره السيف" بالقضاء علي خصومه في مذبحه القلعه، واتبعها بـ "اماره الانجاز" بمشاريع العمران الكبيره علي ارض مصر.

ثم كانت الاماره الثالثه عندما انشا "مجلس المشوره"، وجعله عينه علي الشعب، واداته لقياس الراي العام؛ فعرف متي يمضي، وفي اي اتجاه، ومتي يتوقف، ومتي يتراجع. فقد ادرك انه امام شعب له دستوره غير المكتوب الذي صاغ بنوده في كلمات منحوته من ثقافه هي سبيكه رقائق الحضارات.

فكتب الحكمه بحروف المثل الشعبي، وتداولها في استخداماته التي تدور في اغلبها الاعم حول علاقه جدليه بين الحاكم والمحكوم طرفاها غشم الحاكم، وفلسفه مداهنه المحكوم له المبطنه بالكراهيه المخفيه والتي بلعت ذروه ابداعه في مقولتي: "ارقص للقرد في دولته"، و"ان كان لك حاجه عند الكلب، قول له يا سيدي"، ووضع سم النقد في عسل الضحك، فسخر ممن ظلموه؛ فاذا جاءته الفرصه انزلهم من عليائهم ومسح بكرامتهم ساحات الاسواق.

خبره نابليون في الاستخفاف بالمصريين

لقد كانت مهانه نابليون قريبه العهد بذاكرته؛ فقد دخل حضره جناب ساري عسكر الي مصر بالمدفع، وخدع المشايخ الذين البسهم طيلسانات من حرير بالوان العلم الفرنسي ما زالت ممثله في الوان عمائمهم الي اليوم. ولم يسلم من الخديعه الاعيان والتجار فصار بينهم الحاج محمد نابليون حامي حمي الاسلام، ودرويش حلقات الذكر.

لكن حيله لم تنطوي الحرافيش الذين تجمعوا ضده دون رئيس يسوسهم او قائد يقودهم، فشقوا عصي الطاعه، ورشقوه بالنكات البذيئه، وسلقوه بالسنتهم، وامعاناً في السخريه منه ابدعوا شخصيه "علي كاكا"، وصنعوا منها دُمي من الحلوي وطافوا بها في الموالد والحارات؛ فاخرجوه من المحروسه مهانا بالنكته التي اصابته في رجولته فافقدته هيبته واضاعت احترامه وجعلته وجنوده مسخره الرجال.

وحيال هذه الواقعه يقول الجبرتي:" فلما بلغته الاضاحيك (النكات) امر جماعه من اتباع الشرطه بشق الاسواق والحمامات والقهاوي ونبهوا علي الناس بترك الفضول والكلام واللفظ في حق الفرنسيس، وقالوا لهم: من كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الاخر فلينته ويترك الكلام في ذلك؛ فان ذلك مما يهيج العداوه". ويضيف الجبرتي: "وربما قبض علي البعض وعاقبوه بالضرب والتغريم". ويؤكد الجبرتي: "ان الاضاحيك لم تتوقف ولم تنته".

فالسخريه هي سلاح المصريين القاتل دون اساله دماء، ولهم معها عِشره وتاريخ؛ وهي اعلامهم البديل Alternative Media. فالسنه المصريين هي التي اردت كافور الاخشيدي سقيم النفس، عليل الجسد، حتي تواري في التراب. فقد ظن ذلك العبد الخصي الاسود ان الزمن قد صفا له باغتصاب الاماره، فاستقدم الشعراء مادحين، فجاءه المتنبي طامعا في ولايه اماره تفتح الطريق الي مصر امام بني جلدته من القرامطه؛ فانشد فيه ما سبق ان انشده في غيره:

علي قدر اهل العزم تاني العزائم *** وتاتي علي قدر الكرام المكارم

بلغت مقـــدار الشجـــاعه والنهي *** الي قول قوم انت بالغيب عـالم

ولم تفلح ماشطه الماجورين من الشعراء في تجميل الوجه العكر لذلك العبد الخصي الاسود؛ فذهبت اكاذيبهم ادراج الرياح، وبقيت الحكمه التي رددها المصريون ماثله في الوعي الجمعي لاحفادهم الي يومنا هذا:

لا تشتري العبد الا والعصا معه *** ان العبيد لانجاس مناكيد

خبره المعز لدين الله الفاطمي

ومضي كافور، وجاء المعز لدين الله الفاطمي لاول مره الي عاصمه مُلكه القاهره، فاجتمع نفر من اهلها وذهبوا اليه يسالونه عن نسبه وحسبه؛ فامتشق سيفه قائلا: "هذا نسبي"، ونثر الذهب علي رؤوسهم قائلاً: "هذا حسبي"؛ بينما راح دعاته في الاسواق والجوامع يغزلون له ضفيره من نسب الي فاطمه الزهراء بنت سيدنا رسول الله، فلما صعد المنبر في اول جمعه، وجد قطعه من رق كُتب عليه:

انا سمعـنا نســـبا منكــراً *** يُتلي علي المنبر في الجامع

ان كنت فيما تدعي صادقاً *** فاذكر لنا اباً بعد الاب الرابع

وان تــرد تحقيق مــا قلته *** فانسب لنــا نفسك كالطـــائع

او فادع الانساب مستوره *** وادخل بنا في النسـب الرابع

فان انساب بني هـــــاشم *** يقصر عنها طمع الطـــــامع

ذهب المعز بسيفه وذهبه، وجاء العزيز بالله، فادعي حلول نور الله في الائمه، وان الائمه خلقوا من نور الله، وانهم يعلمون الغيب؛ فسخر منه المصريون، فلما صعد المنبر في يوم الجمعه وجد رقعه كُتب عليها:

بالظــــــلم والجـور قد رضينا *** وليس بالكفر والحماقه

ان كنت قد اُعطيت علم غيب *** فقـل لنا كاتب البطـــاقه

ولم يجد العزيز بالله بداً من ان يامر مناديه ان يطوف بالطرقات مُكذبا امر ما ردده البعض من ادعاء معرفته بالغيب.

وذهب العزيز بالله، وجاء الحاكم بامر الله، فادعي اللاهوت بمعني حلول الله فيه، وجاء بالشعراء يطرون في صفاته الالهيه فقال فيه ابن هانئ:

ما شئت انت لا ما شاءت الاقدار *** فاحكم فانت الواحد القهار

وانطلق المصريون ينصبون له الحيل للسخريه منه، ويؤلفون عنه الاضاحيك؛ فاسرف في القتل، وقطع الالسنه حتي اصابه الجنون، واضطرت اخته غير الشقيقه من ام نصرانيه لقتله، وتولي غلمان الدوله العبيديه الحكم من بعده. غير انه لم تعد هناك مقومات دوله، فسقطت بخطبه جمعه دعا فيها وعاظ المنابر للخليفه العباسي!

وجاء الايوبيون، فانجزوا الكثير من الاصلاحات وامتلات خزائن الدوله بالاموال، لكن وزيرهم بهاء الدين قراقوش كان سلطه بلا قلب، فاذاق المصريون من امرهم عسرا، فكانت مقاومتهم له؛ فالاراجوز هو تحوير لاسمه من "قراقوز" الي "اراجوز" اي بهلون، وذهبت الانجازات وبقيت سخريه المصريون؛ ففي كتابه بعنوان: "الفاشوش في حكم قراقوش" يقول اسعد ابن مماتي: "ان قراقوش احضر القاضي وساله قائلاً: "كل امير يختار لنفسه لقباً دينيا مثل المعتصم بالله، المستنصر بالله، المعتز بالله، فاي الاسماء تختار لي؟!" فقال القاضي: "اعوذ بالله".

ذهب قراقوش، وبقيت ضحكه الاراجوز التي اطارت النوم من عينيه؛ فلما جاءت دوله الاتراك اذاقت الناس من امرهم عسرا علي مدي 500 عاما حتي ذهبت.. لكن بقيت مخطوطه الشيخ يوسف الشربيني بعنوان: "هز القحوف في شرح قصيده ابو شادوف" شاهدا علي ظلمهم وجرائمهم وجزءاً من حضاره شعب وشاهداً علي قدره هذا الشعب علي الابداع وصياغته في رسائل بالغه الايجاز.. سريعه الانتشار.. شديده الوجع.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل