المحتوى الرئيسى

«الأستاذ» في عيد ميلاده يدعو «السيسي» أن يطرح رؤية واضحة للمستقبل ويختار القوى التي ستدعمه

09/24 14:56

لعل هذا الموضع من سياق هذا الحديث مناسب لعرض كشف حساب يتصل بجانب آخر من تلك المرحله‏:‏

ــ عندما بدات التدريب العملي ‏ــ مع الدراسه النظريه‏ ــ‏ رفيقا لثلاثه من الزملاء غيري في جريده‏ «الإجيبشيان جازيت‏» ــ‏ قررت اداره التحرير ان تصرف لكل منا بدل انتقال قدره جنيه واحد كل اسبوع‏ ــ‏ اي اربعه جنيهات في الشهر‏.‏

ــ وعندما عدت الي الجازيت بعد الاشتراك في تغطيه معارك العلمين ــ‏ بعين وطنيه لحرب عالميه تجري علي تراب مصري ‏ــ‏ تحول بدل الانتقال الاسبوعي الي مرتب شهري مقداره اثنا عشر جنيها في الشهر ثم زاد الي ثمانيه عشر جنيها في الشهر اوائل سنه ‏1945.‏

ــ وعندما التحقت بالعمل في‏ «آخر ساعة» مع الاستاذ‏ «محمد التابعي» كان المرتب الذي تحدد لي خمسه وثلاثين جنيها في الشهر‏.‏

ــ وعندما انتقلت مع‏ «اخر ساعه» الي‏ «اخبار اليوم‏» 1946‏ ــ وقد اصبحت سكرتيرا لتحريرها تحدد مرتبي بـخمسه واربعين جنيها في الشهر‏.‏

ــ وعندما عملت مراسلا متجولا لاخبار اليوم مسئولا عن تغطيه الشرق الاوسط وتقلباته ــ وفيها قضيه فلسطين ــ والحروب الاهليه في ايران والبلقان والانقلابات السوريه وعمليات العنف التي غطت وجه العالم العربي بالدم ــ عدت لاجد مرتبي مائه جنيه في الشهر‏.‏

ــ وعندما اصبحت رئيسا لتحرير‏ «اخر ساعه» اواخر سنه‏ 1951‏ جري تعديل مرتبي ليصبح مائتي جنيه في الشهر مع نسبه في ارباح المجله توازي ‏4%‏ مما يتحقق لها بعملي فيها‏.‏

ــ وفي مايو ‏1952‏ اضيفت الي عهدتي مهمه اداره تحرير جريده‏ «اخبار اليوم» واعلن رسميا عن رئاستي لتحرير‏ «اخر ساعه» ووصل مرتبي الي ‏360‏ جنيها في الشهر‏.‏ (‏في نهايه‏11‏ سنه من العمل في اخبار اليوم استحقت لي مكافاه نهايه خدمه ‏7442‏ جنيها مصريا‏).‏

ــ وعندما عرض علي اول عقد لرئاسه تحرير‏ «الاهرام» سنه ‏1956ــ‏ سري تنفيذه بعد عام‏ ــ‏ وضعت امضائي عليه مقتنعا‏ (‏لاسباب ليس هذا اوانها‏)‏ وكان العقد بمرتب قدره سته الاف جنيه في السنه تضاف اليها حصه في ارباحه مقدارها ‏2.25%‏ اذا استطاع جهدي تعويض خسائر عشر سنوات سابقه‏.‏

ولم يكن‏ «جمال عبدالناصر» متحمسا لانتقالي الي‏ «الاهرام» بل كانت الافضليه عنده ان اقبل رئاسه تحرير‏ «الجمهوريه» باحقيه انها جريده الثوره التي صدر امتيازها باسمه‏،‏ ولم اتحمس للعمل في جريده ثوره‏،‏ وانما كانت حماستي لجريده طبيعيه ــ لها اصحاب ولها قراء‏.‏

ــ وعندما اعلنت القوانين الاشتراكيه وضمنها ربط الحد الاعلي للمرتبات بخمسه الاف جنيه سنويا نقص مرتبي الف جنيه في السنه وذابت تلك النسبه المقرره لي في ارباح‏ «الاهرام» وكانت قد بدات تعطي ما دعاني الي توظيف حصتي منها في شراء مجموعه اسهم في الشركه المالكه للاهرام لكن قانون تنظيم الصحافه جعل من هذه الاسهم صكوكا تذكاريه‏ ــ‏ اتاملها الان بعض المرات‏ ــ‏ واتبسم‏!‏

ــ وعليه فانني لمده خدمه طالت في‏ «الاهرام» سبع عشره سنه كنت اتقاضي خمسه الاف جنية مصري في السنه تحول الي حسابي كل شهر في البنك الاهلي ‏(‏الفرع الرئيسي‏)‏ بما صافيه ‏286‏ جنيها و‏450‏ مليما ‏(‏بعد الاستقطاعات القانونيه وضريبه كسب العمل‏).‏

‏(‏وكان ذلك المبلغ اجر خمس مسئوليات اقوم بها في نفس الوقت‏:‏ رئيس مجلس اداره ــ رئيس تحرير ــ مخبر سياسي موثوق المصادر ــ كاتب مقال اسبوعي‏ «بصراحه» واخيرا مسئول عن مشروع تجديد الاهرام‏).‏

ومن باب استيفاء كشف الحساب فان مقالي الاسبوعي‏ «بصراحه» ترتبت علي نشره في الخارج حقوق اضافت الي دخلي وكنت قد عهدت الي احدي وكالات الانباء المصريه‏ (‏وكاله انباء الشرق الاوسط‏)‏ بعقوده تاركا لها متابعه التوزيع والتحصيل مقابل نسبه قدرها ‏20%‏ ولولا مدخول هذه الحقوق لما تيسر لي التوفيق بين المطالب والضرورات‏.‏

ويقتضي الانصاف بيان ان مرتبي ظل يقيد لحسابي في البنك الاهلي لاكثر من سنه بعد ان تركت خدمه الاهرام‏،‏ ثم توقف التحويل حين احلت الي التقاعد ‏(‏فبراير ‏1975)‏ بقرار من الرئيس‏ «السادات» الذي نفد صبره‏،‏ وكانت تلك نهايه اي حساب لي في خدمه‏ «الاهرام‏».‏

‏(‏وقد اعتبرت ان مرتب تلك السنه الذي وصلني اجرها دون عمل ــ‏ مكافاه لنهايه الخدمه واغلقت دفاتر تلك المرحله مستريحا وراضيا‏).‏

هكذا مع اوائل السبعينيات‏،‏ وعند نقطه منتصف العمر وجدت نفسي امام ضروره الاختيار من جديد وكانها نقطه الصفر‏،‏ اعود اليها في قرار عملي ومستقبلي‏.‏

ولم يخطر علي بالي من قبل ان ذلك الذي واجهته سنوات الصبا الباكر سوف يعود ليفرض نفسه علي بعد ثلاثين سنه‏!‏

وكان جليا في اعماقي ان حقي في الاختيار محدد‏.‏ ولا اقول محدودا‏!‏ ــ ومجاله بالتاكيد تلك المهنه التي تعلمتها ومارستها ووجدت لنفسي فيه مجالا وموقعا‏.‏

ولم يكن في احلامي جناح النسر في فضاء ــ ولا كان في حسابه قفص الببغاء واسلاكه‏!‏

وكان مستحيلا‏..‏ بعد ما جري‏،‏ ان اجد عملا او مستقبلا في مؤسسات الصحافه المصريه ــ ولا كنت اريد‏.‏

وكان صعبا علي لاعتبارات متداخله ــ ان اقبل عرضا خارج مصر يجيء من العالم العربي‏،‏ وقد تلقيت بالفعل عروضا محدده‏:‏ اولها من دوله خليجيه كريمه سالتني اذا كنت مستعدا لقبول منصب مستشار فوق العادي للامير ــ وشكرته عارفا بالجميل ــ وكان الثاني عرضا من مجلس قياده الثوره الليبي حمله الي احد اعضائه البارزين والاقتراح ان اقوم علي انشاء مشروع صحفي عربي كبير في بيروت ــ يتوافر له كل ما اطلبه من موارد واديره باقصي قدر اتمناه من الحريه‏.‏

ومره اخري شكرته عارفا بالجميل، ولم يكن في موقفي شيء من البطر او التكبر وانه كان في حسابي اعتبار ان‏:‏

ــ انني بعد علاقه من نوع خاص مع جمال عبدالناصر ــ ودور بلغ درجه مضنيه في الاهرام ــ لا املك غير ان اكون صارما مع نفسي مهما يكن او يكون‏ (‏ليس ذلك جناحي نسر‏).‏

ــ انني لا استطيع نفسيا او فكريا ان اؤقلم نفسي مع حياه او عمل (‏اوفر‏)‏ خارج وطني الصغير ــ كما ان دور اللاجئ السياسي لا يستهويني‏.‏

لانه مهما تصلح النيه ويستقيم القصد ــ اعتماد طرف علي طرف اخر ــ وفي وضع غير متكافئ مستشار في خدمه امير ــ او صحفي في خدمه دوله ‏(‏وذلك قفص الببغاء ذاته‏).‏

وفي الحقيقه فقد كانت تصوراته تحوم هناك عبر البحر في اتجاه الشمال حيث الصحافه الاوروبيه ــ وبالذات الانجليزيه فقد كان هناك قارئ سبق له الاطلاع علي كثير مما نقلته وكالات الانباء من بين ما كتبت او تحقيقات متكرره عن دور اقوم به في السياسه العربيه او حوارات اجريتها مع كثيرين في زمن كان يوصف بانه عصر العمالقه‏.‏

ومره اخري تدخلت المقادير احتك حجر بحجر ولمعت شراره‏.

علي انه من دواعي الحمد والشكر‏ ــ‏ ان خلافي مع الرئيس‏ «السادات‏» وما اعقبه تصادف بالتوافق وبالضبط ــ مع مناخ اصبح الشرق الاوسط فيه مناط اهتمام العالم وبؤره النار في قلبه‏،‏ وكذلك التفتت الدنيا ناحيه المنطقه تريد ان تعرف وتتابع وتتقصي وتستوعب وراحت دور النشر في العواصم الكبري ‏(‏لندن وباريس ونيويورك وطوكيو وبرلين وغيرها‏)‏ تتصل بصحفي ظنت انه يقدر علي عرض الشرق الاوسط امام قراء سمعوا عنه واطلعوا علي اعماله وينتظرون منه ان يكتب لهم من الداخل وليس من الخارج وبالعمق وليس بالوصف‏.‏

وحين اقتربت من مجال النشر الدولي مبكرا ــ لم تكن لدي مشكله مع الصحافه ــ يوميه او اسبوعيه ــ‏ فذلك ميدان جربت نفسي فيه واختبرته واعرف ــ الي حد ما ــ دخائله‏،‏ واما عالم الكتب فغريب علي في معظمه ولم يقصر احد في تبصيري‏،‏ وكان بين الناصحين اللورد‏ «مايكل هارتويل» صاحب دار‏ «التلغراف‏» والسير‏ «دنيس هاميلتون» رئيس مجلس اداره‏ «التيمس» وكلاهما صديق قديم من عوالم الصحافه وكلاهما لديه اهتمام بمشروع كتابي الاول عن‏ «ساسه وثوار» صنعوا روح الخمسينيات والستينيات‏ ــ‏ وكلاهما يعرف ان مشروع كتابي فيه فصول عن السويس وهي ‏ــ‏ وقتها وحتي الان‏ ــ‏ قضيه حيه نابضه‏.‏

لكن كليهما ــ «هارتويل» و‏«‏هاملتون» كانا مهتمين بحقوق النشر الصحفي وحدها‏،‏ واما الكتاب فمساله اخري في اختصاص دور نشر لديها خبره السوق وبالفعل وصل النص الي السير‏ «ويليام كولينز‏» (صاحب دار كولينز‏)‏ ــ وبدوره فان السير‏ «ويليام» طلب الي مدير النشر في مؤسسته‏ «روبرت كنيتل» ان يقراه وان ينسخ من اصله صورا لثلاثه قراء غيره‏:‏ استاذ متخصص في الشرق الاوسط من جامعه‏ «اوكسفورد‏» (‏يراجع التاصيل المعرفي في النص‏ ــ‏ مع اعتبار اختلاف المرجعيات‏)‏ وسفير بريطاني سابق خدم في المنطقه ‏(‏يراجع السرد ويستوثق من الوقائع‏ ــ‏ مع اعتبار اختلاف المواقف‏)‏ وقارئ عادي ‏(‏تقاس عليه ما يسمونه‏ «جاذبيه القراءه‏» ــ‏ لان الكتاب في النهايه عرض وطلب‏)‏ وكان داعي التدقيق ان مشروع كتابي حاله سابقه من نوعها في الكتب السياسيه المنشوره والمعروضه تحت نظر القارئ في الغرب‏،‏ فمن قبل كانت اغلب انواع الكتب من وراء البحار ــ ثلاثه‏:‏

ــ ادب يترجم عن لغات اسيويه او افريقيه ليعطي صورا حيه ومشوقه لحياه وثقافه مجتمعات غريبه ــ ويستحسن ان يقع الاختيار علي ما هو مثير للخيال واسطوري‏.‏

ــ او اعمال يقصد منها انتقاء عينات لكتابات صدرت في لغات بعيده ويكون الاطلاع عليها مفيدا وتلك في العاده كميات محدده الطبع محصوره الانتشار‏.‏

ــ واما كتب يتولي مسئوليتها بالكامل اصحابها وعلي حسابهم الخاص ــ دعوه لقضايا او شرحا لاحوال بلاد ــ وذلك ايضا ميدان ضيق ــ ولجمهور لا يجذبه التبشير‏.‏

وكان ساسه الهند اكثر من برع في هذا النوع التبشيري من الكتب‏ (‏ولعل الماده الوحيده التي كانت معروضه امام الناس علي اوسع نطاق هي ما كتبه‏ «غاندي» او‏ «نهرو» عن الهند باعتبار نفاذ سحر هذا البلد في الوعي والوجدان الاوروبي بعموم والانجليزي بخصوص‏).‏

ولم اكن علي علم بتفاصيل ما جري‏ «للنص‏» وربما تحرج بعضهم بظن انني مع تجربه‏ «معروفه» ورائي لن اقبل بشبه‏ «امتحان دخول‏» من اول وجديد‏!‏ ولم يكن ذلك منطقيا مادمت اقترب من ميدان لم اتعرف الي قواعده الا اذا كنت اريد ان اعتمد علي صداقات ووساطات‏،‏ وذلك لا ينفع‏،‏ ومجرد التفكير فيه اذي للنفس قبل الاخرين‏!‏ــ ثم حدث ان مدير النشر في دار‏ «كولينز‏» («روبرت كنيتل‏»)‏ اتصل يبلغني بانهم الان جاهزون للانطلاق وانهم واثقون في الكتاب وشبه متاكدين وان الميزانيه التقديريه الاولي لنشره وقع رصدها في اطار خمسه ملايين جنيه أسترليني وضمنها حمله اعلانيه تتكلف نصف مليون جنيه استرليني تسبق النشر وتواكبه‏.‏

وسالني‏ «كنيتل» فجاه‏: «اذا كنت مستعدا لحضور معرض فرانكفورت بعد شهر ــ لان دور النشر في العالم قاطبه تلتقي هناك‏،‏ وهناك ايضا تطرح مشروعات الكتب المستعده لموسم النشر القادم‏،‏ وهناك في نهايه المطاف يقبل الناشرون علي طلب حقوق كتب يتوقعون رواجها او يمتنعون‏».‏

واضاف‏ «كنيتل» ما مؤداه‏: «اذا استطعت ان تعرض كتابك امام ثلاثه الاف ناشر وفهموا منك تكون تلك مساله اخري لنا ــ ولك ومع اني عرفت ان ما يهمك هو النشر بالدرجه الاولي فان علينا جميعا ان نسلم ان النشر‏ «بيع» بصرف النظر عن اي شيء يقوله اي كاتب‏».‏

وحضرت معرض فرانكفورت وتحدثت مرات امام مئات من الناشرين وشاركت في مناقشات واسعه وبعد يومين مر علي‏ «روبرت كنيتل‏» ــ‏ يقول لي ان اكبر دور النشر في العالم تسابقت علي حقوق الكتاب ‏(«فلاماريون» في فرنسا‏ ــ «مولدن» في المانيا‏ ــ «اساهي» في اليابان‏ ــ‏ الي جانب‏ «كولينز‏» في لندن ونيويورك‏).‏ وسئلت قبل ان اغادر فرانكفورت الي اين اريد تحويل نصيبي من مقدم العقود التي جري الاتفاق عليها في اليوم الاخير من المعرض واجبت‏ ــ‏ دون تلعثم‏ ــ «الي الفرع الرئيسي للبنك الاهلي بالقاهره» وعندما عدت وجدت في انتظاري جائزه وغرامه‏:‏

الجائزه‏:‏ تحويل بمقدار مائه الف جنيه استرليني تمت اضافته الي حسابي كدفعه مسبقه من حساب مقدم العقود‏.‏

والغرامه‏:‏ ان وزير الاقتصاد وقتها‏ ــ الصديق الدكتور‏ «حسن عباس زكي‏» ــ‏ اطال الله عمره ــ‏ طبق علي قواعد التعامل بالنقد الاجنبي ‏ــ‏ وكان ذلك بالطبع قبل ان تهل بركات الانفتاح ويتسع فردوسه الموعود‏ ــ فقام بتحويل الاسترليني الي الجنيه المصري بسعر سبعه وتسعين قرشا ونصف قرش مصري لكل جنيه استرليني‏.‏

ولم افتح فمي بكلمه فقد وجدت عندي في النهايه اكثر مما توقعت واوسع مما احتجت‏!‏

وهكذا فانه في اللحظه التي وقع فيها الحظر علي ما اكتب هنا‏ ــ‏ سقطت الحواجز امامي هناك وبقيت في وطني لم اغادره‏،‏ لكن كتبي ومقالاتي راحت تنشر بايقاع متسارع في عشرات العواصم ‏(‏احد عشر كتابا لكبريات دور النشر الدولي واكثر من اربعمائه مقال وتحقيق وتقرير اخباري احتل بعضها الصفحه الاولي في جرائد بوزن وحجم‏ «الصنداي تيمس» و‏«‏التيمس» و«‏الصنداي تلجراف‏»)‏ وكانت تلك حقبه حافله غطت بقيه السبعينيات ومطالع الثمانينيات ومعظم التسعينيات‏.‏

وبرغم ذلك‏ ــ او ربما بسببه‏! ــ‏ فان الرياح الهوج واصلت هبوبها ذلك ان ما كنت اكتبه في صحافه العالم خارج مصر كان يعود بالطبع اليها‏ ــ‏ وكان عودته اصداء مشوشه بعض الاحيان او مبتوره ناقصه في احيان اخري‏.‏ ومع تصاعد تيارات صدام وعنف دفعت مصر الي اجواء غاضبه‏ ــ‏ فان الرئيس‏ «السادات‏» اضاف بعضها الي مسئوليتي وكذلك تقرر منعي من السفر وسحب جوازي واحالتي للتحقيق امام المدعي الاشتراكي الاستاذ‏ «انور حبيب» الذي ادار استجوابي بنفسه ومعه المستشار‏ «عبدالرحيم نافع» والمستشار ‏(‏الصديق فيما بعد‏) «احمد سمير سامي» ولم يصل التحقيق الي نتيجه لان موضوعه كان تفتيشا في التفكير والضمير عن اراء ومواقف‏،‏ والمطلوب منه اثبات ان ما اكتبه خارج مصر‏ ــ‏ مقيما فيها ومحكوما بقوانينها العاديه والطارئه‏ ــ‏ يسيء الي سمعتها ويشوه صورتها‏ ــ‏ ويستوجب اجراء‏.‏

جانب ذلك فقد وجدتني معرضا لتصرفات الاجهزه الظاهره والخفيه للسلطه وحتي للمزاج النفسي للبعض من بعض اصحابه وكان الاغرب صدور قانون‏ «العيب» وهو قانون لم يعرف له مثيل لدرجه ان مستشاري مجلس الدوله‏ ــ‏ تندرا‏ ــ‏ اطلقوا عليه وصف قانون‏ «هيكل‏» وكان ظاهرا ان القانون جري تفصيله علي مقاس بعض الناس كنت بينهم انا‏.‏

‏(‏والشاهد هنا ان ديني كبير لصحافه العالم‏ ــ‏ خصوصا في الغرب‏ ــ‏ فقد وقفت معي بكاملها مدافعه ومناصره برابط التضامن المهني علي الاقل‏،‏ ولم يكن ذلك مهما في حد ذاته وانما المهم ان الاعلام الخارجي ‏ــ‏ ايامها‏ ــ‏ كان مسرح التاثير الاكبر للرئيس‏ «السادات» وكان الرئيس‏ «السادات» بالفعل من المع النجوم في تلك السماء وتنبه الرجل بذكائه الي انه يجازف في الساحه الاوسع لنفوذه‏ ــ‏ وكذلك توقف في منتصف الطريق‏).

وتشرفت بان المحامي الذي حضر التحقيق معي كان ذلك الرجل الصلب المستشار‏ «ممتاز نصار‏» ــ‏ الذي تمكن من الحصول علي تسجيل كامل لوقائع التحقيق نشرته في كتاب ظهر في حياه الرئيس‏ «السادات» واثاره النشر واستفزه ‏(‏وكان للامانه معذورا فقد كانت الجهات الداخليه كلها تضغط عليه ثم ان مبادرته الجريئه تعثرت بين غرور اسرائيلي واهمال امريكي‏) ــ‏ ولم تمض شهور حتي وجدت نفسي ‏(‏سبتمبر‏ 1981)‏ في احدي زنزانات سجن طره ضمن حمله الاعتقالات المشهوره التي طالت كثيرين غيري من رجال ونساء مصر‏ ــ‏ ذلك الخريف الغاضب والحزين‏!‏

وبعد خروجنا جميعا من المعتقل ‏(‏اواخر نوفمبر‏1981)‏ عاودني هاجس الاستئذان في الانصراف مره اخري فتلك نهايه مرحله كواحده فيها بالضروره المهنيه والاختيار السياسي وهي في الوقت نفسه بدايه مرحله اخري مختلفه ثم انني بالعمر قريب من سن الستين وذلك هو التوقيت الطبيعي والقانوني لخروج الناس من الخدمه العامله تلك الايام ثم تذكرت‏ ــ‏ ولعله هواي‏! ــ‏ ان اختراقات الطب الحديث‏ (في مجال المضادات الحيويه بالذات‏)‏ نجحت وازاحت التوقيت المقرر لنهايه الخدمه الي الوراء ما بين خمسه اعوام الي عشره اي انها مدت اجل الصلاحيه للعمل وافسحت واضافت‏.‏

وربما جاز القول ان تجربتي الطويله تلك ــ‏ دراسه لم تنقطع وممارسه لم تتوقف‏ ــ‏ انقسمت الي نصفين شبه متساويين كل منهما ثلاثون سنه‏:‏

النصف الاول‏:‏ مرحله العمل داخل مؤسسات الصحافه المصريه والانتشار منها الي الاقليم والوصول منه الي ابعد، والداعي ان ما كان يحدث عندنا ملا صراعات الخمسينيات والستينيات وبدايه السبعينيات من القرن العشرين وفاض وعليه فقد كان الكل ياخذ عنا ويسمع مباشره منا‏.‏

واما النصف الثاني‏:‏ فهو مرحله الكتابه والنشر من مكتب مستقل محدود‏ ــ‏ مفتوح في الوقت نفسه بلا حدود علي الدنيا الاوسع باللغه العالميه المعتمده‏ ــ (‏الانجليزيه‏)‏ ولجماهيرها عبر القارات وقد انهمكت فيما اؤديه وظننت ــ‏ ولعلي لم اخطئ‏ ــ ان دخول كاتب عربي الي مجال النشر الدولي صالح شخصي ولعله‏ ــ‏ ايضا‏ ــ‏ اضافه عامه‏!‏

وهكذا فان المرحلتين معا‏ ــ‏ داخل المؤسسات الصحفيه المصريه‏ ــ‏ وخارجها من مكتبي ‏ــ صنعتا دوره كامله لان تلك التجربه‏ ــ‏ الدراسه والممارسه‏ ــ‏ لاكثر من ستين سنه مقسومه علي نصفين تحولت بشكل ما الي طريق في اتجاهين عبر جسر‏ ــ‏ وفوق ضفاف وشطان‏.‏

وفي الحالتين فان مجمل الظروف اتاح لي ذهابا وايابا عبر الجسر وحول الضفاف والشطان‏ ــ‏ فرصا نادره تواصلت من اواخر الحرب العالميه‏ ــ‏ حتي بلغت نهايه الحرب البارده اي انها غطت كل النصف الثاني من القرن العشرين‏ ــ‏ والحاصل انها منحتني امكانيه التعرف مباشره علي صناع العالم الحديث وواضعي الاستراتيجيات العليا من رجال الدوله العظام وصناع السياسه وقاده الحرب واعلام الفكر والادب واساطين الصناعه والتكنولوجيا والمال‏.‏

ثم انني تحت الافق نفسه ــ علي الجسر وحول الشطان والضفاف ــ تقابلت وجها لوجه مع افكار العصر الكبري وطموحاته واحلامه ومشروعاته وحروبه وصراعاته وازماته واتيح لي ان اري واسمع وفي كثير من المرات اعيش الدخائل مما كان يجري بل واشارك بقسط ما في وقائعها‏.‏

وعلي موعد غروب القرن العشرين عاودني الاحساس بانني عشت مع ذلك القرن العظيم اكثر من ثلاثه ارباعه دارسا ممارسا وعلي فرض انه بقي عندي ما يمكن او يصح قوله‏ ــ فان اللائق‏ ــ هذه اللحظه‏ ــ‏ ان اتنبه واتذكر‏ ــ‏ والا وقع الانحدار بمجرد الاستمرار‏ ــ‏ اما الي خطا في قواعد الحساب واما الي انكار فعل الطبيعه‏.‏

وعندما تغيرت الظروف في مصر‏ ــ اوائل الثمانينيات‏ ــ‏ تلقيت دعوات كريمه الي الظهور في الصحافه المصريه وترددت واحساسي‏:‏ ان الازمنه تغيرت كما انني تغيرت‏.‏

وتبدي لي كذلك‏:‏ ان عوده الي الصحافه المصريه‏ ــ‏ او نوعا منها‏ ــ‏ محاوله للتكرار لا اتمناها فالتاريخ كما تذكر مقوله شهيره‏ ــ‏ لا يكرر نفسه واذا فعل فهو في المره الاولي مشهد محترم او يمكن ان يكون محترما‏ ــ‏ واما في المره الثانيه فهو استعاده هزليه او يمكن ان تكون هزليه لشيء كان‏.‏

وتبدي لي من قبل ومن بعد‏:‏ انني رجل يحمل علي كتفيه بعضا من حمولات مراحل سبقت وكلها مؤثره علي اردت او لم ارد‏.‏

وفي استطراد يبدو خارج السياق اقول‏ «بصراحه» ان عقده الموقف ــ انه لم تكن فوق كتفي حمولات اريد انتهاز اول فرصه لالقي بها علي الارض كي اتخفف والتحق بالقبائل ــ التي شدت رحالها نحو مراعي الشتاء‏.‏

وانما كان اعتقادي ان حموله اي انسان ‏(‏او غير انسان‏) ــ‏ ثقلان علي جانبين متوازيين ومتوازنين‏:‏ ثقل من التجربه الذاتيه وكيف تعامل صاحبها مع الدنيا والناس وتصرف‏.‏

وثقل اخر من الزمان الذي عاشه صاحب التجربه وشارك في صنعه حتي بمجرد انه كائن حي‏.‏

وكان لي تصور لنوع حمولتي وحجمها علي الناحيتين‏:‏

الحموله التي تشمل التجربه الشخصيه‏ ــ‏ وزنها سهل وخفيف وامرها متروك لمن يعنيه الامر ويهمه‏!‏

والحموله التي تشمل تعاملي مع الحياه والزمن‏ ــ‏ قضيه معقده لانها حق مشاع لكل الناس موصوله بحركه التاريخ ومتجاوزه لحدود الافراد‏.‏

وعلي هذه الناحيه الثانيه ‏(‏الموصوله بحركه التاريخ‏)‏ فانني ‏ــ‏ وبدون تلعثم ــ‏ لم اخف ابدا‏ ــ‏ ولا اخفي الان ــ‏ يقيني بان تلك التجربه التي بدات شرعيتها في مصر فجر ‏23‏ يوليو ‏1952‏ وشقت طريقها في مصر والاقليم والعالم حتي ظهر ‏6‏ اكتوبر ‏1973ــ‏ كانت ظاهره عظيمه في قرن عظيم‏.‏ وكانت شرعيه يوليو‏ «بالاعاره‏» هي التي غطت رئاسه‏ «انور السادات» وعندما حقق الرجل ذاته بقرار الحرب‏ ــ6‏ اكتوبر ‏1973ــ فان‏ «شرعيه يوليو‏» انسحبت لتحل محلها‏ «شرعيه اكتوبر‏» ــ‏ وذلك حقه واستحقاقه‏.‏

وكانت‏ «شرعيه يوليو» ــ وذلك رايي ــ تجربه انسانيه بالغه الحيويه والطموح وهي بالتاكيد اهم تجارب العرب في العصور الحديثه وابعدها اثرا وذكرا ‏ــ‏ علي انها تظل تجربه انسانيه بكل ما يرد علي الانساني من اعراض القوه والضعف‏،‏ والتقدم والتراجع والطموح والاحباط‏ ــ‏ وهي في كل الاحوال عصر يستحق ان يدرس باحترام ويحقق اداؤه بعدل ويحاسب ــ ويحاكم‏!‏ ــ اذا اقتضي الامر ــ وفق قوانين زمانه وهويته ومرجعيته وشرعيته‏،‏ وليس وفق قوانين زمان مختلف ــ‏ ومرجعيات وهويات وشرعيات يحتاج امرها الي كلام ــ وقضاه لا يخفون انهم اعداء وكارهون‏!‏

ولم يفهم‏ «بعضهم» ان الماضي يحاسب ولا يعاقب فعقاب الماضي ظالم باثر رجعي لانه يصبح حينئذ عبئا علي الحاضر والمستقبل ينزل بعد الاوان علي جيل حاضر واجيال بعده الامل في الغد ــ‏ مؤرقا للضمائر بغير ذنب ومضيعا للثقه في المستقبل بتكلفه نفسيه ــ‏ باهظه التكاليف‏!‏

ومن المدهش ان وجه الحقيقه يتبدي بعد ثلاثين سنه من الضباب الكثيف فالشواهد هذه اللحظه تنبئ بان‏:‏ جموح القوه الامريكيه بغير فهم‏،‏ لم يكن ممكنا التعويل عليه بدون تحفظ ــ وان جنون السلاح الاسرائيلي بغير رادع‏،‏ لم يكن مهيا لصنع السلام في اي ظرف وجوع الثراء العربي اكد لسوء الحظ ــ‏ انه لا يعرف كفايه او شبعا وبالتالي فانه لم يكن قادرا‏ ــ بعد‏ ــ‏ علي دور قاطره التنميه وتوفير فرص العمل في المجتمعات العربيه ــ وان حاله الانفراط التي اصابت الرابط العربي المشترك لم تؤد الي خلاص الاوطان العربيه او عزتها وانما وصلت بها الي حاله من الاستباحه الكامله لاستقلالها بل ولوجودها من الاساس‏.‏

وتلك كلها امور تستحق التامل والدرس امام اعصار عات ــ لا يستعاد بعده ما كان قبله وانما تستدعي لصده كل ملكات الامه والمخزون من ارادتها والمتيقظ من فكرها وعلمها‏.‏

وفي المحصله‏ (‏ومع الاعتذار عن هذه الوقفه الاعتراضيه‏) ــ‏ فان هذا الجانب من حمولتي ليس حنينا للذكريات وانما بالدرجه الاولي محاوله لاعاده الفحص والدرس لمرحله لا تنسي علي هدي تقدم ولا يتوقف‏.‏

ومن تلك الاسباب مجتمعه ترددت حين انفتح امامي الباب لنوع من العوده الي القارئ المصري ‏ــ‏ وعلي منابره التقليديه‏.‏

ومن باب اداء الحق لاصحابه فقد بدا الاستاذ‏ «مكرم محمد احمد‏» اول محاوله لفتح باب العوده امامي وبالفعل كتبت لمجله‏ «المصور» مجموعه من سته مقالات عرضت فيها تصوري للممكن والمطلوب في مرحله مستجده وطلبت من الاستاذ‏ «مكرم» عارفا طبيعته ــ‏ مقدرا لالتزامه المهني وتمسكه‏ ــ‏ الا ينفرد في هذه المقالات السته بقرار ورجوته ملحا ومخلصا ان يراجع قبل ان ينشر‏.‏

وحدث بعد اسبوعين ان مجموعه المقالات السته التي كتبتها للمصور عادت الي يحملها الدكتور‏ «اسامه الباز‏» مصحوبه برساله شفويه رقيقه تقبلتها برضا واحترام وملخص الرساله‏ «ان ما كتبته في المقالات السته يسبب احراجا في الوقت الحاضر ثم ان الامر متروك لي» وكان ردي دون تحفظ انني اخر من يخطر له احراج نظام لا يزال يحاول ــ اوائل سنه ‏1983ــ‏ تثبيت اوضاعه واستجماع خطوطه للقيام علي مسئوليه الوطن في ظرف دام ومحتقن ــ‏ وازحت المقالات السته جانبا لم انشرها لا في مصر ــ ولا خارجها ــ حتي بعد مرور عشرين سنه‏!‏

ومرت سنوات ثم زارني الصديق الاستاذ‏ «ابراهيم سعده» بتحفزه الدائم وجسارته الشهيره طالبا ان اكتب في‏ «اخبار اليوم» وضعفت امامه وكتبت مقالين لمست بنفسي ما جري بعدهما وخفت علي رئيس تحرير‏ «اخبار اليوم» واعفيته من نشر المقال الثالث راجيا مصرا‏ ــ‏ ومن باب القلق عليه‏.‏

واخيرا توصل الاخ والصديق الاستاذ‏ «ابراهيم نافع‏» ــ‏ بهدوء وصبر ــ الي الصيغه الموفقه فقد تفاوض مباشره مع دور النشر التي تصدر عنها كتبي في لندن وحصل علي حقوق الطبعه العربيه الاولي لسته كتب توالي ظهورها عن الاهرام‏ (‏وكان ذلك تلاقيا حتي علي الورق بالكلمات‏ ــ‏ مع اسره عشت معها اكثر من سبعه عشر عاما‏ ــ‏ ولا تزال‏ ــ عبر طول السنين‏ ــ‏ عزيزه علي وغاليه‏).‏

ــ ومشت عقارب الساعه حتي وصلت الي دار الشروق تتحمل مسئوليه ما اكتب وتضعه بانتظام‏ ــ‏ بين اغلفه كتب تصل الي قارئها كما يصح ان يصل الكتاب‏!‏

ولم اكن اتمني اكثر من ذلك فقد كان قصاري ما ابتغيه في مصر نافذه‏ ــ‏ لا ساحه ولا شرفه ــ‏ وانما طاقه في جدار اطل منها علي ما يجري واتابع مهتما ومعنيا متحدثا بين الحين والاخر براي في جريده ــ‏ مما راح يصدر سواء عن الاحزاب معتمدا علي رخصتها‏ ــ‏ او مستقلا يصدر عن زملاء واصدقاء لديهم الموهبه والطموح يكافحون في ظروف اقتصاديه لاجتذاب قارئ يتزايد احساسه بالملل‏! ــ‏ الي جانب محاضره سنويه واحده في منتدي عام ‏(‏مثل معرض الكتاب السنوي ــ‏ او جامعه القاهره‏ ــ‏ او الجامعه الامريكيه‏)‏ وكان ذلك يكفيني وبالقدر الذي حسبته متوازنا‏.‏

لكن العوائق راحت تظهر علي الطرقات واحدا بعد واحد‏.‏

وفي سبتمبر‏1999‏ ــ دق جرس له رنين فقد وقع في اثناء مراجعه طبيه دوريه ان‏ «علي هيكل» اكبر ابنائي واقرب اطبائي ‏(‏وهو استاذ في كليه الطب بجامعه القاهره‏) ــ اكتشف وجودا ملحوظا لخلايا مريبه‏ (‏سرطانيه بطبيعتها‏) ــ‏ ومع ان نشاطها‏ «الان‏» ضعيف ومحصور فان احدا لا يستطيع ضمان الا تشتد ضراوتها وتزيد سرعتها وتنفلت منتشره وقرر‏ «علي» ان يتوسع في الفحص واذا بؤره خطيره اخري تظهر علي صور الاشعه‏.‏

والتقي لفيف من الاطباء‏ ــ‏ بينهم الصديق والعميد الدكتور‏ «محمد عبدالوهاب» والجراح الكبير الدكتور‏ «اسماعيل شكري» والمنظم الطبي البارع الدكتور‏ «حاتم الجبلي» والدكتور‏ «عمرو مسعود‏» وجلست امامهم واذا الاجماع ان الموضع الاول للخطر يحتاج الي علاج بالاشعاع‏ ــ‏ في حين يحتاج الموضع الثاني الي مبضع جراح وكان هناك اتفاق علي ان الجراحه اولي بالسبق والاشعاع عليه الدور بعد اسابيع والولايات المتحده الامريكيه يتحتم ان تكون مقصدي وبسرعه وسالت اذا كانت هناك بدائل اخري في مصر او قريبا منها ولم يقبل‏ «محمد عبدالوهاب» ورد بانه‏: «اذا كان الاكثر تقدما في اطار ما اقدر عليه‏ ــ‏ فلماذا القبول بغيره في شان يتعلق بالصحه‏».‏

واضاف‏: «ان الجراحه الشائعه عموما في مثل هذه الحالات تختصر الطريق باستئصال الكليه لكن هناك استاذا امريكيا استطاع تحقيق اختراق مهم يركز علي الكشط والتطهير ومع انها جراحه متناهيه في الدقه الا انها تساوي المخاطره لانها ــ‏ في حال نجاحها‏ ــ تحتفظ بالكليه شبه سليمه وقادره علي اداء وظائفها‏.‏ وفي دقائق تلاقت الاراء علي الدكتور‏ «اندرو نوفيك» الجراح المشهود له عالميا في هذا التخصص ثم تلت ذلك اشارات الي الدكتور‏ «باتريك كوبليان» استاذ الاشعاع الذي لفت الانظار في الولايات المتحده‏ ــ‏ يتولي الجزء الثاني من العلاج ولحسن الحظ كان الرجلان ــ‏ وقتها‏ ــ‏ يعملان في مركز طبي واحد هو مؤسسه‏ «كليفلاند‏» ذائعه الصيت في ولايه‏ «اوهايو‏».‏

ووصلت الي‏ «كليفلاند‏» ــ‏ نوفمبر ‏1999ــ‏ وفي انتظاري علي مدخل مطارها الدكتور‏ «فوزي اسطفانوس» وهو احد اساطين تلك المؤسسه الكبري وكان الدكتور‏ «فوزي» يحمل معه جدولا لمواعيدي جاهزه‏.‏

وحين التقيت الدكتور‏ «نوفيك‏» ــ‏ ومعه مساعده المصري المتميز الدكتور‏ «عمرو فرجاني‏» ــ‏ لفحص يسبق الجراحه فاجاني الدكتور‏ «نوفيك» باسماء كثيرين اتصلوا به او بمكتبه يسالون ويوصون وكان بينهم‏ «رئيس دوله» سبق للدكتور‏ «نوفيك» ان عالجه وتفضل ذلك الرئيس واتصل يقول للطبيب‏: «ان مريضه الجديد رجل يحب ان يفهم كل شيء بالعقل قبل اي تصرف بالفعل» وكذلك تصور الدكتور‏ «نوفيك‏» ان عليه تقديم شرح وافٍ عن الاحوال والاحتمالات واستمعت اليه صامتا لدقائق ثم رجوته الا يحير نفسه في كل ما بلغه من قبل وقلت بعفويه‏: «انه يتعامل مع رجل لم يعد في الاربعين او الخمسين وانما رجل تجاوز الخامسه والسبعين واي عاقل يبلغ هذه السن بامان لا يحق له نسيان ان المجهول المحيط به ــ عليه غوائل تنتظر والسؤال في شانها لا يكون بـ‏:‏ هل ولكن بـ‏:‏ متي‏!‏ ثم اي الغوائل الكامنه في المجهول تسبق غيرها الي المعلوم؟‏!‏

واستفسر الدكتور‏ «نوفيك» متحيرا‏: «اهي روح الشرق‏» ــ‏ وقلت‏: «بل حقيقه الحياه‏!» ثم اضفت‏: «انني رجل محب لهذه الحياه ومغرم بها‏ ــ‏ وفي الوقت نفسه متصالح ومتفاهم مع ما بعدها فهذه الحياه اعطتني احلي واغلي ما عندها ومن الحق ان ادرك ان ما بعدها موصول بها‏ ــ‏ اتصال النهار مع الليل‏!».‏

‏‏وعلي اي حال فاني خرجت من هذه التجربه سنه ‏1999‏ شاكرا وحامدا فقد كان الخطر سخيا معي ‏(‏بزيارتين في الوقت نفسه‏) ــ‏ لكن الطب الحديث كان رفيقا بي ‏(سليما في الحالتين حتي الان‏(!) ــ‏ تحفظي لاني اتذكر تعبيرا فرنسيا شائعا بانه لا مرتين بغير ثالثه‏!)‏ وقد ظل يقيني في الاول والاخر انها عنايه الله فوق الخطر وفوق العلم‏!‏

علي انه عقب تلك التجربه عاودني مره اخري هاجس الاستئذان في الانصراف لكني اعتبرته علي نحو ما في تلك الظروف‏ ــ‏ تنكرا وربما جحودا‏!‏

ثم حدث في تلك الفتره‏ ــ‏ اواخر ‏2000 ــ‏ ان لاحت امامي اشاره تحذير حمراء فقد غبت عن مصر وقت اجراء الجراحه اكثر من شهر ثم عدت وغبت عنها في طلب العلاج بالاشعاع قرابه الشهرين ويوما بعد يوم‏ ــ‏ بعد عودتي‏ ــ‏ لاحظت اختفاء بعض من اوراقي ومحفوظاتي في مصر‏،‏ وكان اللافت ان بين ما اختفي عشرات من كتبي وعشرات ومع انه كان في استطاعتي ان افهم لماذا تمتد يد الي الاوراق والملفات‏ ــ‏ الا ان اختفاء الكتب حيرني‏ ــ‏ وازعجني الموضوع في مجمله‏ ــ‏ ومع انه لم يكن في هذه الاوراق والمحفوظات والكتب‏ ــ‏ شيء فريد او خطير ـ فان ما حدث كان غليظا‏.

‏ ودعوت اثنين من خبراء الامن المصريين‏ ــ‏ رجوتهما بحث الامر ثم جلست استمع ساعتين ونصف الساعه وخلصت الي ان الخيارات امامي محدوده لان الواقعه كما هو ظاهر ليست جنائيه وانما شيء اخر لا يجدي معه ضيق الصدر او نفاد الصبر ثم ان مجال الظنون فيه واسع خصوصا والتجربه السياسيه التي عشتها لاتزال تهم كثيرين في العالم الخارجي كما في الاقليم‏ ــ‏ او ربما‏!‏

ولكن شاغلي لم يكن هم ذلك الذي اختفي من ملفاتي واوراقي وكتبي في الظلام وانما ثقل ذلك الاحساس بشح بيد مجهوله تمتد خلسه الي ادراج المكتب او رفوف الحفظ ثم تنزع او تقطع او ترفع‏!‏ وتدافعت الي ذهني اسئله كثيره‏.‏

ثم انقضت مفاجاه احداث ‏11‏ سبتمبر في الولايات المتحده وما ترتب عليها‏ (بل وما سبقها منذ استولت المجموعه الامبراطوريه الجديده علي سلطه القرار في البيت الابيض‏) ــ‏ واخذتني عن كل هم اخر فقد بدا المشهد الدولي للجميع وكانه تساقط كتل ضخمه من جبل مهول مسه جنون زلزال‏ ــ‏ ثم راح الاعتي من هذه الكتل يتدحرج متدافعا منقضا علي العالم العربي واحسست ان الحاجه الي الاستئذان في البقاء اشد الحاحا من خاطر الاستئذان في الانصراف وتبدي لي ان المشاركه في البحث عن رؤيه مشتركه للمستقبل القادم اولي واحق بصرف النظر عن اختفاء اوراق وملفات وكتب تخص زمانها الذي يضيع‏ ــ‏ وان لم يضع‏!‏

وحاولت شيئا من تلك المشاركه خلال مجله‏ «وجهات نظر‏» (التي طرحت نفسها منبرا رصينا يحاول ان يستكشف ويستطلع وشجعني ان مقالاتي فيها تنشر في الوقت نفسه بعدد من صحف العالم العربي‏)‏ ثم طرا انني من الرغبه في توسيع نطاق البحث عن رؤيه مشتركه‏ ــ‏ قبلت الظهور‏ ــ‏ بعد تردد‏ ــ‏ علي شاشه قناه تليفزيونيه مصريه ‏(دريم‏) ــ‏ وتقديري‏ ــ‏ بغير تزيد‏ ــ‏ ان يكون ذلك مره واحده كل ثلاثه اشهر والرجاء استثاره حوار يتصل في مصر ويتواصل عبر اوطان الامه‏.‏ ومنتهي القصد ان يساعد مثل هذا الحوار علي تخفيف الشعور بالاحباط والركود والعجز ويشد الي مشاركه واسعه في البحث‏ ــ‏ والكشف بحيث تتمكن رؤي حره ومفتوحه من تجاوز مناطق الشك والخلط والعصبيه وكان اعتقادي‏ ــ‏ دوما‏ ــ‏ ان الخطوه الاولي في اي حوار هي اعاده بناء موضوع الحقيقه باقصي دقه مستطاعه‏ ــ‏ لان اي اختلاف في الراي مضيعه للجهد اذا لم يكن الموضوع عند المنبع واضحا محددا ومتفقا عليه وموصولا بالوقائع والدخائل وليس بالحكايات والحواديت‏!‏

وبدا لوهله ان بعض ما امل فيه‏ ــ‏ ويامل فيه غيري‏ ــ‏ قابل للتحقيق فقد سري صوت الحوار مسموعا ثم ان هذا الصوت اخذ يعلو طبقه فوق طبقه‏.‏

وكان ظني ان رجلا ــ في مثل سني يقر ويعترف بان مستقبله وراءه ــ واقراره مصدق عليه بختم السنين وعددها‏ ــ‏ لم يتبق له غير اداء الحق العام بل ولربما كان عليه ان يوجه الي نفسه‏ ــ‏ وبحزم‏ ــ‏ ذلك السؤال الذي اجراه‏ «شكسبير‏» علي لسان احد شخوصه‏: «اذا لم اتكلم انا‏ ــ‏ فمن‏ ــ‏ واذا لم اتكلم الان‏ ــ‏ فمتي‏».‏

وكانت تلك مبالغه في التفاؤل‏ ــ‏ ربما‏!‏

اي انه بحقائق الاشياء فان الاعتراض علي الحوار‏ ــ‏ كان واردا في المناخ السائد وبالتالي فانه عندما وقع فلم يكن صاعقه منقضه‏ ــ‏ لكن الاسلوب الذي تم به الاعتراض‏ ــ‏ بدا داعيا للاستغراب فيما يعنيه ويدل عليه وكان اسفي انني لم ادفع ضريبه ما قلت بما يحتمله من صواب او خطا وانما دفع غيري وجاء الدفع في موضع الوجع ‏(ومره اخري لا ازيد‏)!‏

وسمعت دعوات نقل الحوار الذي توقف الي‏ ــ‏ مخلصه‏ ــ‏ خارج مصر لانه‏ «موقف» و‏«قضيه‏» ــ‏ والمنطق انني قادر علي الوصول الي العالم العربي والعالم الخارجي حتي اقاصيه ثم ان لي سابق تجربه وخبره في ذلك من قبل ايام الخلاف مع الرئيس‏ «السادات» بعد حرب اكتوبر ‏1973‏ حول قضيه السلاح والسياسه ولم اكن نسيت تلك الموقعه لكني ذكرت نفسي بان المساله هذه المره لها تكييف اخر ففي المره السابقه كان نقل الخلاف بمواصله الكتابه خارج مصر‏ ــ‏ مقبولا لان موضوعه يهم محيطا اوسع اوله العالم العربي في صراعه مع اسرائيل‏ ــ‏ ويليه العالم الخارجي في عموم اهتمامه بسلام الشرق الاوسط‏.‏

واما هذه المره فان موضوع الخلاف احوال مصر واوضاعها ورؤاها ومواقفها وخياراتها وسياساتها في الداخل والخارج واذا جري اعتراض الحوار‏ ــ‏ بالخلاف‏ ــ‏ فوق ارضها فان نقله خارجها ثقيل‏ ــ‏ علي الاقل بالنسبه لي‏ ــ‏ واذا عصيت مشاعري‏ ــ‏ فان الابواب المفتوحه علي مصراعيها في العالم العربي والعالم الخارجي تدعوني الي قول ما اريد وتحتفي به‏ ــ‏ ربما تتبدي امامي حواجز معنويه اتردد قبل القفز عليها اعتبارا لكبرياء وطن وولاء مواطن‏.‏

وكذلك راحت الاسباب تتراكم وتتداخل ويمتزج بعضها ببعض حاضره طول الوقت ومؤثره‏! ــ‏ وبقي في النهايه سؤال‏: «اذا كان الصمت حاضرا والكلام غائبا ومجمل الظروف ما سبق وما لحق والاحوال المصريه والعربيه ما اري ويري الناس اذن فـ‏:‏ الي متي‏ ــ‏ والي اين‏» ؟‏!‏

ومع انني لا اكف عن تذكير نفسي بحكمه عربيه شهيره تقول‏:‏ لعل لهم عذرا وانت تلوم‏ ــ‏ كما اعترف ايضا بـ‏: «ان حبال الصبر تقصر مع طول العمر‏! «فاني‏ ــ‏ متمسك بحدود لا اتجاوزها‏ ــ‏ لا املك ان اقتنع الا بما اراه مقنعا‏ ــ‏ او اغالط نفسي فيما اقرا واسمع واعرف‏ ــ‏ او اصل الي موقف لا يعود فيه عندي غير العجز والايحاء بالاشاره الي انه‏ «في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء‏!».‏

ويقتضي الواجب‏ ــ‏ مره اخري‏ ــ‏ تكرار انه ليس سببا واحدا وانما جمله اسباب تداخل فيها الخاص والعام والسابق واللاحق والمامول والواقع والكبير والصغير والمعقول‏ ــ‏ وكذلك اللامعقول‏!‏

وتحدثت في الامر مع الاقربين وتفهم بعضهم كما ان بعضهم كانت له تحفظات‏:‏

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل