المحتوى الرئيسى

كائن لا تحتمل خفته.. أو كيف تصنع فيلماً جيداً لا علاقة له بالرواية؟! (تحليل بصري)

09/09 19:23

في صالات السينما، حين صدر فيلم The Unbearable Lightness of Being عام 1988، كُتِبَ علي البوسترات:

«مُقتبس عن اكثر روايه غير قابله للاقتباس السينمائي»، وكانت الجمله دقيقه الي حد بعيد، فروايه ميلان كونديرا، التي صدرت عام 1984، وحققت نجاحاً استثنائياً حينها، تتناول في الكثير من الاحيان خواطر وافكار فلسفيه حول الوجود الانساني، اكتر من تتبعها لحكايه بالشكل التقليدي، وما حدث ان فيليب كوفمان، مخرج الفيلم، وكاتب السيناريو مع جون كلود كاريير، قرر ان يصنع الفيلم دون ان يُحاصر نفسه بمحاكاه «كونديرا».

في الروايه، الماضي هو العُنصر الاساسي الذي يعكس من خلاله «كونديرا» اختلاف المعني والوجود في حاضِر ابطاله، في الفيلم، لا يُشير «كوفمان» لهذا الماضي اصلاً، يجعل الحكايه عن الحاضر كله، يعيد ترتيب السرد ليُصبح في تتابع مُنتظم، يُهمّش الشخصيه الرئيسيه الرابعه في الروايه «فرانز» ويجعل فيلمه هو حكايه حُب بالاساس، مُثلّث حُب مُختلف عن اغلب ما عرفته السينما قبلها.

النتيجه هي فيلم «اخف» بكثير من «ثقل» الروايه، ولكنه «شريط بصري» جيد في ذاته.

يَحكي الفيلم، كما الجزء القصصي في الروايه، عن توماس، الطبيب التشيكي المُحب للنساء، الذي تتعدد علاقاته الجنسيه العابره، قبل ان تدخل «تيريزا»، الفتاه الريفيه البريئه الي حياته.

اقدر قرار «كوفمان» بعدم الاعتماد علي الراوي في سيناريو الفيلم، وهي فكره سيفكر فيها 90% من المخرجين الذين قد يُطْلَب منهم اقتباس روايه كـ«خفه الكائن»، ومن ضمنهم «ميلوش فورمان» –مخرج Amadeus- الذي كان المُرشح الاول لاخراج الفيلم، ولكن «كوفمان» حاول كثيراً ان يخلق مُعادلاً بَصرياً لروايه غير بصريه بالمره.

يعتمد المخرج في رؤيته البصريه علي نقطه اساسيه في الروايه، وهي انه «لا يمكن للانسان ابداً ان يدرك ماذا عليه ان يفعل، لانه لا يملك الا حياه واحده، مثل ممثل يظهر علي المسرح دون اي تمرين سابق»، وبالتالي فهو مُنقسم دوماً بين خيارات مُحتمله لا يعرف افضلها، وهو ما يُعبر عنه توماس في جمله حواريه بالفيلم: «لو كانت لي حياتان، كنت ساطرد تيريزا من واحده واتركها لتعيش معي في اخري، ثم اري اي الفعلين افضل واقوم به، ولكننا نعيش مره واحده».

طوال الفيلم، هُناك مُعادل بصري لهذا «الانقسام» الموجود داخل توماس، بين «الخفّه» التي تمثلها حياته وحيداً، وبين «الثقل» الذي تمثله حياته مع «تيريزا»، وهو امر تتم مُلاحقته بالمرايا العديده الموجوده في الفيلم، او بالنور والظّل في احيانٍ اخري.

في تلك اللقطات، وغيرها، هُناك «وجودان» من توماس، هُناك الخفه والثقل، هناك حايه مع تيريزا وحياه بدونها، هُناك التعبير البصري عن ازمته المُستمره.

في مرحلهٍ اخري من الفيلم، يترك توماس عمله في المستشفي بعد الاجتياح السوفييتي للتشيك، بسبب معارضته للنظام الشيوعي، يعمل في تنظيف النوافذ، في الروايه فان تلك الفتره تكون عوده لحياه جنسيه صاخبه لتوماس، في الفيلم.. تُختصر في حادثهٍ واحده، يكون مُعادلها البصري هو فَتح سيده لزجاج النافذه كي يَدخل توماس.

المرايا، او الانقسام، او النُّقطه الفاصله بين الخفه والثقل، كلها امور تبدو واضحه في الكادر، وهو امر يُمكن التقاطه حتي بالانقسام اللَّوني في اللقطه، الزُّرقه الخارجيه والاضاءه الطبيعيه، في مُقابل اللون المائل للحُمره في ملابس السيده الغريبه، المُعادل الابرز للشهوه في الموروث الانساني.

وفي المره الاخيره التي يُقابل فيها «توماس» «سابينا»، صديقته الاقرب وعشيقته غير الاعتياديه، تكون المره الوحيده التي لا يستخدم فيها «كوفمان» المرايه في لقاءاتهما، هي المره الاكثر عاطفهً ربما؟ او مره غير مُنْقَسِمَه يكونا فيها بذاتيهما الكاملتين لانه لقاء اخير؟

في المرحله الختاميه من الفيلم، بعد ان ينتقل «توماس وتيريزا» الي الريف، في المرحله الاكثر هدوءاً ولطفاً من حياتهما معاً، يعتمد «كوفمان» علي لقطات خارجيه، نهاريه دائماً، بالوانٍ فاتِحَه –حتي في ملابسِ ابطاله-، عوضاً عن اخر لقطه، فهما في المدينه التي يكتفها الضباب والزرقه، والاهم من اي شيء.. انه في الريف.. تختفي المرايا تماماً.

وفي الختامِ، يُحافظ الفيلم علي خاتمه الحكايه المرتبه زمنياً في الروايه، لكنه يتلاعب بالحدث، فيجعلها خاتمه فَرحه بصوره او باخري –علي عكس حياديه كونديرا ومعاملته لها باعتبارها حادثه لا اكثر-، حيث يَقول «توماس» لـ«تيريزا»: افكر في مدي سعادتي، قبل ان يَقطع «كوفمان» علي لقطه ختاميه لطريقٍ علي جانبيه اخضر، وتمتلئ الشاشه باضاءه ساطعه.

بخلاف البناء البصري للفيلم الذي يعتمد علي المَرايا بصورهٍ اساسيه، والنور والظل بشكلٍ اقل، فان «كوفمان» يتعمَّد صُنع صوره شديده الايقونيه من «سابينا»، ومن المُقدر فعلاً ان «سابينا» تترك في مُشاهدي الفيلم اثراً عميقاً للغايه، علي الرغم من اننا لا نعرف عنها الا ما نراه، لكن الايقونيه الممثله في القُبعه، النظرات –هناك عَمل رائع من «كوفمان» علي نظرات الممثلين طوال الوقت-، وحدَّه الجسده –طَلَب «كوفمان» من لينا اولين جعل قوام جسدها حاداً طوال الوقت-، جعلا من الشخصيه شيئاً باقياً.

وكان من المُلفت ان «ستانلي كوبريك» نفسه، المعروف باراءه الحاده، امتدح هذا الفيلم، واختص بالمديح مشهد التصوير الطويل بين «تيريزا وسابينا» –الكادر الاخير- ، واعتبره –حسب نقل «كوفمان»- «شيئاً عميقاً للغايه عن النوازِع البشريه».

وفي كل هذا كان النجاح الاهم لـ«كوفمان» هو اعتماده الهويه البصريه لشريطٍ سينمائي، اكثر من التركيز علي ايصال افكار ميلان كونديرا وروايته، خصوصاً مع ادراته دانيال داي لويس ولينا اولين لاداءاتٍ مُناسبه جداً في شخصيات تنطق بالجاذبيه، عوضاً عن جولييت بينوش.. في اداءٍ «واعٍ» جداً بتحوُّلات الشخصيه وكِبَرها مع الوقت، وهو واحد من اجمل الاداءات النسائيه التي شاهدتها في حياتي.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل