المحتوى الرئيسى

جمال فهمي يكتب: الحسناء والوحش

09/05 14:45

أما «حسناء ووحش» الفيلم الرائع الذى كتب له السيناريو وأخرجه بنفسه جان كوكتو (1889 - 1963) هذا المثقف والمبدع الفرنسى النادر ومتعدد المواهب (شاعر وكاتب ورسام وموسيقىّ وسينمائى)، فقد حمل للمشاهدين معانى أكثر تفلسفا وعمقا بكثير من المعنى البسيط الراقد فى ثنايا الحدوتة الطفولية الأصلية المعروفة، وهو ما جعل النقاد والمفكرين الكبار الذين لم يخفوا استنكارهم لاختيار كوكتو تلك الحكاية ليعود بها إلى نشاطه السينمائى فى وقت (1946) كانت بلاده لا تزال تلملم جراح حرب التحرير من الاحتلال النازى، يتراجعون وينقلب موقفهم من إبداء الدهشة والاستهجان إلى الإشادة والترحيب المتحمس بفيلم ساحر، كان له سبق الريادة فى محاولة بث وعى أرقى وأشد إنسانية وأكثر رهافة لمفهوم القبح والجمال، بل الخير والشر أصلا.

و.. ربما كان اهتمام جان كوكتو بالشرق وافتتانه بطرق سرد حكاياته وأساطيره (كتب نصا مميزا عن مصر بعنوان «مهلش») هو سر افتتاح سيناريو الفيلم على النحو نفسه الذى تبدأ به حواديتنا، إذ نعرف بسرعة: أنه كان يا مكان فى سالف العصر والأوان، تاجر واسع الثراء رزقه الله بأربعة أبناء، أولهم هذا الشاب الشقى اللعوب «لودفيك»، ثم ثلاث بنات هن «إدلاييد» و«فليسى» الشريرتان المدعيتان، بينما البنت الثالثة والأصغر «بيل» على النقيض تماما، فهى إلى جمالها الأخاذ رقيقة المشاعر وخلوقة وطيبة جدا (تشبه «سندريلا» فى الحدوتة المشهورة)، وقد جعلتها هذه الصفات مضطهدة ومعذبة ومحسودة من شقيقتيها.

تنطلق وقائع الحكاية (باختصار شديد) ذات مساء، عندما يكون الأب فى جولة داخل غابة كثيفة، ومن دون أن يقصد أو يدرى عواقب فعلته، يقطف الرجل زهرة من مقتنيات وحش مخيف له جسد إنسان ورأس أسد، يعيش معزولا وسط أحراش الغابة فى قصر غامض مظلم.. يعرف الوحش الذى يظهر دائما وهو غارق فى حزن عميق وكآبة واضحة، بما اقترفه التاجر الثرى، فيغضب ويثور، ويطالب بتعويض عن زهرته المقطوفة، هذا التعويض ليس مالا ولا جواهر أو أشياء مادية ثمينة، وإنما ما يريده الوحش هو الجميلة «بيل» التى يطلب أن تأتى لتعيش معه فى القصر حتى يتسامح وينسى اعتداء والدها على زهرته الأثيرة.

الابنة الطيبة المخلصة لا تتردد فى تنفيذ شرط الوحش لكى يعفو عن أبيها، وتقرر التضحية بنفسها والذهاب إلى القصر المخيف، وهى على أتم استعداد لتحمُّل كل صنوف العذاب الذى توقعت أن تكابده هناك، غير أننا وإياها نكتشف أن شيئا من ذلك لا يحدث، وإنما يحدث العكس إذ يبدو هذا الوحش الغامض بالغ العذوبة والرقة فيغمر الجميلة «بيل» بلطفه وكرمه الزائدين، مُظهِرًا حقيقة أخرى مختلفة كل الاختلاف مع الانطباع المرعب الذى يتركه شكله الدميم المشوه.

وفى يوم تعود «بيل» إلى بيتها وأهلها، فيندهش هؤلاء وهم يرون أمارات الهناء والسعادة تلون ملامحها، بينما هى ترفل فى ملابس غالية شديدة الأناقة تبرز جمالها وبهاء طلعتها.. عندئذ يتفجر حقد أختيها عليها ويعود الحسد أقوى مما كان، ثم يبدأ صراع ضارٍ يخوضه شبان الحكاية للفوز بالجميلة الصغيرة، وحرمان الوحش الطيب منها، غير أن هذا الصراع ينتهى بموت الفتى «أفنان» رفيق شقيقها «لودفيك»، بعدما تهور وهاجم الوحش فى عرينه، لكن «وحشنا جميل الطبع» لا يخسر فى هذا الصراع الدموى شيئا سوى جلده وملامحه الخارجية المخيفة بتأثير فورى ومباشر من نظرة حب ساحرة أرسلتها إليه «بيل» فى أثناء المعركة، فيعود جميلا شكلا وموضوعا وجوهرا، وبهذا انتصر الحق والخير والجمال الحقيقى على الشر والقبح المزوق بالكذب.. وتوتة توتة خلصت الحدوتة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل