المحتوى الرئيسى

يوسف الحسن يكتب : الذئب في البيت العربي

09/03 11:19

"داعش" ليست نبتاً شيطانياً، او تنظيماً مستولداً بالانابيب، انه تنظيم سليل فكر وادبيات وفتاوي معلوله .

هو ليس لقيطاً، منقطع الجذور، عما جري بالامس، القريب والبعيد، وتاريخنا، مثل "تواريخ" غيرنا من الامم، لم يكن يوتوبيا، محرره من الغلو والشرور والوحشيه .

ما حدث، سبق له ان حدث، مع تغير الاساليب والادوات والحاضنات .

عرفته اوروبا في النصف الاول من القرن السابع عشر، في حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت .

في مطلع اربعينات القرن الماضي، قدّم ابو الاعلي المودودي في الهند التنظير الاساس للاسلام السياسي، من خلال مفهوم "الحاكميه"، واعتبار ان المجتمعات القائمه اليوم في العالم، هي مجتمعات جاهليه .

في عام ،1958 عثر فتي مصري (نبيل البرعي) من علي سور الازبكيه، علي كتاب يضم فتاوي ابن تيميه الجهاديه، امن الفتي بهذه الفتاوي، وشكل اول مجموعه جهاديه مصريه وعربيه في القرن العشرين، بعدها بنحو ثماني سنوات، انضم ايمن الظواهري واخرون لهذه المجموعه، وجاء كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" ليشكل مرجعيه فكريه اضافيه .

في مصر، ظهر في عام ،1977 تنظيم "التكفير والهجره"، وقاده شكري مصطفي، وخطف وقتل وزير الاوقاف المصري، وقبله نشات مجموعه "الجهاد الاسلامي" التي قادها عبود الزمر ومحمد عبدالسلام فرج . واغتالت السادات، وكذلك نشات مجموعه سلفيه جهاديه اخري، قادها صالح سريه، للهجوم علي الكليه الفنيه العسكريه المصريه، والاستيلاء علي سلاحها في عام 1974 .

في ،1979 قامت "الطليعه المقاتله" للاخوان المسلمين في سوريا، بارتكاب مجزره بشعه لطلاب مدرسه المدفعيه في حلب، بعد ان تم فرز طلاب المدرسه وفقاً لطائفتهم، وتكرر الامر في عام 1982 في مدينه حماه، وسيطرت هذه المجموعه علي المدينه طوال عشره ايام، وحررها الجيش بهجوم قاس، وقدر عدد الضحايا باكثر من عشرين الفاً .

في الجزيره العربيه، كان جهيمان سيف العتيبي، الجندي السابق في الحرس الوطني السعودي، يتردد علي مجالس العلماء، واصدر مجموعه رسائل دينيه، تحدث فيها عن (الخليفه الذي يفرض نفسه علي الناس، ثم يبايعونه) . اعتقل قبل حادث الحرم الشريف . لكن تم الافراج عنه تحت ضغط من بعض العلماء، ثم قاد مئات من المسلحين، واعتصم في المسجد الحرام، واستمر قتالها نحو ثلاثه اسابيع، وقد شارك معه في هذا الاعتصام المصري (محمد شوقي الاسلامبولي)، وسميت مجموعه جهيمان ب "الدعوه المحتسبه" .

مجموعات اخري لا حصر لها، تاسست علي هذا الفكر التكفيري، وعلي مفهوم ان "كل ما حولنا جاهليه"، وان "جنسيه المسلم هي عقيدته"، وكان خطابها ولغتها اقرب الي لغه واحكام الخوارج منها الي التيار السني العام . والصوفيه مثلاً عند اهل هذا الفكر بدعه وضلاله، ومن ثمرات التعلق بالوثنيه، كما اعتبروا ان "اسلام الانظمه كاسلام التتار" حسب ما ورد في كتاب "الفضيله الغائبه" .

في افغانستان وكردستان، تشكلت حركات سلفيه جهاديه كثيره، وكذلك في المشرق والمغرب والجزيره العربيه والساحل الافريقي، وكانت جلها ذات فكر "قطبي"، ومن ابرز قياداتها الجهاديه علي الارض ابو مصعب الزرقاوي، وفاتح كركار، وتطورت مسمياتها لتصبح "القاعده في بلاد الرافدين"، وانضم اليها ابو عمر البغدادي (قتل 2010)، وانتهت معظم هذه التنظيمات الي حصر "جهادها" في العراق وسوريا، لتصبح تحت امره "ابوبكر البغدادي" .

تنظيم "داعش" وامثاله في اكثر من مكان، منتسب او متعاطف معه، يعرفون بعضهم البعض اليوم، من خلال مبدا "اداره الفوضي المتوحشه"، وهو مشروع فكري الفه شخص يدعي (ابوبكر ناجي) من مصر، ونشره عبر شبكه الانترنت، واصدره مركز الدراسات والبحوث الاسلاميه .

"العائله التكفيريه" . . تتناسل يوماً بعد يوم، وتنتج كائنات مغوليه متوحشه، عابره للحدود والازمنه، تركت العقل والنظر، وفكرها يعيش في حضن فقهاء العصر المملوكي (غزو/ فتح/ نفي/ سبايا/ تكفير . . الخ) . ومع ذلك، فقد استقطبت اجيالاً شابه، تعلمت من ادبياتها وفكرها وسلوكاتها وتعليمها الديني، ورات فيها ما يرضي مخيله الشباب المضطربه .

نعم . . هناك من شجع ومول وحضن، وهناك من تغاضي عن "داعش" وامثاله، وهناك من سهل حركته، وهناك من السياسيين والاسلاميين لا يدينون "داعش"، خشيه ان يستفيد من هذه الادانه خصم سياسي! وهناك من يستعد للمشاركه في "الحرب علي داعش"، بعد ان اصبحت هذه الحرب عنوان الاستحقاقين الاقليمي والدولي الداهمين .

لكن اي حرب علي "داعش"، من دون افق سياسي، ومن دون تجديد للفقه الاسلامي، ومن دون تعليم يدخل الاجيال الراهنه عالم العقلانيه واللاعنف . . ستظل محدوده النتائج .

كثيرون يعتقدون ان "الخلافه الداعشيه"، مصيرها الي زوال، امام هذه الجبهه الواسعه من الاعداء ضدها، ستتمكن هذه الجبهه من التخلص من "الخليفه"، مثلما تخلصت من اسامه بن لادن . لكن هل انتهت "القاعده" بموت بن لادن؟ ام تناسلت اشر منها؟

هناك سيناريو يحتاج الي تدقيق اضافي، ومفاده، ان هذا التحالف ضد ارهاب "داعش" (جبهه النصره لا احد يتحدث عنها) سيوقف تمدد هذه "الخلافه"، ولا يستبعد ان يتم ذلك وفق "صفقه"، توافق فيه "الخلافه" علي ضبط غريزتها التمدديه، وتبقي "وطناً" للسلفيين الجهاديين، تروي عطشهم الديني للخلافه الاسلاميه من ناحيه، وتوفر لعامه المسلمين نموذجاً بشعاً لدوله، مقارنه مع نماذج دولهم الراهنه .

في كل الاحوال، هي معركه ليس معروفاً مداها الزمني، ولا مالاتها، لكنها ليست الطريق الوحيد لهزيمه هذا الفكر العبثي والمتوحش .

لقد ذهب هباء، كل ما كتبناه وبشّرنا به، وسوّقناه، عن الوسطيه والاعتدال وحقوق الانسان والتسامح والرحمه، واحترام التنوع والتعدد والاختلاف، والحداثه والتمدن .

كم يشعر المرء بالاسي، حينما يستحضر هذه النماذج "الداعشيه" العابره للجغرافيا والازمنه، كيف كان "الاعتدال" غير قادر او غير راغب في قول كلام حاسم: "ان ما جري ويجري ليس من الاسلام"، و"ان هناك فصلاً نهائياً بين الاسلام والعنف، وان الخلافه هي مساله تاريخيه وليست عقديه" .

الحرب وحدها لا تنهي "الداعشيه"، ولا "الجهاديه المعولمه"، سيتفرق اتباعها في جنبات الارض، وبما يملكونه من جهاله وقسوه . قد تجف منابع التمويل والتسليح، لكن الفكر الداعشي السلفي الجهادي، سيظل يجد من ينظّر له، ويستثمر فيه سياسه ونفوذاً واستقطاباً، وستظل كتبه وفتاوي علماء من زمن مضي، حاضره، في المناهج التعليميه . وفي التبشير بالاستهانه بالدوله الوطنيه والذاكره الوطنيه . وتبني الحاكميه و"الفريضه الغائبه" .

ظهرت السلفيه الجهاديه في القرن الرابع الهجري، ثم تجدد ظهورها في القرن السابع الهجري (فتاوي الجهاد)، ثم ظهرت في القرن الثاني عشر . وها هي اليوم بيننا علي مدي اكثر من تسعه عقود .

نعم . . هناك ازمه عميقه في الفقه السياسي الاسلامي، وسيظل خط الانتاج السلفي الجهادي التكفيري، يفرخ وينشط، طالما هناك فكر معلول سائد، وحَوَل سياسي رسمي وبطاله فقهيه مؤسسيه، تعجز عن تصحيح معني الجهاد، ومقوله اهل الذمه، وتفرط في اعاده الاسلام الي دائره الروح والرحمه والعدل والمحبه، وتتجاهل ان الاسلام هو اسلام المقاصد، لا اسلام اشخاص او علماء، ادخلوا في تاويل الاسلام رغباتهم وظروفهم التاريخيه .

كيف يمكن ان نصدّق ان بعض اهل الموصل من المسلمين، يساعد "داعش" علي الاستدلال علي جيرانهم من الطوائف الاخري؟

نحتاج الي جهات عديده، وعقول حكيمه وعمل مؤسسي مستدام للانشغال في مساله صيانه الدين في ازمنه التغيير، ومن معالجه المازق الذي ادخله فيه الاسلام الحركي .

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل