المحتوى الرئيسى

تنظيم الدولة ونظرية المؤامرة

08/28 15:29

منذ الصغر، تعلمنا في المدارس والمساجد، ان اليهودي ابن سبا هو من اشعل الفتنه بين مسلمين من الرعيل الاول، تسببت، في نهاية المطاف، بمقتل سيدنا عثمان بن عفان، واشعلت فتيل الصراعات بين الاجيال التاليه من المسلمين الي اليوم. وكان جيل الصحابه الذي فتح الشرق والغرب، وهزم الروم والفرس، كان من السذاجه الي حد استطاع فيه يهودي واحد ان يقلب دوله الخلافة الراشدة راساً علي عقب. ثم نتعلم في المدارس والجامعات ان يهود الدونمة كانوا وراء سقوط الخلافه العثمانيه، وان وعد بلفور سبب ضياع فلسطين، وان اميركا وراء تفتيت العراق، وان اسرائيل وراء انتكاسات الثورات العربية ايضاً، وان الغرب والروس والكفار واليهود والشيوعيين هم دائما سبب تخلفنا وضعفنا وهزائمنا.

هذه سردياتنا للتاريخ. تنحو دائماً الي البحث عن اسباب الهزيمه لدي الاخر الذي لا قدره لنا علي التاثير عليه. يتبناها النظام السياسي العربي الرسمي، لتبرير فشله في تحقيق الاستقرار والنمو في المجتمعات العربيه، ويستبطنها خطباء المساجد، في كل يوم جمعه، في خطاب يدّعي الطهوريه المطلقه والمظلوميه التاريخيه. يزرعها النظام التعليمي الرسمي، ويرعاها الاعلام العربي، حتي تنغرس في وعي الجيل الناشئ، وتصبح من المسلمات. ثم تعضدها التربيه المنزليه اليوميه التي تبحث عن المتهم لدي نشوب اي ازمه، وتتجاهل اسبابها.

تتعامل هذه العقليه السائده مع التاريخ ومع الواقع، بمنطق المفعول به الذي لا حول له ولا قوه، وتنتظر ممن تعدهم اعداء الدين والامه، او اعداء الوطن، ان يقدموا لاصحابها الورود، ويمدوهم باسباب النجاح. تتناسي هذه العقليه انّ تقدم الامم والمجتمعات والافراد مبني علي التدافع والتنافس، وان الغرب الذي نتهمه بالتامر علينا هو المنافس الحضاري الاول، الذي يشاركنا حدود الجغرافيا ووقائع التاريخ، ومن الطبيعي، ان لم نقل من حقه، ان يتصيّد عثراتنا ويستغل هفواتنا، لكي يحافظ علي تفوقه وتميزه علي من سينافسه الصداره والحضاره فيما لو استقام حالنا.

لو قيض لمالك بن نبي ان يدرس هذه الظاهره، لخرج علينا بنظريه جديده، مشابهه لنظريته "قابليه الاستعمار"، حيث لا يمكن للمؤامره ان تنجح من دون ان يكون لدينا من اسباب الفشل والوهن والضعف ما ييسر لها اسباب النجاح والتحقق.

ولعل اخطر تجليات هذه الذهنيه في قراءه التاريخ ومحاكمه الواقع تكمن في حرمان الاجيال من التعامل معهما بحس نقدي، يمكن هذه الاجيال من التحليل الصحيح لاسباب الفشل. فطالما كانت اسباب فشلنا هي تامر الاخر علينا، فليس امامنا سوي الانتظار حتي يسمح لنا ذلك الاخر بان ننتصر، وحتي ذلك الحين، سنشبعه شتماً ولعناً في خطاب لا يكف عن ادعاء الصلاح، ولا يكل عن شكوي المظلوميه. او ربما علينا ان نمحو هذا الاخر من الوجود، لكي يبقي هذا الوجود لنا وحدنا، وعندها، لن يتامر علينا احد. فخطباء الجمعه يرددون الادعيه المشهوره في كل اسبوع، فيلعنون هؤلاء "الاخرين"، ويدعون الله ان يفرق شملهم ويستاصل شوكتهم، الا ان دوائر التعريف لهؤلاء "الاخرين" تضيق باستمرار، حتي اصبح الشريك في الوطن، او الاخ في الدين والعقيده هو ذاك الاخر. بل اثبت تنظيم الدولة الاسلامية ان اخوه البارحه اصبحوا، اليوم، هم ذاك الاخر الذي يجب ان يقطف راسه، لكي يستطيع هذا التنظيم النجاح والتمدد وبناء دوله العداله والاسلام، حسب فهمه.

لا تخرج تحليلات مختصينا، اليوم، في غالبها عن هذا السياق، فالمعارضون للنظامين السوري والعراقي يعتقدون ان ايران والنظام السوري يقفان وراء ظهور تنظيم الدوله الاسلاميه وتمويله وتوجيهه، فقد حقق لهم مكاسب ما كان لهم ان يحققوا معشارها بدونه، ووضع العالم امام خيارين: الارهاب او الاستبداد.

وفي الوقت نفسه، تعتقد ايران، ومعها النظام السوري واتباعهما، ان السعوديّه واميركا وقطر يقفون وراء نشوء هذا التنظيم وتضخمه. من النادر ان نجد تحليلاتٍ، تحاول فهم الاسباب الذاتيه التي ادت الي ظهور هذا التنظيم، والتي تكمن، اساساً، في الثقافه العامه التي ساهم الاستبداد في تخلفها، وتكمن في التعليم وفي الخطاب الديني السائد في بلداننا. في حين تجد محللين عديدين يرجعون اسباب ظهور هذا التنظيم وتمدده الي السياسات الاميركيه المقصوده، او غير المقصوده، والي التخاذل الدولي وفشل الامم المتحده، ونقص المدد والسلاح لدي الثوار في سوريه. مع العلم ان هذه العوامل الاخيره لم يكن لها لتنجح، لولا وجود الاسباب الذاتيه التي تولدت منها مصائب التطرف والغلو الذي لم يبدا مع تنظيم الدوله، وانما ساقه هذا التنظيم الي اقصي اشكاله وابشعها.

لا نسعي، هنا، الي نفي وجود المؤامرات في التاريخ وفي السياسه الدوليه المعاصره، الا ان الاعتقاد المطلق بنظرية المؤامرة مع الغياب الكامل لاي عمليه نقد ذاتي حقيقي، هو النتاج المباشر لغياب روح المبادره، ولضعف الثقه في النفس، الناجمه عن عقود الاستبداد، والناجمه، قبل ذلك، عن حاله انكار واقع الانكسار امام ذاك الغرب، المتفوق علمياً وعسكرياً.

نظريه المؤامره هي الناتج العملي للخوف من تحمل المسؤوليه تجاه الحاضر والمستقبل. فهي تمنح اصحابها شعوراً براحه الضمير، ويخفف عنهم ثقل الشعور بالذنب، اذ انهم ليسوا مسؤولين عما الت له الاوضاع، الامر الذي يحرمهم بالضروره من فرصه المراجعه والتصحيح، فالشعور بالالم الناتج عن تحمل المسؤوليه عن الفشل يعد شرطاً لادراك ضروره التغيير وتوليد الدوافع للعمل من اجله.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل