المحتوى الرئيسى

دعاة على أبواب جهنم

08/19 11:46

روي البخاري في “صحيحه” بسنده الي حُذَيفَه بن اليمان - رضِي الله عنه - انَّه قال: كان الناس يسالون رسول الله - صلَّي الله عليه وسلَّم - عن الخير، وكنت اساله عن الشر مخافه ان يُدرِكني، فقلت: يا رسول الله، انَّا كنَّا في جاهليه وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم)، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، وفيه دَخَنٌ)، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: (قومٌ يَهدُون بغير هَديِي، تعرِف منهم وتُنكِر)، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم؛ دُعَاه علي ابواب جهنَّم، مَن اجابَهُم اليها قذَفُوه فيها)، قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: (هم من جِلدَتِنا، ويتكلَّمون بالسنتنا)، قلت: فما تامرني ان ادركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وامامهم)، قلت: فان لم يكن لهم جماعه ولا امام؟ قال: (فاعتَزِل تلك الفِرَق كلها، ولو ان تَعَضَّ باصل شجره حتي يُدرِكَك الموت، وانت علي ذلك)).

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب الفتن، وانه لَيُحدِّثنا حديثًا عجيبًا غريبًا عن واقعنا الذي نعيشه، وما فيه من الفِتَن والبلاء، حتي كانَّ رسول الله - صلَّي الله عليه وسلَّم - بين اَظهُرنا يصف الداء والدواء، ويُرشِد الي المخرج من البلاء.

واوَّل ما يَلفِت النظر هو سؤال حُذَيفَه - رضِي الله عنه - عن الشر دُونَ من سواه؛ فالصحابه يسالون عن الخير وما يتعلَّق به، وحُذَيفَه - رضِي الله عنه - يَساَل - وحدَه - عن الشر، ونحن نري ان الله قد انطَقَه بهذا الحوار، والهَمَه هذه الاسئله؛ رحمهً من الله بهذه الامَّه، فبدون هذا الحوار يُمكِن ان يَلتَبِس الخير بالشر، ويَعجِز المسلم عن التفريق بينهما، او يَكاد.

وبدون هذا الحوار لا يهتَدِي المسلم الي المخرج من الفتن، ولا يدري ماذا يفعل اذا ادرَكَه زمانها.

وحُذَيفَه - رضِي الله عنه - يُخبِرنا انه يسال عن الشر مَخافَهَ ان يُدرِكه، وهو امرٌ لا ينقضي منه العجب؛ لان حُذَيفَه - رضِي الله عنه - يخشي من الشر، وهو يَعِيش في زمان النبوَّه ومكانها، بينما اكثر الناس في عالَم اليوم لا يُفَكِّرون في هذا مع ان الشر قد اَحاطَ بهم، واحاطُوا به!.

وحُذَيفَه - رضِي الله عنه - يَشعُر بنعمه الهدايه، ويَخَاف من زوالها وتحويلها، فيسال: هل بعد هذا الخير من شر؟ ويُتابِع الحِوار فيَظهَر لنا من حواره ان الخير في عصر النبوَّه كان خيرًا خالصًا صافيًا نقيًّا، وانَّه سيَعقُبه شر، ثم يَعقُب ذلك الشر خير ناقص فيه دَخَنٌ؛ اي: شوائب، وهذه الشوائب قد بيَّنها رسول الله - صلَّي الله عليه وسلَّم - بانها: قوم يَهدُون بغير هديه؛ اي: علي غير طريقته، فالمُستَمِع اليهم يري في كلامهم معروفًا يعرفه؛ لانَّه من السنَّه، ويري في دعوتهم ايضًا مُنكَرًا يُنكِره؛ لانَّه بدعه وضلاله، فدعوتهم مَزِيج من السنَّه والبدعه، وخَلِيط من الحق والباطل.

ومع هذا فانَّ احوال الامَّه تَزداد سوءًا، وبُعْدَها عن الحقِّ يَزداد يومًا بعد يوم، حتي انَّ هذا الخير الناقص لا يَدُوم؛ بل يَعقُبه شر قبيح فسَّره الرسول - صلَّي الله عليه وسلَّم - بانه: (دُعَاه علي ابواب جهنَّم)، وهذا يُنبِّه الي خطوره الدعوه، واثرها ودورها؛ لانَّ رسول الله - صلَّي الله عليه وسلَّم - ذكَر ان الشوائب التي علِقَتْ بالخير الذي فيه دَخَنٌ سببها قومٌ يَهدُون بغير هديه؛ اي: دُعَاه مُنحَرِفون عن السنَّه، وانَّ الشر العظيم والفتنه الشديده سببها دُعَاه الي النار.

ومن المعلوم ان المسلم يَثِقُ في الدُّعَاه والعُلَماء اكثر من غيرهم، وياتَمِنُهم علي دينه، ويقبَل دعوتهم وكلامهم.

واكثر المسلمين لا يَتطرَّق الي عقله وجود دُعَاه علي ابواب جهنَّم يُضِلُّون الناس، ويُفسِدون عليهم عقيدتهم وعبادتهم، ويُفتُونهم بغير الحق الذي انزَلَه الله.

ويَسُود فَهْمٌ فاسد لَدَي كثيرٍ من المسلمين خلاصته: انَّك اذا سالت عالِمًا فافتاك، فان المسؤوليه بين يدي الله تكون علي ذلك العالم لا عليك؛ لانك وضعتها في رقبته كما يقولون! وهو اعتِقاد باطل يَرُدُّه هذا الحديث الصحيح؛ فان رسول الله - صلَّي الله عليه وسلَّم - قد حَذَّرَ الامَّه انَّ مَن اجاب هؤلاء الدُّعَاه والعُلَماء الذين يُضِلُّون الناس، فيُحِلُّون ما حرَّم الله، او يُحَرِّمون ما اَحَلَّ الله، او يَدعُون الي بدعه او ضَلاله، او يَنهون عن سنَّه صحيحه.

اقول: قد حَذَّرَ - صلَّي الله عليه وسلَّم - من اتِّباع هؤلاء او الاستِجابه لهم، فقال: ((مَن اجابَهُم اليها قذَفُوه فيها))، ولم يُفَرِّق - صلَّي الله عليه وسلَّم - في تَحذِيره بين مُتَعلِّم وجاهل، او صغير وكبير، ولا بين رجل وامراه.

وكلُّ مَن علم باخبار رسول الله - صلَّي الله عليه وسلَّم - عن دُعَاه الضلاله، فانه لا شكَّ سيَتساءَل: مَن هم؟ وكيف نَعرِفهم؟ وما علامتهم؟ ويَتولَّي حُذَيفَه بن اليمان - رضِي الله عنه - عَرْضَ هذا السؤال نِيابهً عن الامَّه فيقول: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، فيَكشِف رسول الله - صلَّي الله عليه وسلَّم - امرهم، ويَفضَح سترهم، فيقول: ((هم من جلدتنا، ويتكلَّمون بالسنتنا)).

اذًا؛ هم من العرب، يَعِيشون بيننا، يَاكُلون من طعامنا، ويَشرَبون من شرابنا، ويُفسِدون علينا ديننا، ولولا انَّ هذا الحديث قد اَفْصَح عن هُويَّتهم لظننَّا انَّ المقصود بهم اعداء الاسلام في اوروبا وامريكا من اليهود وغيرهم، او انهم الاعاجم الذين دخلوا في الاسلام، فلم يَفهَموه لاختِلاف اللغه، او انهم مَن تَظاهَرُوا بالدُّخول في الاسلام ليَطعَنوه من الداخل؛ كعبدالله بن اُبَيِّ بن سَلُول زَعِيم المنافقين، او عبدالله بن سبا اليهودي.

ولكن هذا الحديث الصحيح الصريح قد بَيَّنَ انهم من العرب، وما زال السؤال قائمًا: مَن هم؟ انهم من الذين يُحِلُّون ما حرَّم الله، ويُحَرِّمون ما احلَّ الله، ويُفتُون فيما يعرِفون وما لا يعرِفون، وهم الذين يقولون ما لا يفعَلون، هم دُعاه البدعه والضلاله الذين يُجامِلون الناس علي حساب الدين، ويبتَغُون بدعوتهم وجه الناس لا وجه الله.

وهم كثيرٌ علي مرِّ العصور والدهور، كلُّ غايتهم ادراك المَناصِب حتي يُشارَ اليهم بالبَنَان، وهم افسد للدِّين من ائمَّه الجور؛ ولذلك كانوا اوَّل مَنْ تُسَعَّر بهم النار كما ثبت في الحديث الصحيح.

ويَمضِي حديث حُذَيفَه - رضِي الله عنه - في حواره، فيسال عن المَخرَج من الفتنه، فيقول: فما تامرني ان ادركني ذلك؟.

ويُبَيِّن الرسول - صلَّي الله عليه وسلَّم - لامَّته المَخرَج الذي لا نَجاه الا به، فيقول: (تَلزَم جماعه المسلمين وامامَهم)، وجماعه المسلمين هم: الصحابه علي قولٍ اخَر، او السواد الاعظم من اهل السنَّه والجماعه علي قولٍ اخر، او العلماء العامِلون بعِلمِهم علي قول ثالث؛ وهذه الاقوال الثلاثه لا تَعارُض بينها في واقع الامر؛ لانَّ الذي يَتمَسَّك بمنهج الصحابه يكون في الحقيقه مُتَمسِّكًا بمذهب اهل السنَّه والجماعه، ومَن فعل ذلك يكون مُقتَدِيًا بالعُلَماء العامِلِين، وبذلك يكون قد جمع بين الاقوال الثلاثه.

امَّا ائمَّه المسلمين فهم الاُمَراء والعُلَماء؛ والامير او الحاكم او الامام هو مَن صار امامًا او حاكمًا بالبَيْعَه الشرعيه المعروفه، او تغلَّب بحدِّ السيف حتي صار حاكِمًا، فهذا ايضًا تنبغي طاعته في غير معصيه؛ ليس اقرارًا لظلمه، وانما تجنُّبًا للمفسده، وصِيانه لدِماء المسلمين.

كما انَّ العُلَماء الصادقين العامِلين هم ائمَّه الارواح وقادتها؛ ولذلك كان قول مَن قال: ان الائمَّه هم الاُمَراء والعُلَماء مَبنِيًّا علي ان الحكَّام هم قاده الاجسام، والعُلَماء هم قاده الارواح، ويختم حُذَيفَه - رضِي الله عنه - حواره بسؤالٍ في غايَه الاهميَّه فيقول: يا رسول الله، فان لم يكن لهم جماعهٌ ولا امامٌ، وهي صوره عجِيبه انطَقَ الله بها حُذَيفَه - رضِي الله عنه - رحمهً بهذه الامَّه، فانه - رضِي الله عنه - قال هذه المَقُوله في وقت كان المجتمع المسلِم في ذروه الاستقرار، وقائده وامامه رسول الله - صلَّي الله عليه وسلَّم - والصحابه - رضِي الله عنهم - مُعتَصِمون بحبل الله في اكمل واجمل صوره راَتْها البشريه من بِدايتها الي نِهايتها.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل