"الدولة الاسلامية" تمحو لغة المسيح من الوجود

الدوله الاسلاميه تقضي علي اللغه الاراميه

قرقوش وتل كيبه وكرملش، ثلاث بلدات في سهل نينوى شمال العراق، سيطر عليها تنظيم الدوله الاسلاميه "داعش"، في اوائل اب (اغسطس)، ولكنها تمثل اخر المراكز السكانيه الكبيره للناطقين باللغه الاراميه في العالم.

لندن: يسيطر داعش الان علي قلب العراق المسيحي القديم، بعد تقدمه شمال شرق الموصل. ويقول مسؤولون في الامم المتحدة ان نحو 200 الف مسيحي نزحوا تاركين بيوتهم في سهل نينوي ليله 6 اب (اغسطس) خوفًا من داعش الذي هدد بقتلهم او اجبارهم علي اعتناق الاسلام. وقال الاسقف العراقي جوزيف توماس ان الوضع "كارثي" وازمه تفوق الوصف. 

تكمن وراء الازمه الانسانيه كارثه ثقافيه ولغويه ذات ابعاد تاريخيه، فان انقراض لغة في موطنها، نادرًا ما يكون عمليه طبيعيه بل يحدث دائماً نتيجه ضغوط واضطهاد وتمييز ضد الناطقين بها. واشتهر العالم الالسني كين هايل، بمقارنته تدمير لغه من اللغات، بالقاء قنبله علي متحف اللوفر.

تغطي الاراميه طائفه واسعه من اللغات واللهجات الساميه مترابطه في ما بينها، ولكن من يتكلم واحده منها في احيان كثيره لا يفهم الاخري. وتضع احدث التقديرات التي تعود الي عقد التسعينات عدد الناطقين بالاراميه في حدود 500 الف شخص نصفهم كانوا في العراق. ويرُجح ان يكون الرقم اليوم اقل بكثير، ولا يوجد بلد يعترف رسميًا بالاراميه لغه او يحميها من الانقراض، وهذه نهايه ماساويه للغه مر زمن كانت لغة عالمية تقريبًا، نطق بها اولًا الاراميون قبل اكثر من 3000 سنه في سوريا، واصبحت لغة الأمبراطوريه الاشوريه. اذ كانت الاراميه بمرتبه الانكليزيه اليوم في العالم، لغه مستخدمه من الهند الي مصر، وبقيت في وقت سقطت امبراطوريات مزدهره في ظل البابليين، ومره اخري في زمن الامبراطوريه الفارسيه الاولي في القرن السادس قبل الميلاد. وكان ملايين يستخدمون الاراميه في التجاره والدبلوماسيه والحياه اليوميه، وحتي بعد ان فرض الاكسندر الاكبر اليونانيه علي امبراطوريته متراميه الاطراف في القرن الرابع قبل الميلاد، استمرت الاراميه في الانتشار وتمخضت عن لهجات جديده، كما في فلسطين القديمه حيث حلت تدريجيًا محل العبريه المتداوله، وبالاراميه اُطلقت النبؤه بسقوط بابل خلال وليمه الملك بلشزار، كما ورد في كتاب دانيال. 

هناك نحو ثلاثه الاف سنه من السجلات المتواصله للغه الاراميه لا تضاهيها في مثل هذا الارث المكتوب الا الصينيه واليونانيه والعبريه، وكانت للغه الاراميه مكانه مقدسه او شبه مقدسه عند كثير من الاديان. فهي علي ما يُفترض لغه المسيح التي بها نطق عبارته علي الصليب "الهي، الهي، لماذا تخليت عني؟" واستُخدمت في التلمود اليهودي وفي الكنائس المسيحية الشرقية، حيث كانت تُعرف بالسريانيه بوصفها طقس الصابئه المندائيين في العراق ولغتهم اليوميه. 

واستمرت الاراميه لغه واسعه الانتشار في شرق المتوسط والشرق الاوسط بعد سنوات علي مرور الاكسندر. ولم يتحوّل الناطقون بالاراميه الي جماعات جبليه معزوله الا بعد انتشار العربيه في القرن السابع الميلادي.

ورغم التهميش، فان هذا العالم الناطق بالاراميه، بقي اكثر من الف عام الي ان دمر القرن العشرون ما تبقي منها، وخلال الحرب العالميه الاولي لم يكتفِ العثمانيون المندحرون بذبح الارمن واليونانيين، بل ارتكبوا ما يُعرف اليوم باباده الاشوريين بذبح وتهجير المسيحيين الناطقين بالاراميه في شرق تركيا. وهرب غالبيه الناجين الي ايران والعراق، وبعد عقود هاجر غالبيه اليهود الناطقين بالاراميه الي اسرائيل. 

وتكفَّل ايه الله الخميني في ايران وصدام حسين في العراق بتشديد الضغط علي من بقوا من المسيحيين الناطقين بالاراميه واضطهادهم. واصبح الشتات حقيقه في حياه السريان الذين انتشروا في انحاء العالم، من بلدان متاخمه للمنطقه الناطقه بالاراميه سابقًا مثل تركيا والاردن وروسيا الي تجمعات احدث عهدًا في اماكن مثل ميشيغان وكاليفورنيا وضواحي شيكاغو في الولايات المتحده.

وانحسرت الي حد كبير المندائيه الجديده المشتقه من الاراميه الجديده في العراق وايران، ولا يتكلمها اليوم الا بضع مئات. في هذه الاثناء تقلّصت دائرتها الغربيه الجديده الي بلده واحده هي معلوله، اضافه الي قريتين مجاورتين لها شمال شرقي دمشق.  وبحسب تقديرات صادره عام 1996 كان يعيش في هذه المناطق نحو 15 الف ناطق بالاراميه بينهم العديد من الاطفال. وفي عام 2006 فتحت جامعه دمشق اكاديميه للغه الاراميه.

ثم اندلعت الحرب الاهليه السوريه، وفي ايلول (سبتمبر) 2013 سقطت معلوله بيد قوات من المعارضه، تردد انها خليط من جبهه النصره المرتبطه بتنظيم القاعده والجيش السوري الحر. وهرب المتبقون من الناطقين بالاراميه الي دمشق او الي قري مسيحيه في الجنوب، بحسب العالم الالسني فيرنر ارنولد الذي عمل مع سكان هذه المنطقه عشرات السنين. وقال ارنولد ان قوات النظام السوري استعادت السيطره علي معلوله في نيسان (ابريل) 2014 ولكن "غالبيه البيوت دمرت ولم يكن هناك ماء ولا كهرباء". 

عادت عائلات قليله الي معلوله في تموز (يوليو) بحسب ارنولد، ولكن فرص احياء الاكاديميه تبدو ضئيله الان، وتنقل مجله فورين بولسي عن عماد ريحان احد مدرسي الاراميه في الاكاديميه انه كانت لديه "احلام كبيره عن الاكاديميه، ولكن في هذه الحرب في بلدي لا استطيع التفكير في اللغه الاراميه". واضاف ريحان ان كثيرًا من اللغه الاراميه فُقد، وان كثيرًا من الاطفال المسيحيين لا يتكلمونها الان، مشيراً الي "ان البعض يحاولون انقاذ اللغه حيثما يكونون ولكن ذلك ليس سهلاً".  

لذا كانت افضل فرصه لبقاء الاراميه حتي اوائل اب (اغسطس) في شمال العراق، بين جماعاته المتنوعه في الشمال الشرقي. ولكن عدد المسيحيين في العراق ينخفض بلا حساب منذ سنوات، من 1.5 مليون في 2003 الي نحو 350 الي 450 الفًا اليوم، بحسب مجله فورين بولسي. ورغم ذلك ظل سهل نينوي بمناي من اسوا الاسباب وراء انخفاض عدد المسيحيين. وفي كانون الثاني (يناير) اعلنت بغداد نيتها في تحويل المنطقه الي محافظه.

ولكن في حزيران (يونيو) سيطر تنظيم الدوله الاسلاميه "داعش" علي الموصل وهربت قوات الجيش العراقي، وفي 6 اب (اغسطس) سيطر داعش علي قرقوش، اكبر مدينه مسيحيه في العراق يُقدر عدد سكانها بنحو 50 الفًا. وهرب السكان المسيحيون في ليله مظلمه غالبيتهم باتجاه اربيل.

ورغم الضربات الجويه الاميركيه خلال الايام الماضيه، ما زال داعش يسيطر علي قلب اللغه الاراميه الذي اُفرغ الان من سكانه الاصليين. ويقول العالم الالسني  جيفري كان لمجله فورين بولسي "ان الخطر الذي يهدد المسيحيين الناطقين بالاراميه الجديده في شمال العراق خطر كبير جدًا" مضيفًا "ان في المنطقه عشرات القري الناطقه بالاراميه، ولكل قريه لهجتها المختلفه قليلًا، وبالتالي اذا اقتُلع سكان القري وحُشروا في مخيمات لاجئين او تبعثروا شتاتًا في انحاء العالم، فان اللهجات ستموت حتما". 

وقال كان ان الماساه المستمره فصولها "تعيد التذكير بالاحداث الفظيعه خلال الحرب العالميه الاولي، التي ادت الي موت عشرات اللهجات الاراميه الجديده في جنوب شرق تركيا".

وجمع مشروع القاعده البيانيه للاراميه الجديده في الشمال الشرقي باشراف جيفري كان، في جامعه كامبردج اكثر من 130 لهجه كانت مستخدمه في عموم المنطقه نصفها من العراق. وانقرضت غالبيه اللهجات الاخري او لا يتكلمها الا افراد مبعثرون يعيشون في الشتات.