المحتوى الرئيسى

الحرب العالمية .. وذكرى أكبر خديعة سياسية راحت ضحيتها امبراطورية العرب

08/11 18:50

الانجليز دعموا ثورت العرب علي العثمانيين ثم انقضوا بـ”سايكس بيكو” و”بلفور”

جاليبولي كسرت انف الحلفاء .. وسيفر تقطع اوصال تركيا .. واتاتورك يقود ثوره كبري

خديعه لورانس العرب للشريف حسين باقيه بالاذهان

الارمن دفعوا في 1915 ثمن تصفيه الحسابات العثمانيه الغربيه

زورق روسي يضل طريقه فينقذ بمعجزه مدينه القيصر “اسطنبول”

300 الف قتيل عربي بالحرب بسبب “مغامرات انور باشا”

المانيا تقود جهادا علي طريقتها “لنصره الخليفه المسلم”!

محللون : العرب يشهدون خديعه غربيه مماثله للحرب العالميه الان

الشرق يتحدي بسلسله ثورات لدحر الاستعمار الاجنبي 

”غاليبولي، لورانس العرب وخديعه بريطانيا ، الاستيلاء علي فلسطين وسوريا، وعد بلفور، معاناه الارمن ،  تقسيم الشرق بمعاهدة سايكس بيكو” دسائس ومؤامرات كثيره شهدها العالم العربى ابان الحرب العالميه الاولي ، والتي يستعيد العالم ذكراها المئويه، منذ اطلق طالب صربي في 28 حزيران/يونيو 1914 النار في مدينه سراييفو علي ولي عهد النمسا ، فنشبت الحرب بعد نحو خمسه اسابيع، وحصدت ارواح ملايين البشر وغيرت خريطة العالم وتوازناته، حتي جاء اعلان معاهده فرساي في 28 يونيو 1919

والحقيقه ان رجال الحكومة العثمانيه، تورطوا في الحرب الي جانب قوات التحالف مع المانيا والنمسا ، خاصه حين تاكدت اسطنبول من فشل جهودها للحصول علي ضمانات من بريطانيا ، وتاكدت الاستخبارات العثمانيه ان روسيا القيصريه بصدد مهاجمه المضايق ومنطقه الحدود شمال الاناضول.

حمل ربيع 1916 انباء مؤسفه حيث كان الحلفاء يخططون في حال انتصارهم لما عرف باتفاقيه سايكس – بيكو، البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو، والتي ادت لتقسيم دول المشرق العربي كغنائم للقوات المنتصره، والحق بها وعد بلفور – من لا يملك لمن لا يستحق – باقامه وطن قومي لليهود في فلسطين، كل ذلك في الوقت الذي يراسلون فيه قاده ثورات الاستقلال العربي بانهم اذا ما حالفوهم سيحققوا حلمهم بالاستقلال التام عن العثمانيين والغرب .. وما اشبه اليوم بالبارحه

 في كتابه “orient express” وهو من نوعيه كتب الرحلات، وصدرت ترجمته الالمانيه عام 2012، نجد ان جون دوس باسوس، يضع عملا فريدا من نوعه علي ما احدثته الحرب العالميه الاولي والثورة البلشفية من اضطرابات في جميع جوانب الحياه في منطقتي القوقاز وشرق البحر المتوسط.

لم تكن الحرب العالميه الاولي قد انتهت تماما في الشرق الاوسط بحلول عام 1921. فقد اعتزمت القوي الاوروبيه المنتصره، لاسيما فرنسا وانجلترا، اعاده تقسيم منطقه الشرق الاوسط باكملها. فبعد ان شاركت الامبراطورية العثمانية بعد تردد في الحرب كحليف لالمانيا، في نهايه تشرين الثاني/ اكتوبر 1914، انهارت في عام 1918. فساندت انجلترا حركات الاستقلال العربيه ضد الحكم العثماني من مصر، التي كانت قد احكمت السيطره عليها. ويجدر بالذكر ان الامبراطوريه العثمانيه شملت انذاك ما يُعرف حاليا بالمملكة العربية السعوديه وامارات الخليج وفلسطين والعراق والاردن وسوريا ولبنان.

وفي غمره تلك الاحداث كان الكولونيل توماس ادوارد لورنس، صاحب الشخصيه الاسطوريه لورنس العرب، قد وعد الملك حسين (1854-1931)، حاكم الحجاز بما فيها المدن المقدسه، مكه المكرمه والمدينه المنوره، بحكم دولة عربية عظمي ومستقله، تخضع حدودها التفصيليه للتفاوض فيما بعد. وكان ذلك في مقابل مشاركته في المعركه ضد العثمانيين. الا ان انجلترا وفرنسا اتفقتا سرا، وذلك عبر اتفاق سايكس بيكو (1916) في البدايه، علي تقسيم الشرق الاوسط الي منطقتي مصالح دون ايلاء اي اعتبار لرغبات العرب. ثم جاء تدخُل الرئيس الامريكي وودرو ويلسون من خلال “نقاط باريز الاربعه عشر”، حيث وعد شعوب الشرق الاوسط بحق تقرير المصير عقب انتهاء الحرب ــ او علي الاقل بـ „فرصه خاليه من العوائق للتنميه المستقله“، ايا كان معني ذلك.

اضافه الي تلك الجوانب الغامضه، لم تكتف بريطانيا بدعم الملك حسين فحسب، بل ساندت كذلك اقرب منافسيه في شبه الجزيرة العربية، الملك عبد العزيز بن سعود (1880-1953). وفي هذه الاثناء تم تنصيب ابناء الامير حسين، الذي يسانده لورانس، حاكما علي سوريا (الامير فيصل) وعلي اماره شرق الاردن “عبد الله” وذلك بمباركه قوي الانتداب. الا ان فيصل، علي الرغم من كونه هو الاخر غريبا علي البلاد، قد تمرد ضد الهيمنه الفرنسيه وطُرد من سوريا ، فاتجه البريطانيون الي تنصيبه ملكا علي العراق (من 1921 وحتي وفاته في 1933) حيث تعّين علي البريطانيين مواجهه الثورات.

يقول باسوس في رحلته : في هذا الصدد ينبغي علينا ان ندرك ان تلك البلدان لم تكن ابدا دولا تفصلها حدود صريحه او حتي مقاطعات اداريه قائمه بذاتها. وان تلك الحدود التي رسمتها كل من انجلترا وفرنسا، والقائمه في معظمها حتي الان، كانت اصطناعيه ولازالت تعتبر كذلك من قبل معظم سكان المنطقه. اذ فصلت بشكل تعسفي بين مناطق طبيعيه تنتمي معا وتجمع بينها روابط تاريخيه منذ ازمان طويله، وقطّعت الروابط العائليه والعلاقات التجاريه، وتعارضت بشكل صارخ مع نمط الحياه البدوي لكثير من سكان المنطقه. وربما قد لاحظ القارئ بالفعل ان دوس باسوس قد سافر من دمشق الي طهران دون جواز سفر او وجود نقاط لمراقبه الحدود. وانه كان بامكانه في ظل هذه الظروف ان يصل حتي غزه، اذا ما رغب في ذلك ــ وهو امر لا يسعنا الا ان نحلم به في يومنا هذا، اي ان يجوب المرء الشرق الاوسط بهذه السهوله!

كان ضباط مقاومون عرب في سوريا قد دفعوا القوات البريطانيه شرق نهر الخابور، بينما اطاح عبد العزيز ال سعود بحكم الاشراف في الحجاز، ووحد الجزء الاكبر من الجزيره العربيه فيما سيعرف منذ 1930 بالمملكه العربيه السعوديه. وهكذا، ولدت دول العراق وفلسطين واماره شرق الاردن، تحت الانتداب البريطاني، وسوريه ولبنان، تحت الانتداب الفرنسي ، وكنتيجه للحرب وحدها .

بكتابه “سلام ما بعده سلام.. ولاده الشرق الاوسط 1914 – 1922” يذهب دافيد فرومكين الي ان البريطانيين قلما خطرت علي بالهم الامبراطوريه العثمانيه وهم يدخلون الحرب الي جانب فرنسا وروسيا ضد المانيا وامبراطوريه النمسا- هنغاريا في 1914.

كانت الدوله العثمانيه تشهد اخر فصول تفسخها خاصه في عهد السلطان عبدالحميد “1876- 1909” اذ خضعت ايراداتها في عام 1875 الي اشراف اوربي لسد عجز قدر بالف مليون دولار، فضلا عن وجود نظام “للامتيازات ” كانت تمنح بموجبه معامله خاصه للاجانب. اما اراضيها فكانت في تقلص مستمر. ففي 1908 فقدت البوسنه والهرسك لصالح امبراطوريه النمسا - هنغاريا، وتوسعت ايطاليا علي حسابها بضمها لليبيا 1911 - 1912 واحتلالها لجزيره رودوس وجزر اخري قرب الساحل العثماني. وسلب منها ما تبقي من الجزء الاوربي في 1912-1913. وكانت البلاد خربه من الناحيه الاقتصاديه.

يعتقد فرومكين ان مغامرات انور باشا – قائد الجيش العثماني الثالث ضد الروس - قد اوردت الدوله العثمانيه موارد الهلاك، فيصفه بانه مغامر اكثر منه قائدا حربيا. اخذ انور باشا يتطلع الي الاستيلاء علي اراض روسيه، خاصه تلك الناطقه باللغه التركيه، بعد ان احتمي بالبارجتين الالمانيتين وبعد ان حقق الالمان انتصارات كبيره علي الروس في نهايه اغسطس وعلي اثر الغاء الحكومه “للامتيازات الاجنبيه” في 8 سبتمبر واغلاق مضائق الدردنيل في وجه جميع السفن الاجنبيه في 26 منه، اوعز انور باشا - بالتامر مع جمال باشا- للبارجتين الالمانيتين بمهاجمه الروس في البحر الاسود فما كان من روسيا الا ان اعلنت الحرب علي الدوله العثمانيه في الثاني من نوفمبر، وسبقتها بريطانيا بيومين من ذلك التاريخ، وكان هذا ايذانا برسم خريطه جديده للشرق الاوسط.

عندها اعلن العثمانيون النفير العام، وحشد في جميع انحاء السلطنه ما يقارب ثلاثه ملايين متطوع قتل منهم خلال القتال نحو 300 الف وقضي نحو نصف مليون جندي باسباب مختلفه كالامراض والاصابات وسوء التغذيه ونقص العتاد ورداءه الالبسه وقله ملاءمتها لجبهات الحرب الشماليه.

ووفق كتاب فرومكين : بعد ان كان هم بريطانيا منذ حمله نابليون هو الاحتفاظ برجل اوربا المريض حيا، غدا همها الان هو كيفيه اقتسام الامبراطوريه بحيث يئول اليها جزؤها الاكبر، لذا شرعت بالتحرك علي عده محاور، كان احدها اثاره رعايا الدوله العثمانيه العرب علي الحكم التركي.

كان اللورد كيتشنر وزير الحربيه البريطاني في بدايه الحرب يرغب في ايجاد خليفه عربي يحكم المسلمين بدلا من الخليفه العثماني الذي كان يراه وقد خضع كليه “للالمان واليهود”. وكان الخيار الجذاب هو الشريف الحسين بن علي حاكم مكه، الذي اعطي تعهدا - في حال ثورته - من خلال مراسلاته مع مكماهون “المندوب السامي البريطاني ” في القاهره في 20 اكتوبر 1915، بان يصبح حاكما للمشرق العربي. ويؤكد المؤلف ان الحسين كان مضطرا الي عقد تلك الصفقه مع البريطانيين لان قاده حزب تركيا الفتاه كانوا عازمين علي عزله. غير ان ثورته التي اعلنها في يونيو 1916 لم تلاق شعبيه كبيره “فقد نظر اليها المسلمون عامه بعين الريبه “. لكن الحقيقه ان بريطانيا كانت تري ان العرب لا يمكن ان يستقلوا عنها، وقالت اشهر رحاله بريطانيه جير ترودبل ان “العرب لا يستطيعون ان يحكموا انفسهم بانفسهم “!!.

بروباجاندا المانيه لـ “خليفه المسلمين”

الكسندر فيلّ مؤرخ الماني، اعد شهاده دكتوراه حول السياسه الشرقيه لالمانيا خلال الحرب العالميه الاولي.  وتحدث خلالها ، حسبنا نقلت مجله “فكر وفن” ان الاتراك والالمان تبنوا استراتيجيه عرفتها الحروب القديمه والتي يمكن التعبير عنها بالجمله القائله: „عدو عدوي، صديقي“. اذ تمحورت استراتيجيه المانيا وتركيا في التلاعب بالتناقضات الدينيه والاثنيه والسياسيه في المناطق الخاضعه للقوي المعاديه بهدف خلق ثورات فيها، من اجل اضعاف موقف بريطانيا وروسيا اولا. ولم تنحصر هذه الاستراتيجيه في الشرق الادني. فقد حاول عملاء الامبراطوريه النمساويه ـ الهنغاريه تاليب اليهود للقيام بثوره ضد روسيا في القسم البولندي الخاضع لها. وفي ايرلندا دعمت المخابرات الالمانيه المتمردين الكاثوليك وفي روسيا الشيوعيين الروس. وفي الشرق الادني ساهم الالمان والنمساويون والاتراك في “الجهاد الاسلامي” ضد بريطانيا وحلفائها.

وقد بدا الامر مبشرا بالنجاح من جهه تعبئه القاعده الدينيه ضد بريطانيا ومن جهه اخري شرعنه حرب المانيا وحلفاءها في المنطقه عبر اعلان السلطان العثماني خليفه للمسلمين قاطبه والدعوه الي وحده المسلمين، بغض النظر عن قومياتهم.

وشغل البارون الالماني ماكس اوبنهايم منصب رئيس مكتب الاستعلامات الخاص بالشرق، الذي هدف الي دعم بروبغندا السلطان العثماني ودعم الحركات المتمرده في الشرق الادني.

ومع انهزام المانيا وحلفاءها في العام 1918 توقفت محاولات التثوير جميعها. لكن التطورات اللاحقه اظهرت بان تلك المحاولات كان لها تاثير حتي بعد نهايه الحرب. ففي مصر منعت بريطانيا بقوه السلاح بين العام 1914 و 1918 كل معارضه سياسيه. ومن اجل الاجهاز التام علي بروبغندا الوحده الاسلاميه التي ارتبطت بالعثمانيين مارست السلطات البريطانيه اجراءات الرقابه علي البريد والاخبار. كما قامت بطرد كل الالمان والنمساويين المتواجدين في البلد او اقدمت علي سجنهم، كما طردت من القطاع العمومي كل الموظفين المنحدرين من هذين البلدين.

لكن بعد ثورة 1919 تمكنت مصر عام 1922 من الحصول علي سياده موسعه. اما بريطانيا فاضطرت لكي تودع خططها بسيطره كامله علي الشرق الادني. وكان الوضع شبيها بذلك في افغانستان.

اراد ان يطرد العثمانيين من معادله الحرب وان يرهبهم، لكنه في منتصف العمليه المعروفه بمعركه المضايق او الدردنيل بالتحديد، توقف فجاه – ربما كان يشعر ان روسيا ستعينه وصدق وعودها الكاذبه، فخسرت بريطانيا الكثير من بوارجها امام الاسطولين التركي والالماني .. وحتي نهايه حياته، ظل وزير البحريه البريطاني والذي قاد الحكومه لاحقا، ونستون تشرشل يعتقد انه حين اوقف كسح الالغام البحريه بعد معركه 18 اذار/ مارس 1915 امرا صحيحا، بالرغم من ان ذلك كان الخطا الاكبر في هذه الحرب .

وبحسب الباحث التركي البارز شون ماكميكن تكمن وجهه نظر تشرشل في ان الهدف من الحمله ــ طرد العثمانيين من الحرب، وفتح منفذ مشترك الي موانئ روسيا الدافئه في البحر الاسود لارسال امدادات الحرب وبشكل اوسع وضع حد للمطامع الالمانيه في الشرق الاوسط العثماني، وقد كانت وجهه نظر سليمه استراتيجيا.

في غضون ذلك، نجد ان روسيا نفسها قد وعدت بارسال اربعين الف جندي الي البوسفور لدعم قوات الحلفاء للتقدم في الدردنيل ــ لكن ورغم موافقه البريطانيين في اذار/ مارس 1915 لاعطاء روسيا السياده علي اسطنبول بعد غزوها، لكنهم لم يلتزموا بذلك.

 (بعد ذلك باسبوع عاد الاسطول واطلق 161 قذيفه، لكن ذلك لم يكن مقنعا للبريطانيين). بالطبع يعود فشل حمله غاليبولي بدرجه كبيره الي الشجاعه التركيه (اشهر بطولات مصطفي كمال وعلي راسها معركتا شُنق باير في يوم 25 نيسان/ ابريل والمره الاخري عندما استعاد العثمانيون الموقع في 9 اب/ اغسطس) والقدره الالمانيه علي التنظيم والنظام.

اخترق الالمان الجبهه الروسيه في غورليس ــ تارنو، ما احدث ثغره في السهل الاوروبي الشمالي. سيشهد هذا الصيف الانسحاب الروسي الكبير، بعد سقوط معظم المناطق الخاضعه لروسيا في بولندا، بما في ذلك مقار قياده الجيش القيصري في بارانوفيتشي ووارسو نفسها في ايدي القوت الالمانيه ــ النمساويه.

سبّب هذا الانسحاب معاناه كبيره، ونتج عنه نزوح مليوني لاجئ من بينهم نصف مليون يهودي طردوا من مناطق الجبهات خوفا من انهم قد يساعدون الالمان. في لحظه تصفيه حساباتها مع الالمان ــ التي كادت تعصف بالحكم القيصري (تولي القيصر نيقولا الثاني بنفسه قياده الجيش في ايلول/ سبتمبر عام 1915 لاستعاده المعنويات) ــ كانت روسيا في موقف يصعب فيه عليها حشد قوات بريه وبحريه وجويه لتوجيه ضربه لاسطنبول. وفي وضع مريع من ناحيه التوقيت، تكبد الارمن التابعون للحكم العثماني الام لحظتهم الخاصه في تصفيه الحسابات في مايو 1915، عندما بدات حمله التهجير في شرق تركيا ، وبحسب السفير الامريكي في اسطنبول انذاك فقد كان مشهد القتل شائعا باحياء الارمن وراح ما يزيد عن مليون ارمني ضحيه مجازر العثمانيين وانتقامهم، وبالرغم من ذلك يؤكد الجانب التركي الان علي المبالغه في توصيف اعداد ضحايا المجازر وبانها لم تكن تصل لدرجه الاباده الجماعيه كما اعلنت الامم المتحده.

المعجزه تنقذ اسطنبول من روسيا

بمجرد استقرار خطوط القتال للجيش القيصري في اوروبا في خريف 1915 بالقدر الذي سمح بارسال تعزيزات الي تبليسي، اندفع جيش القوقاز الروسي ليحاصر ارضروم العثمانيه „المنيعه“ في شباط/ فبراير 1916، لقد دُمر الجيش الثالث العثماني، الذي كان مقر قيادته في السابق في ارضروم، عن بكره ابيه تقريبا في عام 1916، اذ خسر 100 الف من رجاله ومعظم اسلحته.

ونظرا لتلهفهم المسبق بدا الروس في انشاء خط سكه حديد بطول سواحل البحر الاسود من باتوم وحتي ترابزون، محولا الاخيره الي قاعده اماميه حيويه. وبمجرد ما ذاب جليد الشتاء كان جاهزا للزحف الي سيفا وانقره واسطنبول نفسها، ومتصلا بمحطه سكه حديد لتوزيع المؤن العسكريه في انقره.

وفي الانفاس الاخيره لروح “تسارغراد” مدينه القيصر او الاسم الذي كانوا يطلقونه علي اسطنبول، نفذت عده طائرات حربيه روسيه شُحنت علي ناقلات الطائرات هجمات علي اسطنبول نفسها في يومي 9 و 10 تموز/ يوليو 1917، واسقطت عده قنابل علي منشات في ناحيه المرفا في القرن الذهبي ووصلت الي سان ستيفانو (يشيلكوي، وهو الموقع الحالي لمطار اسطنبول الدولي) قبل ان تعود.

والفصل الاخير في هذه الدراما كان في محله كما يشير الباحث التركي: في السادس والعشرين من تموز/ يوليو 1917، عندما اكتسحت حركات التمرد صفوف الجيوش الروسيه وانزلت الدمار باسطول البحر الاسود، اخطا زورق روسي وحيد مزود بمحرك طريقه في حقل الالغام الذي يحمي مضيق البوسفور، وعندئذ القي قائده برساله سلام في زجاجه تجاه الشاطئ (ومفادها ان الاتراك والروس اخوه: الالمان هم الاعداء الحقيقيين لكليهما). بهذه الطريقه الغريبه والمؤثره نوعا ما تقوضت طموحات روسيا القديمه لغزو اسطنبول والمضايق علي رمال الثورة الروسية.

يعود الكتاب الهام لدافيد فرومكين ليؤكد ان الشرق بدا يتحدي بثوره مصر المطالبه بالاستقلال 1919 وبالحرب التي نشبت في ذات السنه في افغانستان وبالاضطرابات القبليه في الاردن في ربيع 1920 وبثوره العشرين في العراق. كان الاعتقاد هذه المره في الاوساط البريطانيه المتنفذه ان روسيا البلشفيه هي المحرك لتلك الاحداث وانها ضالعه في مؤامره دوليه بعيده المدي هدفها تقويض الحكم البريطاني.

وخيم هاجس انتشار الثورات البلشفيه في اوربا علي مؤتمرات الصلح التي ابتدات اواخر 918 و 1919، والتي انتهت “معاهده سيفر 10 اغسطس 1920” بفصل الاجزاء الناطقه بالعربية عن الامبراطوريه العثمانيه علي ان تحتفظ بريطانيا بفلسطين وبلاد الرافدين، وتبقي شبه الجزيره العربيه مستقله، في الوقت الذي كانت بريطانيا قد اخذت فيه فعلا مصر وساحل الخليج العربي. اما سوريا فقد اصبحت من نصيب فرنسا. ان لويد جورج “رئيس وزراء بريطانيا انئذ”- يقول المؤلف- قد نجح باضافه مليوني ميل مربع الي امبراطوريته اثر هذه المؤتمرات.

اما امريكا التي انسحبت من التحالف في المده 1919 - 1920 لموقف مجلس الشيوخ الرافض لاتفاقيه فرساي وعصبه الامم، فقد نادت بسياسه “الباب المفتوح ” وركزت علي حريه الحصول علي الامتيازات النفطيه في المنطقه. وقد دعت حاجه بريطانيا الي الراسمال الامريكي، واعتبارات سياسيه اخري الي السماح للشركات الامريكيه بالدخول الي المنطقه، بل والعمل معا مع الشركات البريطانيه وبالذات حينما ثبت وجود النفط بالعراق في 1920.

واجه البريطانيون علي ضفاف دجله في شمال ارض الرافدين مقاومه شرسه، حيث استسلم الجنرال تاونسهند مع كامل فرقته في كوت العماره (طلب البريطانيون من البعثه الروسيه في ايران ان تخفف العبء عن تاونسهند بقصف بغداد ــ واختار الروس بانتهازيه كما في غاليبولي الا يمدوا يد العون

اما قلب المشكله - رجل اوربا المريض- فقد تقرر تقطيع اوصاله، اذ فرضت معاهده سيفر شروطا قاسيه علي الدوله العثمانيه، حيث لم تبق لها الا اجزاء من الاناضول.

واضحت اسطنبول في قبضه الحلفاء، يحكمها السلطان محمد السادس الذي اعتلي العرش في يونيو 1918، والذي لم يكن له هم الا الاحتفاظ بكرسي حكمه.

رفض الضابط كمال اتاتورك- الذي كان خارج العاصمه- اتفاقيه سيفر المذله واخذ بتنظيم فلول الجيش العثماني المنهار. ونجح في طرد البريطانيين من المنطقه في بدايه 1916. وبدا ان الحظ يحالف اتاتورك - ليوقعوا علي ميثاقه الوطني بانشاء دوله تركيه مستقله. وفي نوفمبر 1922 قرر المجلس الوطني التركي عزل السلطان وهكذا جاءت نهايه الامبراطوريه العثمانيه التي عمرت قرونا.

بالطبع بدات في هذه المرحله سلسله التمرد العربي وتمثل في الثورة السورية 1925، المقاومه الفلسطينيه للمشروع الصهيوني الاستيطاني بعد الحرب في العشرينات، ثوره 1919 في مصر، ثوره عمر المختار بليبيا، ثوره الريف في المغرب بقياده عبدالكريم الخطابي، وبواكير ثورة الجزائر في العشرينات، للتحرر من الاستعمار وغيرها من الثورات.

بكلمات موجزه يلخص الدكتور بشير نافع المشهد العربي بعد الحرب العالميه بقوله : لو اتيح للعرب قياده صلبه كتلك التي اتيحت للاتراك، او ان مصطفي كمال تخلي قليلاً عن حساباته الواقعيه، لربما كانت صوره المشرق غير تلك التي عرفها طوال القرن الماضي. مهما كان الامر، فقد فرض النظام في صورته الاخيره قسراً، بدون ان يلبي مطامح العرب العثمانيين في اقامه دوله عربيه واحده، ولا مطامح الكرد في اقامه دوله لهم. وصنع كيانات تفصلها حدود، قسمت اسراً وعشائر، لم يكن لها من مسوغ طبيعي، ولا هي استجابت لحاجات الدول الوطنيه الناشئه. اقتطع جزء من سوريا لاعطاء لبنان ما يكفي من مساحه ويد عامله لاقامه دوله، واقيمت دولته علي اساس من المحاصصه الطائفيه القلقه؛ بينما لم يمنح العراق منفذاً كافياً علي البحر، وكان عليه ان يعيش مهدداً بدول جوار اقوي منه، وبحركه قوميه كرديه لم تهدا مطلقاً. وفوق هذا كله، زرعت الدوله العبريه، بطموحاتها التوسعيه، وسياستها التدخليه في شؤون جوارها العربي.

وبالفعل كما يعلق الدكتور بشير في مقاله المنشور مؤخرا ، فان عجز  القيادات عن تحقيق طموحات شعوبها، واخفاقها المزمن في بناء منظومه تعاون وتعاضد، لم يؤديا الي اندلاع حركه الثورة العربية وحسب، بل والي ان تعمل رياح الثوره علي تفاقم تازم النظام الاقليمي كله. خلال السنوات القليله الماضيه، تسارعت تدخلات الدول في شؤون بعضها البعض، وتراجعت سياده الدوله الوطنيه لصالح التحالفات الاقليميه، ثم بدات حدود الدوله الوطنيه في الانهيار امام ضغوط القوي من غير الدول، كما هي حاله الجماعات الكرديه المختلفه، القوي المقاتله السوريه، المتطوعين الشيعه وقوات حزب الله، الجماعات الشيعيه المسلحه، والثوار العراقيين وداعش.

من جهته يعلق الدكتور علي الدين هلال في مقاله المنشور بصحيفه “الشرق الاوسط” بان هناك شعورا ان العرب يعيشون اليوم مرحله مماثله لخديعتهم الاولي في الحرب العالميه من قبل لندن، فاذا كانت سنوات الحرب الاولي وما بعدها قد شهدت تقسيم الدولة العثمانية وتشكيل الحدود السياسيه للدول في الشرق الاوسط، فان السنوات الحاليه تشي بنتيجه مماثله، فخريطه المنطقه يُعاد رسم شكلها وتوازناتها، فالسودان انقسم الي سودانين، واقليم كردستان العراق يمارس اغلب مظاهر الدوله المستقله، وفكره الفيدراليه نُفذت في العراق ومطروحه ومثيره للجدل في ليبيا واليمن، والنعرات الطائفيه والعرقيه تفت في عضد اكثر من دوله عربيه، وتكاثر الازمات السياسيه والاقتصاديه الطاحنه فرض علي بعض الدول الانكفاء علي شانها الداخلي. اضف الي ذلك زياده المخاوف العربيه بشان اهداف اميركا والقوي الكبري، وذلك بسبب سعي هذه الدول الي حل مشكلتها النوويه مع ايران، دون النظر الي تجاوزاتها الاقليميه، وبسبب موقفها السلبي تجاه مصر بعد ثوره 30 يونيو (حزيران).

اقرا في الملف “ الحرب العالميه الاولي .. من الاستعمار الغربي الي القومي”

* “بيضه” جنود الميدان..و”قنبله ” طه حسين..و”رغيف” يوسف عواد..حكايات من ادب الحرب!

* نوادر وطرائف الحرب العالميه الاولي !

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل