المحتوى الرئيسى

«داعش» بين سخافتين فهمي هويدي

07/08 18:36

لا اجد اسخف من مسلسل خلافه داعش المعروض علينا هذه الايام، سوي اصداءه في اوساط النخبه المصريه.

لا اعرف الي اي مدي انشغل الرأى العام العربي بحكايه الخلافه الاسلاميه التي اعلنتها «داعش» عن بقيه مسلسلات شهر رمضان، لكني استطيع ان اقول باطمئنان ان مسلسل الخلافه لم يضرب بقيه مسلسلات رمضان فحسب، وانما نافس مونديال البرازيل ايضا. ومن لديه اي شك في ذلك فليفتح اي صحيفه عربيه، وسيجد ان اصداء الخلافه تزاحم اخبار المونديال، والفرق بين الاثنتين ان الاولي فرقعه كبيره حدثت في بلاد الشام، اما الثانيه فهي حقيقه علي ارض البرازيل. وظلت الاثاره اهم القواسم المشتركه بينهما، وان تميزت الفرقعه بان الاثاره فيها مكتوبه بالدم ومحفوفه بالخوف.

مبلغ علمي ان الباحثين في الفكر السياسى الاسلامي اتفقوا علي ان الاسلام لم يحدد شكلا ولا نظاما للحكم. ولكنه فقط ارسي قاعده «الشوري» لتكون اساسا للحكم، بما يعني انه حدد «قيمه» يصوغها اهل كل زمان، حسب ما تقتضيه مصلحتهم. وقد ظلت الخلافة الراشدة نموذجا فريدا في التاريخ. يُشعر المؤمنين بالاعتزاز والفخر.

ولا باس في ان تختلط مشاعر الاعتزاز بالخلافه عند المؤمنين بالحنين اليها، من باب انعاش الذاكره وترطيب الجوانح ليس اكثر؛ اذ لا يستطيع احد ان يمنع المسلمين من استعاده عصورهم الذهبيه واستلهامها، لكن ذلك لا ينبغي له ان يمثل التزاما بمرجعيه الشكل، بقدر ما يعني الحث علي الاسترشاد بمنظومه القيم الايجابيه التي سادت في تلك العصور.

في عام 1953 اطلق القاضي تقي الدين النبهاني في القدس دعوته الي اقامه الخلافه الاسلاميه، وجمع شمل المسلمين تحت لوائها، واسس لاجل ذلك حزب التحرير الاسلامي الذي لا يزال يتبني تلك الدعوه، وله اتباعه في فلسطين والاردن، وفي شرق اسيا وبعض دول المهجر التي يستشعر بعض المسلمين المقيمين فيها بانهم بحاجه الي مظله تحميهم. ورغم ان «امراء» حزب التحرير اعدوا عدتهم لذلك وقسموا العالم العربي الي ولايات، الا ان دعوتهم ظلت محصوره في نطاق الدعوه والتبشير، ولم تذهب الي ابعد من ذلك طوال الستين سنه الماضيه، الا ان تنظيم الدوله الاسلاميه في العراق والشام (داعش)، الذي تاسس في عام 2006، ما ان حقق بعض الانتصارات العسكريه في العراق وسوريا في الاونه الاخيره، مستعينا بقيادات جيش صدام حسين، ومستثمرا غضب اهل السنه وانتفاضهم، حتي اعلن في 29 يونيو الماضي (اول ايام شهر رمضان) اقامه الخلافه وبيعه الخليفه، ودعا المسلمين في ارجاء الارض للانضواء تحت لوائه، واستفاد التنظيم من تدهور الاوضاع في العراق واضطرابها في سوريا فبسط سيطرته علي معظم انحائها الشرقيه وتقدم بسرعه في المحافظات السنيه بالعراق. وفي انتشاره فانه استولي علي كميات كبيره من السلاح الموجوده في مخازن البلدين، وعلي اموال من البنوك التي وقعت في ايديهم. كما وضع التنظيم يده علي حقول نفط واراض زراعيه، وهي عوامل وموارد اقنعت قادته بامكانيه استمرار دولة الخلافة وتمددها.

ثمه لغط مثار حول دور الاطراف الخارجيه في اطلاق داعش وانقضاضها المفاجئ، كما ان هناك جدلا حول طبيعه وهويه التنظيم في كل من العراق وسوريا، وكونه يتسم بقدر من المرونه ويحرص علي التعاون والتفاهم مع العشائر في العراق، فضلا عن اعتماده علي قيادات محليه عراقيه. اما في سوريا فهو اكثر عنفا واشد قسوه وغلظه، ومن بين قياداته «مجاهدون» قادمون من الخارج، ابرزهم مسلم من جورجيا تسمي باسم ابوعمر الشيشاني، ينتسب الي كيان اسمه «جيش المغتربين والانصار»، الذي يضم عددا كبيرا من المقاتلين المسلمين الذين ينتمون الي الجمهوريات السوفيتيه السابقه.

علي اهميه تلك الخلفيه، الا ان ما يهمني في السياق الذي نحن بصدده هو مساله الخلافه المعلنه، التي اصبحت تحتل حيزا كبيرا من التغطيه والمتابعات الاعلاميه. وقد اثار انتباهي ان تلك المتابعات اخذت المساله علي محمل الجد، وتعاملت مع الفرقعه وكانها حقيقه مستقره علي الارض، وليست مجرد سحابه عابره في فضاء المنطقه ضمن تجليات الفوضي التي تعتمل بين جنباتها.

من المفارقات ان حزب التحرير، الذي اعتبر الخلافه ركيزه مشروعه وغايه مراده، اصدر بيانا في عمان اعتبر فيه اعلان الخلافه، الذي اصدرته «داعش»، «لغوا لا قيمه له.. لا يقدم ولا يؤخر». كما ان اتحاد علماء المسلمين الذي يراسه الدكتور يوسف القرضاوي، اصدر بيانا في 3/7 اعلن فيه «ان اعلان فصيل معين للخلافه باطل شرعا، لا تترتب عليه اي اثار شرعيه، بل تترتب عليه اثار خطيره علي اهل السنه في العراق والثوره في سوريا»، واعتبر الاعلان تعبيرا عن «الافتقار الي فقه الواقع واشبه بالانقضاض علي ثوره الشعب، التي يشارك فيها اهل السنه بكل قواهم».

الدكتور احمد الريسوني، الفقيه المغاربي ونائب رئيس اتحاد علماء المسلمين، نشرت له صحيفه «التجديد» (في 1/7) تصريحا، قال فيه ان اعلان الخلافه الاسلاميه ليس اكثر من وهم وسراب واضغاث احلام، سواء من ناحيه الواقع العملي او من الناحيه الشرعيه، واضاف قائلا ان البيعه المزعومه تمت من اشخاص مجاهيل لشخص مجهول في صحراء او كهف من الكهوف، فلا تلزم ولا تعني الا اصحابها».

من الامور الجديره بالملاحظه ان كثيرين انشغلوا بفرقعه اعلان الخلافه، الامر الذي صرف انتباههم عن العوامل الكامنه وراءها او البيئه التي افرزتها. ومن ثم فان ابصارهم اتجهت صوب تنظيم «داعش» وممارساته في العراق وسوريا. ولم يدركوا ان التنظيم هو جزء من مشكله، ولكنه ليس جوهر المشكله. ذلك انه في جذوره حركه مقاومه عراقيه ضد الاحتلال الامريكي ارتبطت بتنظيم القاعده، لكنها انفصلت عنه لاحقا وتبنت مشروع الدوله الاسلاميه في سوريا والعراق، ولم تتخل تماما عن رسالتها العراقيه؛ لذلك فانها لقيت تعاونا من جانب ضباط جيش صدام حسين ومن العشائر ومن قواعد اهل السنه، التي ضاقت بالحكم الطائفي في بغداد. لذلك فانني لا ابالغ اذا قلت ان التنظيم فيه من التعبير عن انتفاضه اهل السنه العراقيين وتجسيد غضبهم واحتجاجهم، باكثر مما فيه من تطلعات التبشير باحياء الخلافه.

يستوقفنا في هذا الصدد ان وزير الخارجيه الامريكي جون كيري بدا مدركا لتلك الحقيقه، اكثر من اغلب «الخبراء» والمحللين العرب. علي الاقل فذلك ما كشف عنه محضر اجتماعه الاخير مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي نشرت نصه جريده «الحياه اللندنيه» في 3/7 الحالي. اذ ذكر النص في اكثر من موضع ان الرجل انتقد السياسات الطائفيه «غير الحصيفه»، التي اتبعها المالكي، والتي اثارت استياء وغضب اهل السنه والاكراد، وقال ان منظمه «داعش» ارهابيه حقا، ولكن ليس كل الذين وقفوا معها سواء كانوا مقاتلين او مساندين، ليسوا ارهابيين او تكفيريين، ولكنهم مواطنون عراقيون معتدلون حاربوا ضد تنظيم القاعده في الماضي، ويطالبون الان برفع المعاناه عنهم والكف عن التهميش والاقصاء. وما كان لهم ان يلجاوا الي المقاومه المسلحه ومسانده «داعش»، الا لان خياراتهم ضاقت جراء السياسات الرعناء التي اتبعتها حكومه المالكي.

بعض عناصر النخبه المصريه قرات الحدث من منظور اخر، فهي لم تقرا الازمه السياسيه الداخليه في العراق، ولم تتوقف عند غضب اهل السنه ومعاناتهم. ولكنها حصرت اهتمامها في التعليق علي مساله اعلان الخلافه الاسلاميه، وفي القسوه المفرطه التي اتبعتها «داعش» مع مخالفيها، والقهر الذي مارسته بحق الذين خضعوا لولايتها. ثم وظفوا ذلك كله لصالح حسابات السياسه الداخليه والصراع الحاصل الان في مصر بين السلطه والاخوان، وكانت الرساله التي حرصوا علي توصيلها هي ان «داعش» هي النموذج الذي يسعي الاسلاميون الي تطبيقه حيثما وجدوا. وان الجميع لابد ان يحمدوا الله ويشكروا الرئيس عبدالفتاح السيسي لانه انقذ مصر من المصير البائس، الذي حملته «داعش» الي المناطق التي خضعت لسلطانها. للدقه فان ذلك لم يكن خطاب تلك الفئه من النخبه المصريه فحسب، ولكني وجدت صدي له في صحف الدول الخليجيه، التي تقود الحمله ضد تجليات الربيع العربي. حيث شاهدنا صور الاعدامات التي نفذها تنظيم «داعش»، وهي تتصدر الصفحات الاولي لبعض صحف تلك الدول، في رساله ضمنيه تقول للراي العام هذا هو المصير الذي ينتظركم اذا ما وصل الاسلاميون الي السلطه، وهي الرساله التي حرص بعض السياسيين علي التلميح اليها في عده مناسبات اخيره. وقد قرانا هذا الاسبوع تصريحا لاحد القاده العرب علق فيه علي تفاعلات الداخل وازماته التي جلبها نظامه، قائلا لبني وطنه: «اذا نظرتم حولكم فستدركون انكم افضل كثيرا من غيركم».

ليس عندي دفاع عن تجربه الاسلاميين في السلطه. ولكن ما يعنيني في اللحظه الراهنه هو الخطا المتعمد في قراءه الحدث، وتوظيفه لصالح حسابات الصراع الداخلي. في تجاهل وانتهاك لقيم المعرفه والامانه العلميه، من شانه ان يضلل القارئ ويشوه ادراكه.

اخطر ما في ذلك الخطاب انه يضع الجميع في سله واحده، ويعتبر ان فكره الاعتدال الاسلامي خرافه روجتها بعض الجماعات وحيله انطلت علي كثيرين. والحقيقه من وجهه نظرهم انه لا فرق بين طالبان وبوكو حرام وداعش وبين الاخوان وحزب الوسط وحركه النهضه التونسيه وحزبي التنميه والعداله في المغرب وتركيا. فكلهم ارهابيون حملوا اسماء متباينه واخفوا قسماتهم تحت اقنعه مختلفه. وقد عبر عن ذلك احدهم حين كتب قائلا: كلهم داعشيون. وهي ذات الفكره التي تبناها غلاه المحافظين في الولايات المتحده ويروج لها بشده «اللوبي» الصهيوني هناك.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل