المحتوى الرئيسى

نسيم الخوري يكتب : صورة الإرهاب بين الحكّام والإعلام

06/29 17:19

ماذا حصل، بالفعل، حتّي قفزت "داعش" الي لسان البشر واحاديثهم وعيونهم وانتظاراتهم وشاشاتهم ومواقعهم الاجتماعيه؟ ليست تلك الحمّي في الداعشيه والكتابه عنها وفيها صدفه خارج تساوق الاحداث وتطوّرها وانتظاراتها في سوريا والعراق وغيرهما، وليست هي مظاهر تعيدنا فقط الي الجهاد غير المقدّس . لطالما قرات عيناي داعش بالسين لا بالشين، ولطاما جاهرنا بانّنا لا نخافها لانّ الاسلام طمانينه بعيده عن تلك المظاهر بعد السماء عن الارض . لكن من يفسّر لنا هذا الرعب والتهويل والتخويف والتامر المنبعث من العراق تحت "غول داعش"؟ لا احد، لكنّ الزمان المريض بالسياسه والاعلام الذي نعيشهما وبات معهما كلّ انسان يدبّ فوق الارض متلذذاً بالصحافه والكتابه والتصوير ونقل الصور ونشرها وترويع الناس بها هو الذي يضخّم الامور ويجعل بقعتنا ماوي ارهاب وقفراً محتّماً .

امامي نصّ موثّق عن "داعش" ينتظر علي طاولتي منذ اكثر من سنه . كل صباح، كان يسترق النظر اليّ من بين الاوراق والملفات المبعثره لاحمله معي الي طلابي في الدراسات العليا او لدفعه الي النشر ولم افعل . كان اسم داعش ربّما الذي يجمع الدال والعين والشين يثير في النفس العركشه والاشمئزاز، وكانت الاخبار المزدوجه والمتناقضه حوله والشائعات والصور جعلته ظاهره من الظواهر الارهابيه الكثيره العابره في زمنٍ عابر من تاريخ سوريا والعراق والعرب والمسلمين، ولو انّه تاريخ نعاصره مثقلاً بالصور القاسيه التي تفوق الخيال وتطوّعه احياناً اذ تبرز فجاهً فتملا المساحات الاتصاليه المشبوهه والمريضه في العالم . كانت "داعش" وسيبقي ارهابها مداناً مثل غيره من الجماعات الارهابيه في العالم والتاريخ، وستبقي القناعات الحكيمه تترسّخ في نزع مقومات الاقصاء وذرائعه واسبابه ونتائجه كما في الالحاح علي نشر فكر التوافق وممارسته بشجاعهٍ حضاريه للخروج من تلك الانفاق الماهوله المظلمه . فقد امتلات الانفاق بالجثث كما بالعناصر المستورده التي لا تستاهل الاّ الDelette في منظومه الكتابه .

بقي النص، اذن، بالنسبه لي حجراً اعمي مهملاً او مرمياً امام الدار ينتظر من يستحليه، في غفلهٍ من الزمن ، فيامر برفعه ووضعه في الجدار، لكنّه سيسقط من بناء الدين والاسلام عند حسن المواءمه بين العداله في اسلوب الحكم وردم الحفر بين المذاهب وتهيّب "ابطال" الاعلام قبل نشر "ابداعات" الارهاب ونصوصه وصوره السريعه .

لست هنا لانشر نصي في "داعش" التي تقوّض الجدران، بل لادانه الفوضي في السلطات الاعلاميه المدروسه نشراً وتوزيعاً وتهويلاً والتي تجعل الاحجار المهمله مشاريع جاهزه للصقل والاظهار والنجوميه والحكم، لكنّه الحكم المستحيل كي لا نقع في المؤقّت . هذه الفوضي في الانهيارات الاخلاقيه والمهنيه التي تسير بموازاه الانهيارات الاخري التي تطوي ظاهره ارهابيه لترفع اخري وكلّها تجد من يصبّ الاضواء فوقها تحت مسمّي ملتبس هو "الثورات العربيّه" .

لم نبلغ عربياً بعد مرتبه الحكمه في استعمال مفرده السلطات الاعلاميه التي تدفعنا الي تذكّر مطلق التسميه، ادمون بورك (17291797)، الكاتب والخطيب البريطاني وقائد النضال ضدّ نابليون . كان عدواً شرساً للثوره الفرنسيه لكثره القتل والدم فيها وهدر الارواح فيها، كما لحكّام بريطانيا في الهند الذين غرقوا حتي اذنيهم في الفساد والرشوه والسمسرات وصرف النفوذ . كان لنصوصه في نقد الارهاب، في ازمنه الحروب، الوقع الكبير لدي الحكّام والقرّاء، ما دفعه الي اطلاق "السلطه الرابعه" كصفه للصحافه، في كتابه الذي جمع فيه مقالاته ونشره بعنوان: "تاملات في الثوره في فرنسا" . وما دفع نابليون لان يقرّ بالحريه والعداله والمساواه بعدما كان يجنّ لاي نقد تثيره الصحافه ضدّه . لقد طلب مثلاً الي جوزف فوشيه وزير البوليس الاداري في فرنسا قائلاً: "اقمع الصحفيين اكثر، واجعلهم ينشرون مقالات جيّده، والاّ فانني ساوقف الصحف كلّها . . لقد انتهي زمن الثوره، ولم يبقَ في فرنسا سوي حزب واحد . ولا شيء يؤلمني ويثير خوفي، اكثر ممّا تنشره الصحف، فتعوق فيه مصالحنا"، لكنّ ، وليس ابلغ مما نقله مترنيخ عن نابليون الذي لحقته الدماء التي لا تمحي ولو يبست، وغدا مضرب الامثال في السلطات التي استمرّ بها الصحفيون نقداً وتعييراً . كان مترنيخ سفيراً للنمسا في فرنسا، وقرّبه منه نابليون، وكلّفه التفاوض بشان زواجه من ماري لويز واسرّ له: "انّ مقاله صحفيه في الدم الذي جري تساوي جيشاً من 300 الف رجل . هؤلاء لا يراقبون الداخل، ولا يخيفون الخارج افضل من دزّينتين من مقالات الصحفيين" . هكذا اختصر نابليون الدنيا بصحيفتهLe Monitor علي انّها "روح الحكومه، وسلطتها وقوّتها، ووسيلتها الي الراي العام في الداخل والخارج والعالم" .

نستعيد ايضاً في مجال الحكمه لا الحمّي الكاتب الفرنسي شاتوبريان الذي هاجر الي امريكا، وعاد مع قيام الثوره الفرنسيه وحظي بعطف خاص من نابليون الذي جعله سفيره في بريطانيا فوزيراً للخارجيه . ولم يمنعه كلّ ذلك من المناهضه القويه لحكومات البطش . جاء في رسالته الي ملك فرنسا العاشر يحضّه فيها علي الاقرار بسلطات الصحافه: "كانت الصحافه عنصراً مجهولاً في الماضي، وسلطه فائقه ادخلت الان في العالم . لانّها الكلام في حلّته السريعه . انها الكهرباء الاجتماعيه، فهل يمكنك تجاهل وجودها؟ كلّما زعمت انّك ملمّ بها، وتفهمها، ازدادت حدّه انفجارها، واضحت اكثر عنفاً . عليك ان تتصالح معها، كما فعلت في الماضي مع الات البخار . يجب عليك التمرّس بها اتّقاءً لمخاطرها . هكذا تنحسر هذه السلطه شيئاً فشيئاً فتسقط وتتلاشي في الاستعمال اليومي، فتدجنها او تعيد بناء عاداتك وقوانينك وفقاً لمبادئها التي ستحرّك البشريه من الان وصاعداً" . لقد بلغ شاتوبريان حدّ التنبؤ، وهو يصف الصحافه بالكهرباء، وهو لم يكن يتصوّر بانّه ينصب خيطاً يربط فيه الصحافه المكتوبه في تطورها بالشاشات، اي بنهر الكلام والصور المتدفق ابداً لكنّه المسؤول الذي يدفع بمن يسبح فيه لان يري الحقائق في صفحته فلا تعميه الدماء بل تحفظ توازنه ورسوليته ولو داعبته واسترضته او ارعبته صور الدماء او عناد السلطات التنفيذيه الاجرائيه اي الحكومات ورؤساء الجمهوريات والحالمين بها والمجالس التمثيليه .

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل