المحتوى الرئيسى

هاشم صالح يكتب : تكفيريون وديمقراطيون!

06/06 16:39

يشكِّل الاسلام والمسلمون الشغل الشاغل لمفكري الغرب وقادته السياسيين حاليا. هذا ما لمسته لمس اليد اثناء تجوالي في العديد من المكتبات الفرنسية مؤخرا.

فالكتب الصادره عنا في الاونه الاخيره لا تُحصي ولا تُعد، فيها الغث وفيها السمين. من بين المشغولين بنا وقضايانا نذكر الكاتب الفرنسي فيليب ديريبارن، وهو عالم إجتماع وكان احد كبار التكنوقراط في عهد الرئيس الاسبق جورج بومبيدو، كما انه باحث في المركز القومي للبحوث العلميه الفرنسيه، وهو من مواليد الدار البيضاء في المغرب عام 1937، وبالتالي فالعالم العربى او الاسلامي ليس غريبا عليه. وقد لفت الانظار مؤخرا بكتابه الذي اتخذ العنوان التالي «الاسلام امام الديمقراطيه». نلاحظ منذ البدايه انه يضع نفسه تحت سقف المرجعيه المعرفيه لكبار مفكري الاسلام في فرنسا من امثال جاك بيرك ومحمد اركون وسواهما.

يري هذا الباحث ان هناك عراقيل معينه تحول دون انغراس الديمقراطيه في المجتمعات الاسلاميه، وهو يتساءل: لماذا في كل مره تخيب امالنا بقيام الديمقراطيه في بلد اسلامي ما؟ لماذا نجد ان تعدديه الاراء، واحترام راي الاقليه، والفكر الحر، هي اشياء ممنوعه تقريبا في معظم البلدان الاسلاميه؟ يضاف الي ذلك اننا لا نزال ننتظر بفارغ الصبر استهلال عهد الحريه الفكريه في ارض الاسلام في كل المجالات بما فيها المجال الديني. في رايه لا يمكن تفسير ذلك بواسطه العوامل الاقتصاديه والاجتماعيه وحدها، وان كان الفقر المدقع يلعب دوره السلبي ولا يشجع علي ترسخ الديمقراطيه. من ضاق عيشه ضاق فكره! وبالتالي فينبغي ان نذهب الي ما هو ابعد من ذلك، الي ما هو اعمق. بمعني اخر، فان السبب يكمن في العقليه ذاتها. فالعالم العربي او الاسلامي عموما مبهور باليقينات المطلقه ومتشبث بها اكثر من سواه في راي الباحث. انه لا يعرف معني الشك والارتياب والبحث المتعثر والمضني عن الحقيقه، وهي اشياء لا معني للديمقراطيه من دونها. انه ايضا مهووس بتحقيق الاجماع الكامل الذي لا ينفك يهرب من بين اصابعه. وذلك لانه يخشي الانقسام التعددي الي اقصي حد ممكن. ينبغي ان يكون الجميع علي نفس الراي والا فالطامه الكبري! فالنصوص التراثيه المرجعيه تتحدث عن البراهين القطعيه التي ينبغي علي الجميع الخضوع لها دون نقاش، انها تنكر الشك والمناقشه الخلافيه الباحثه عن الحقيقه من خلال الحوار والصراع الفكري المفتوح والمبدع. ومعلوم انه لا معني للديمقراطيه دون حوار واحتدام النقاش بين وجهات النظر المختلفه. ما معني ديمقراطيه بلا نقاش؟ وبالتالي فالمناقشات الحاميه التي كانت تدور في الساحات العامه للمدن اليونانيه والتي ادت الي ظهور الديمقراطيه لاول مره معدومه تقريبا في البلدان الاسلاميه. ومعلوم ان النقاش اقفل في العالم الاسلامي بعد اغلاق باب الاجتهاد قبل الف سنه تقريبا. ولم يعد هناك من داع للارتياب او الشك او البحث القلق عن الحقيقه. لماذا تبحثون اذا كانت جميع الحقائق قد اكتشفت من قبل الاوائل ولا زائد لمستزيد؟

في مثل هذا الجو يري الباحث الفرنسي ان مفهوم الديمقراطيه يُلغي من اساسه. الديمقراطيه ليست فقط صناديق اقتراع! والا لاصبح دعاه الفتنه مثلا اكثر ديمقراطيه من جان جاك روسو! ينتج عن ذلك انه لا معني للديمقراطيه من دون جو فكري يسمح بالنقاش الحر والاعتراض وتعدديه وجهات النظر المختلفه حول ليس فقط المسائل السياسيه، وانما ايضا الدينيه. فالدين حمّال اوجه.

نستنتج من كلام الباحث الفرنسي ان انغراس الديمقراطيه في العالم العربي والاسلامي كله مرتبط بالجواب علي السؤال التالي: هل سينجح التجديد الديني هناك ام لا؟ ما دامت التفسيرات الانغلاقيه المتشدده لحركات الإسلام السياسي هي المسيطره والسائده فلا معني للديمقراطيه في اي بلد عربي او اسلامي. الديمقراطيه ثقافه متكامله: اي ثقافه فلسفيه علمانيه ذات خلفيه دينيه يتسع صدرها للجميع دون اي تمييز طائفي او عنصري، حيث يتوافر ذلك نقول ان الدوله المدنيه الحديثه حلت محل الدوله الثيوقراطيه القديمه. من هنا الطابع السريالي العجيب لـ«الديمقراطيات العربيه» التي ظهرت بعد الانتفاضات الاخيره. تصوروا الوضع: ربيع عربي او ثورات عارمه تنتهي بحكم الاخوان المسلمين! هذه ثورات معكوسه. حتي المفاهيم اصيبت في صميمها او انعكست في مدلولها. كنا نعتقد ان الثوره تقذف بنا الي الامام فاذا بها تعود بنا الي الخلف. ويمشي الي الوراء الوراء.. فلا همّ لهم الا التراجع عن منجزات عصر النهضه بشكل تدريجي ومن تحت لتحت تقريبا، لكن مصر الحضاريه، مصر العظيمه، كانت لهم بالمرصاد تماما كما في عهد محمد علي الكبير، فاسقط في يدهم. ولهذا السبب حصلت الانتفاضه الثانيه علي حكم الاخوان في كل من مصر وتونس، والان في ليبيا القادمه ان شاء الله.

عندما اري الاخوان و«مثقفيهم» يتباكون علي الديمقراطيه اكاد اخرج عن طوري! متي كانت الديمقراطيه او الشفافيه او التناوب علي الحكم من اولوياتهم؟ متي كانت فتوحات الحداثه وكنوزها تعني لهم شيئا؟ اصلا جان جاك روسو، مخترع الفكره الديمقراطيه، امر باستبعاد اي جماعه سياسيه تستخدم الدين كمطيه للوصول الي السلطه والتشبث بها. وكان يقصد بذلك حزب «الاخوان المسيحيين» الكاثوليكيين الذين ما كانوا يقلون جبروتا وارهابا للعقول عن الاخوان المسلمين اليوم.. لماذا استبعدهم من الساحه السياسيه؟ لانهم يكفرون كل من لا ينتمي الي مذهبهم او طائفتهم مدعين احتكار «الدين الصحيح» او الحقيقه الالهيه المطلقه. وبالتالي فهم تكفيريون وديمقراطيون في ان معا! وهذا من عجائب الامور التي لا تدهش احدا عندنا علي ما يبدو. وبالتالي فلا يمكن ان تتحقق الديمقراطيه في العالم العربي ما لم تتراجع هذه الايديولوجيا الانغلاقيه الشموليه التي اختطفت الاسلام في غفله من الزمن وشوهت صورتنا وعقيدتنا في شتي انحاء العالم.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل