المحتوى الرئيسى

المصريون الخمسة أيمن الصياد

05/19 03:43

«.. but when» أتذكرونها؟ قالها لمراسلة الـ ABC News الراحل عمر سليمان؛ مفوض مبارك للحفاظ على النظام من هجمة الديموقراطية التى بدت رياحها العاتية تهب من الميدان المائج بهتافات جيل جديد ينتمى لعصر لا يعرف عنه شيئا أولئك الذين كانوا قد تخشبوا فى قصورهم الرئاسية أو أجهزتهم «السيادية».. لا فرق.

إجابة عمر سليمان «الواضحة» كانت عن سؤال لمراسلة ABC الشهيرة Christiane Amanpour عندما سألته فى اليوم الثالث عشر لانتفاضة يناير عن «حق المصريين فى الديموقراطية»

هل كان عمر سليمان فى إجابته يعبر عن نفسه، أم يعبر عن فكر نظام يحاول جاهدا أن يستعيد مكانه فى السلطة «وخطابها السياسى القادم»؟

الإجابة معروفة، وإلا لما ثار الناس فى يناير، ولما وقفت بجانبهم قواتهم المسلحة (كما قالت البيانات الرسمية لمجلسها الأعلى فى حينه).

ليس فى حديث «العائدين» ما يستوقفك، حتى وإن سمعناه «فجا أحيانا، أو مستترا فى كثير من الأحيان»، فليس لنا أن نتوقع غير ذلك. ولكن أن تسمع مثل حديث عمر سليمان من نخب ثقافية أو سياسية، أو من بسطاء الناس الذين دفعوا من دمائهم وخبزهم ضريبة الاستبداد، فلابد أن تشعر بالقلق، بعد أن تدرك مدى «اللا يقين» والتشوه الفكرى الذى أوصلتنا إليه أفعال الإخوان ومن معهم من ناحية، وذلك الصراخ الإعلامى المجرم من ناحية أخرى.

قبل أسبوعين، وعلى طاولة حوار جاد يضم عددا من الذين أحسبهم مخلصين لهذا الوطن والمهمومين بمستقبله، دار حوار طويل حول «ما إذا كانت الديموقراطية ضرورية للمستقبل الذين نريد» (!!)

رغم أن السؤال بدا صادما للبعض، إلا أننى شكرت من طرحه لأنه، بالتعبير القانونى كان «كاشفا.. لا منشئا». ويوضح بجلاء المسافة الطويلة جدا للسنوات الثلاث؛ بين لحظة خرج الناس فيها يطالبون بالحرية والديموقراطية الحقيقية، وبين لحظة «آنية» يتصورون فيها مستقبلا أفضل بلا حرية ولا ديموقراطية.

فى مصر الآن فئات خمس:

١ــ الإخوانيون (أى الإخوان ومن معهم): لم يدركوا بعد حقيقة ما جرى على الأرض. ولا يملكون خارطة طريق واضحة وواقعية للمستقبل «القريب». يراهنون أولا على غباء أمنى لدولة بوليسية لا تنجح عادة إلا فى دفع الناس فى لحظة لا يعرفها أحد للتمرد والثورة (تذكروا ما جرى فى يناير ). ويراهنون ثانيا على تبعات «اقتصادية معيشية»؛ يسقط فيها سقف التوقعات المرتفعة على أرض واقع جدباء صلدة. متحصنين داخل شرنقة «مظلوميتهم التاريخية» المتدثرة بدماء الرابع عشر من أغسطس، تكمن داخلَ إحساس بعضهم بالقهر واليأس والمرارة مقولةُ شمشون التراثية الشهيرة بشأن «المعبد ومن فيه».

٢ــ العائدون من نظام مبارك: لا يهم إن كانت الأسماء ذاتها، أو الوجوه ذاتها. ولكنه النظام «الأوليجاركى» ذاته القائم على تحالف ثلاثية الفساد والقمع والسلطة. يتصورون أن «القادم» هو فرصتهم الوحيدة لإزالة آثار «نكسة ٢٥ يناير» والعودة إلى «حدود ما قبلها». متجملين برفع شعار «الحفاظ على دولةٍ» هم أول من يقوض فعليا أساساتها. صارخين فى وجه الساعين نحو مستقبل يستحقه هذا الوطن، بأن «لا صوت يعلو على صوت المعركة».

٣ــ المواطنون البسطاء الذين خدعهم هؤلاء وهؤلاء؛ وهم صنفان، منهم من صدَّق أن لا بديل للإخوان غير القمع والفساد، فوقف فى مربع الإخوان. ومنهم من صدق أن لا بديل للقمع والدولة البوليسية غير دولة الإخوان التى لا يريدها، فرحب بالقمع، وانحاز إلى مظاهر دولة بوليسية كان هو «كمواطن» أول من تضرر من نظامها وخرج فى يناير يطالب بإسقاطه. (يتساوى فى ذلك الفقير الذى لا ظهر له مع رجل الأعمال الذى يضربه منافسه الفاسد القريب من السلطة، كما يتساوى فى ذلك المسيحى مع المسلم صاحب اللحية الذى عانى كل منهما من تمييز يتنكر لمبدأ أن المواطنين لدى القانون والدولة سواء). هؤلاء المواطنون البسطاء هم القطاع العريض من ضحايا ترويج الثنائية المقيتة الكاذبة. واللعب بمشاعر الناس إيهاما «بمعادلة صفرية» لا يصح أن نحصر مصر المستقبل داخلها.

٤ــ أولئك «المخلصون» الذين وقفت مداركهم عند الاستعراضات العسكرية المهيبة للجيش الأحمر فى ساحة الكرملين، ومازالت فى آذانهم «sonata» طرقات حذاء خرتشوف على منصة الأمم المتحدة (١٩٦٠). رغم ان السيمفونية لا تكتمل إلا بـ «rondo» طرقات بعضهن على أبواب غرف الفنادق فى الخليج. نسى هؤلاء أن معتقلات سيبيريا لم تحم ستالين أو نظامه، كما أن هيمنة الأوليجاركيا أدت فى النهاية إلى سقوط مريع للإمبراطورية «ودولتها القوية». لم يقرأ هؤلاء جيدا درس سقوط حائط برلين، أو «الدولة القوية» لعراق صدام؛ رغم نظامه الحديدى وأغنيات القادسية. ربما بحكم السن، أو بحكم «ثقافة الغرف المغلقة»، لم يدرك هؤلاء «المخلصون الدولتيون» أن العالم تغير وأن هناك جيلا جديدا ولغة جديدة ومعايير جديدة للقوة فى عالم الثورة المعلوماتية والسماوات المفتوحة. وبالمناسبة لا يختلف كثير من حديث هؤلاء عن كثير من حديث كنت أسمعه من قيادات الإخوان عن «المؤامرة».. وأنهم هم «الذين يعرفون صالح البلد» (!).

٥ــ أولئك الذين يتناقص عددهم يوما بعد يوم؛ الأوفياء لما خرج الناس يطلبونه فى ٢٥ يناير؛ «عيش.. حرية.. كرامة إنسانية». والمدركون من تجارب التاريخ أن لا سبيل لذلك إلا بالانحناء لحكمة هذا الشعب الفطرية التى لخصها يومها فى شعاره الجدير بالإصغاء لمعناه جيدا «الشعب يريد إسقاط النظام». والواعون إلى أن النظام الذى طالب الناس بإسقاطه يتجاوز معناه بكثير التخلص من «كابوس الابن المدلل» أو تنحية هذا الرئيس أو ذاك، سواء كان اسمه محمد حسنى مبارك أو محمد مرسى العياط.

أستغرب أن البعض يعتقد أن بالإمكان التضحية بالحريات «حفاظا على الوطن»، ناسيا أن الوطن هو إحساس بالانتماء قبل أى شيء آخر.

يسعد البعض بنجاحه فى ترويج نظرية المؤامرة، وفى تشويه ما جرى فى ٢٥ يناير غافلا عن أن تحديات المستقبل الضخمة تحتاج طاقة مخلصة شهدناها، وشاهدها العالم كله فى شباب نزل ينظف الميادين صباح الثانى عشر من فبراير ٢٠١١، وسمعناها فى كلام بسطاء الميدان «يومها» عن استعدادهم للعمل الجاد وربط الأحزمة من أجل مستقبل شعروا «يومها» أنه لهم، لا لهؤلاء العائدين المنتفعين أصحاب اللافتات الضخمة الممهورة بتواقيعهم، أو الحاشدين إلى مؤتمرات يعودون بها إلى الواجهة.

يتغافل البعض عما يجرى فى العالم حوله، فلا يلحظ أن جيلا جديدا على استعداد دائم لأن ينتفض دفاعا عن حقه فى المشاركة والقرار.

يفرح البعض بالقمع، طالما «النار بعيدة عن ثيابه» وينسى أن القمع هو مفرخة الإرهاب. ولنا فى قصة نشأة تنظيم «بوكو حرام» فى نيجيريا ألف عظة لمن يتعظ.

أخشى أن هناك من أسكرته فرحته بانتصاره على الإخوان، فنسى أن معركته الرئيسة ليست معهم. وإنما مع استحقاقات المستقبل. خبزا وماء.. ومستقبلا.

تعلمنا من تراثنا أن كلا يؤخذ منه ويُرد، وأن التحيز فى الصواب والخطأ، ما هو إلا تعصب مقيت، يأباه العقل والمنطق، وتأباه الفطرة السليمة. وربما علينا اليوم، ونحن ماضون إلى تأسيس مرحلة جديدة فى تاريخ هذا الوطن، هناك من يحاول أن يرسمها، انتقاما أو ابتزازا بألوان داكنة مغموسة فى حبر الماضى ــ أن ننتبه «دفاعا عن المستقبل».. بل ودفاعا عن المنطق المجرد إلى مايمكن تلخيصه فيما يلى:

ــ مع ملاحظة أننا فى الحالتين نتحدث عن نظام وليس عن أشخاص، هناك مساران، كلاهما كارثى، وكلاهما لا ينتمى للمستقبل، وكلاهما رفضه الناس: مسار يحاول أن يعود بنا إلى نظام مبارك ومسار يتوهم أن باستطاعته أن يعود بنا إلى نظام الإخوان.. فى التوصيف النهائى: هذه معركة بين خصمين رفضهما الناس، وللأسف المستقبل هو الذى يدفع الثمن.

ــ ليس من المنطق أن يترتب على رفضك لنظام الإخوان، أن ترحب هكذا بنظام مبارك وممارساته. كما أنه ليس من المنطق أن يعنى رفضك لممارسات نظام مبارك العائدة، أن تقف بالضرورة فى مربع الإخوان. أو أن تخشى أن يتهمك «الإرهابيون فكريا» بذلك.

ــ بعض من بدوا واقفين فى هذا المربع أو ذاك، ليسوا أكثر من رافضين للمربع الآخر. وعلينا كأصحاب رأى تنبيههم إلى أن رفضهم لأحد المربعين، لا ينبغى أن يعنى بالضرورة تحيزا مطلقا للمربع الآخر.

ــ هى ليست معادلة صفرية (0/1 issue) ورفضك للوقوف فى أحد هذين المربعين، لا يعنى أنك مضطر للدخول إلى المربع الآخر.

مخطئ من لا يرى إلى أى درجة وصلت حالة الرفض للإخوان هنا وهناك. ولكننى أرجو ألا يكون بيننا من يظن أنه حوصر فى هذه الثنائية (الإخوان / القمع) فيذكرنا بمحاولة هروبه من هذا إلى ذاك بالصورة الشهيرة لذلك الموظف الذى ألقى بنفسه من نافذة الطابق الثانى والعشرين لبرج التجارة العالمى في نيويورك صباح الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١

لا نحتاج إلى إعادة التذكير بأن الإخوان هم الذين أخذونا إلى هنا، بكثير مما فعلوا بما فيه تقاعسهم عن تلبية متطلبات التحول الديموقراطى Transitional Justice الخمسة، ولكننا نحتاج إلى التذكير بأن على الحاكم القادم ألا يفعل مثلهم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل