المحتوى الرئيسى

صعود سلم النجاح لا يعرف حدود الديانة والإثنية والهوية الثقافية

05/18 10:29

ينتقد دانييل باكس الاطروحه القائله بان نجاح المهاجرين في الولايات المتحده ينحصر علي المنحدرين من شعوب بعينها بخصائص ثقافيه معينه. ويصفها، في تحليله التالي لموقع قنطره، بانها محاكاه هزيله لعلم نفس الشعوب، ويدرجها ضمن اطروحات اخري في الغرب تُلحِق الارهاب بالاسلام والفشل المدرسي بالمسلمين، وتعزو النجاح الاقتصادي الاسلامي في تركيا وماليزيا الي عولمه راسماليه قائمه علي البروتستانتيه في الاولي وعلي الكونفوشيوسيه في الثانيه. ويُرجِع رواج مثل هذه الاطروحات في الغرب الي احكام مسبقه شائعه غير موضوعيه تم عليها اضفاء هاله من التحليل العلمي الزائف.

اطروحه الامريكيه من اصل صيني ايمي تشوا: فئويه تفوق المهاجرين في الغرب

لماذا ينجح بعض الوافدين اكثر مما ينجح اخرون؟ سؤالٌ يُطرح بشكلٍ متكررٍ في الولايات المتحده الامريكية. قبل اكثر من عشرين سنه، وفي سياق حوادث الشغب في لوس انجلوس، نُوقِشَ مثلًا موضوع تفوق الوافدين الاسيويين وتخطيهم الشاسع للامريكيين من اصل افريقي في وقت قصير، الامر الذي ادّي الي نشوء حزازات بين المجموعتين.

ايمي تشوا وزوجها جِيد روبنفيلد استاذان في كليه الحقوق في جامعه ييل، وقد استطاع كل منهما علي حدهٍ الوصول للشهره عبر تاليف كتابٍ من الكتب الاكثر رواجًا، وها هما يقدمان الان شرحًا تبسيطياً عجيباً لاليات الارتقاء المختلفه لدي مجموعات الوافدين المتباينهـ ويقولان ان "الامر يتعلق بالثقافه". لكن هذا القول سخيف!

اثارت ايمي تشوا الامريكيه من اصول صينيه، (عمرها 52 عاماً)، قبل ثلاث سنوات ضجّه بسبب ما جاء في كتابها "الام النَّمِره" (Tigermom). وفي هذا الكتاب الذي نشر باللغه الالمانيه تحت العنوان المهذب "امهات النجاح" تثني ايمي تشوا علي تربيه الامهات الصينيات الشديده والصارمه وتمدح الامهات اللواتي يمنعن اطفالهن من مشاهده التلفاز، والنوم عند الاصدقاء، لا بل وحتي من الاحتفال باعياد ميلادهم، لكي يدفعن بهم بدلًا من ذلك الي تحقيق افضل الاداء في المدرسه واتقان العزف علي اله موسيقيه كلاسيكيه، واذا اقتضي الامر، يفعلن ذلك من خلال التهديد بحرق دميه القماش المحببه للطفل. هذا "المديح للانضباط" المتحقق بالتعنيف، جري اختصاره بالصيغه الموجزه: الامهات الصينيات افضل من الامهات الاخريات.

تستعين تشوا في كتابها الجديد بزوجها جيد روبنفيلد، (عمره 55 عاماً)، فيتقصَّيا معًا العلاقه بين الثقافه والنجاح، وقد حددا في هذا السياق ثماني مجموعات من "المتفوِّقين في ادائهم" وذلك بالاستناد الي معايير مثل الدخل المالي، ونتائج الامتحانات، واختبارات الذكاء. الصينيون واليهود من بين المجموعات الثماني الافضل بالنسبه لتشوا وروبنفيلد شخصيًا، اي انهما المجموعتان التي ينتميان هما اليها، ولكنهما يدرجان الايرانيين واللبنانيين والنيجيريين والكوبيين وحتي المورمونيين في عداد قائمه المتفوقين ايضًا.

الام النَّمِره" (Tigermom). وفي هذا الكتاب الذي نشر باللغه الالمانيه تحت العنوان المهذب "امهات النجاح" تثني ايمي تشوا علي تربيه الامهات الصينيات الشديده والصارمه

"يدَّعي المؤلفان انَّ كل هذه المجموعات قد افلحت بتحقيق التقدم الاجتماعي في الولايات المتحده الامريكيه لانها تتمتَّع بحزمه معيّنه من الخصائص لا يملكها الاخرون، ولذلك يحمل الكتاب الاصلي عنوان "الحزمه الثلاثيه"، اما الترجمه الالمانيه فقد اطلق عليها العنوان الغريب "كل الناس سواسيه، الا الناجحين".

صيغه الحزمه الثلاثيه التي يطرحانها بسيطه: فهما يريان اولًا ان كل المجموعات المذكوره لديها عقده التفوق، اي لديها ايمان عميق متجذّر بتميُّز مجموعتها عن المجموعات الاخري. وثانيًا، وحتي انْ بدا في الامر مفارقه، يتملـَّك افرادَ هذه المجموعات شعورٌ متاصِّلٌ ودفينٌ بالقلق والخوف من الاّ يكونوا بمستوي تطلعاتهم الخاصه رغم الايمان العميق بالتميُّز.

وثالثًا: التحكم بالدوافع، وهذا يعني الاستعداد لتاجيل الرغبات الخاصه، والقدره علي عدم السماح للنكسات بتثبيط هممهم وعلي اظهار الصلابه تجاه انفسهم، اي الانضباط النابع من الذات والقدره علي التحمُّل والثبات.

هنا يلوِّح ماكس فيبر من بعيد باطروحته عن "الاخلاق البروتستانتيه" التي تُعد من الاطروحات الاساسيه في علم الاجتماع. هذه الفكره، التي تقول بانَّ عقليه ثقافيه معينه قد ساعدت الراسماليه علي تحقيق انتصاراتها، فكره غدت موضع شك وتساؤل منذ فتره طويله وعلي نطاق واسع، الا انَّ هذا لم يقلـِّل من شهرتها. ووفقا لذلك يعزي صعود النمور الاسيويه الي ما يسمي "الاخلاقيات الكونفوشيوسيه"، اما صعود رجال الاعمال المتديِّنين والمواظبين علي اعمالهم في وسط الاناضول، الذين يشكلون حاليًا اساس نفوذ حكومه اردوغان في تركيا، فقد تم اعتبارهم بومضه عين "كالفينيين اسلاميين"، حيث انَّ الاخلاقيات الراسماليه قد تمّت عولمتها منذ فتره طويله.

ليس من قبيل الصدفه انْ تُذَكِّر اطروحه "الحزمه الثلاثيه" بالحديث عن "القيم الاسيويه" التي طُرحت بوصفها اسباب الازدهار الاقتصادي في دول "النمور الاسيويه" السلطويه في التسعينيات قبل ان تنهيه الازمه الاسيويه بشكل مؤقت. لكنها واهيه للغايه، بحيث لا يبقي منها بعد تفحُّصها في النهايه الا ما يزيد قليلًا عن محاكاه هزيله لعلم نفس الشعوب، وهي في المقابل رائجه لانها تُجمِّل الاحكام المسبقه الشعبيه غير الموضوعيه من خلال اضفاء هاله التحليل العلمي الزائف عليها.

ومنذ ان قسَّم صموئيل هنتنغتون العالم الي دوائر ثقافيه، راج تفسير كل شيء من خلال "الثقافه"، بدءاً من الارهاب مرورًا بالنجاح الاقتصادي وصولاً الي الفشل في المدرسه. هذا لا يعني في كل هذا غياب العناصر الثقافيه التي يمكنها التاثير بشكل او باخر. لكن مفهوم "الثقافه" اصبح اليوم اطارًا يمكن بمساعدته شرح كل شيء وعدم شرح اي شيء في الوقت نفسه.

علي الاقل، وبعكس الالماني تيلو زاراتسين، لا يُحمِّل المؤلفان تشوا وروبنفيلد الجينات او الدين مسؤوليه توزيع المواهب بشكل غير متساوٍ، لكن بالرغم من ذلك تعرَّض الكتاب لانتقادات شديده في الولايات المتحده الامريكيه، وكتبت حتي صحيفه من طراز "دي فيلت" اليوميه (ذات الميول اليمينيه) عن "دعايه الخوف العنصريه المغرضه".

ولكن في المانيا ايضًا يحلو عزو النجاح المدرسي الاكبر لاطفال الفيتناميين الوافدين مقارنه باطفال الاتراك الوافدين لاسباب ترتبط بالجوانب الثقافيه - انها الاخلاقيات الكونفوشيوسيه اياها... كما تعلمون... اَمّا انْ يكون للاستصغار دورٌ في هذا السياق، او انْ تكون المعدلات المدرسيه للاطفال الايطاليين، الذين يُعدُّون في هذا البلد من اكثر فئات الوافدين قبولاً، هي اكثر سوءًا، فذلك يحلو تجاهله – لانه يناقض الصيغه النمطيه المزعومه القائله بانَّ الدين الاسلامي هو سبب كل تخلَّف.

تشوا وروبنفيلد يعتبران اليهود "مثال المهاجرين الناجحين بامتياز": بالرغم من انهم لا يمثلون سوي اثنين في المئه من سكان الولايات المتحده الامريكيه الا انَّ عددهم بين الحائزين علي جائزه نوبل وفي الاقتصاد والقضاء وكذلك في وول ستريت وهوليوود يفوق بشكل ملحوظ نسبتهم في المجتمع، ما يقدم ماده وافره لنظريات المؤامره. الا انهما يرفضان خرافه حماس اليهود للتحصيل العلمي التي غالبًا ما يجري استخدامها بغيه تفسير هذه الظاهره، فمعظم اليهود الذين وصلوا في اوائل القرن العشرين الي جزيره اليس في نيويورك كانوا شديدي الفقر وقليلي التعليم. كما لم يكن اهتمام الجيل الاول من الحرفيين وصغار التجار ينصب كثيرًا علي توفير التعليم العالي لاطفاله، بحسب تشوا وروبنفيلد.

كان هذا احد الاسباب التي دفعت الولايات المتحده الامريكيه الي فرض قيود شديده علي المهاجرين القادمين من اوروبا الشرقيه بعد الحرب العالميه الاولي. امر تنسي تشوا وينسي روبنفيلد ذكره، بينما بدا صعود اليهود الامريكيين اجتماعيًا في فترهٍ لاحقه.

الثقافات تتغيّر، والهجرات تحدث غالبًا في دورات: وبينما يجلب الجيل الاول روح الاقدام معه كي يحقق النجاح في بيئه جديده، ويكون مضطرًا للكفاح من اجل البقاء، فلا يتمكن غالباً الا الجيل الثاني من النهوض، اما الجيل الثالث فيرتاح الي ما تمَّ التوصُّل اليه، حيث يفتر الطموح.

انَّ الاشاره الي اهميه التحلي بالفضائل الثانويه مثل المواظبه والانضباط وشدّه المراس عندما يريد المرء الصعود من ادني طبقات المجتمع، هي طبعًا اشاره الي حقيقه بديهيه. كما انَّ امكانيه انْ يصبح اقصاء الوافدين من قبل مجتمع الاغلبيه دافعًا لمضاعفه الجهود والتفوّق علي الاخرين، فهو امر ينطبق علي الكثير من الوافدين. لذلك يبدو اختيار المجموعات الثماني التي ذكرها تشوا وروبنفيلد اختيارًا تعسفيًا للغايه.

تشوا وروبنفيلد يعتبران ان اليهود "مثال المهاجرين الناجحين بامتياز": بالرغم من انهم لا يمثلون سوي اثنين في المئه من سكان الولايات المتحده الامريكيه الا انَّ عددهم بين الحائزين علي جائزه نوبل وفي الاقتصاد والقضاء وكذلك في وول ستريت وهوليوود يفوق بشكل ملحوظ نسبتهم في المجتمع.

مزاعم افتقار الامريكيين السود الي العزم

يستحضر المؤلفان الاحصاءات المناسبه لتبرير اطروحاتهما، ويَصُفَّان تعميمات بعضها الي جانب البعض، ولا يذكران الوقائع التي من شانها انْ تشوش علي ما يطرحانه، فيكتبان مثلًا انَّ الايرانيين والكوبيين كانوا من اوساط النخبه في وطنهم قبل ان يهربوا من ثورات بلادهم الي الولايات المتحده الامريكيه.

بينما استفاد النيجيريون والهنود احصائيًا من قواعد الهجره التي كانت تفضِّل مجموعات مهنيه ومؤهلات تعليميه معينه، لذا ادت هجره الطبقه العليا من غرب أفريقيا الي ظاهره تفوّق الطلاب السود القادمين من افريقيا علي الطلاب الاميركيين السود في الكثير من جامعات النخبه في الولايات المتحده الامريكيه.

الا انَّ اقرب ما يدعو الي السخريه هي محاوله تشوا وروبنفيلد تفسير هذا التطوّر وعزوه لافتقار الامريكيين السود الي العزم علي الكفاح لاجل النهوض لانهم يثقون بوعد المساواه الوارد في الدستور الامريكي. يا له من استهتارٍ فريدٍ بارث العبوديه الذي لا تزال تبعاته مؤثره حتي يومنا هذا.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل