المحتوى الرئيسى

«عشت لأروى.. عنك»

04/29 01:10

ربما أكون أضعف من ركض خلفك، فغيري الملايين من عشاق رواياتك، كلنا تحلقنا حولك، عيوننا مشدودة إليك، يلفنا صمت مطبق وأنت سيدي الساحر اللاتيني «ماركيز» تجلس علي مسافة واحدة منا جميعاً تدور بعينيك الطيبتين بيننا وتبتسم فيهتز شاربك الكثيف لتبدأ سحرك علينا فتخرج أوراقك من مكان مجهول بداخلك ربما يكون روحك أو عقلك وتبدأ الحكي: اسمي أيها السادة «جابرييل جارسيا ماركيز».. آسف، فأنا شخصياً لا يروقني هذا الاسم لأنه سلسلة من كلمات عادية لم أستطع قط أن أربطها بنفسي.. ولدت في بلدة «آراكاتاكا» في كولومبيا.. ولا أزال غير آسف على ذلك.. برجي هو برج الحوت، وزوجتي هي مرسيديس: هذان هما أهم حدثين في حياتي لأنني بفضلهما تمكنت حتى الآن، على الأقل، من البقاء على قيد الحياة بالكتابة.. إنني كاتب هَيَّاب، مهنتي الحقيقية هي مهنة ساحر، لكنني أرتبك ارتباكاً شديداً وأنا احاول القيام ببعض الحيل التي أضطر إلى أن ألوذ بها من أجل الأدب.

إن كوني كاتباً من الكتاب ليس سوى إنجاز استثنائي لأنني رديء جداً في الكتابة، وعليَّ أن أخضع نفسي لانضباط بشع كي أنجز كتابة صفحة واحدة بعد ثماني ساعات من العمل. إنني أناضل نضالا جسديا مع كل كلمة.. لكنني، على ما يبدو، عنيد جدا حتى إنني تمكنت من نشر أربعة كتب خلال عشرين سنة.. أما الكتاب الخامس الذي كتبته وقتها فقد كان أبطأ لأنني لم أملك إلا النزر اليسير من الوقت بين كثرة الدائنين وحالات الصداع.

تصير همهمات بيننا فنحن نعرف تواضع وإنسانية «غابيتو» هكذا نناديه كما ينادي عائليًا وبين أصدقائه، نصمت لنستمع للمزيد عن:

(مائة عام من العزلة) و(الحب في زمن الكوليرا) و(خريف البطريرك) و(وقائع موت معلن) و(ذاكرة غانياتي الحزينات)، أو غير ذلك من أوراقك السحرية.. هكذا عشنا في دائرتك سنوات طويلة، خيالك يمنحنا القدرة علي رؤية العالم بألف طريقة ووجه ولكن ومنذ سنوات ليست بعيدة توقف الساحر عن فض الأوراق ترك مكانه الأثير بيننا واختفي وحين تساءلنا: ماذا حل بساحرنا؟.. كان ساحرنا في طريقه لرحلة نسيان طويلة امتثالاً لداء عائلته المتأصل، حتي جاءتنا رسالة ساحرنا «ماركيز» أو «غابيتو» من صديق مقرب تحمل كلماته:

«لو شاء الله أن يهبني شيئاً من حياة أخرى، فإنني سأستثمرها بكل قواي، ربما لن أقول كل ما أفكر به، لكنني حتماً سأفكر في كل ما أقوله، سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه، سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور».

«لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخو، من دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق».. هذه آخر الكلمات التي قالها ساحرنا «ماركيز» في زمن الوعي بنا وبنفسه لتنتهي رحلة من أجمل رحلات الإبداع والسحر الإنساني فيتوقف قلب «ماركيز» عن النبض والحياة.

ولكن هل سننسي «ماركيز» الإجابة عندي: «لا.. بل سأستمر أروي عنه كل ما كتب وسأروي أحداثاً عاشها وسأروي كلمات أضحكته وأحداثاً أبكته سأظل أروي عنك «ماركيز» الكثير فأنا أحفظ لك ما قلته وأنت في سن الرّابعة من عمرك، يقولون إنك كنت شاحباً ومستغرقاً في التأمل، وإنك لم تكن تتكلم إلا لتروي هذيانات، ولكن حكاياتك، في معظمها، كانت أحداثاً بسيطة من الحياة اليومية، تجعلها أنت أكثر جاذبية بتفاصيل متخيلة، لكي يصغي إليّك الكبار.. وكانت أفضل مصادر إلهامك هي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامك لأنهم يظنون أنك لا تفهمها.. أو التي يشفّرونها عمداً، كيلا تفهمها.. لكن الأمر كان خلاف ذلك، فقد كنت تمتصها مثل إسفنجة، وتفككها إلى أجزاء، وتقلبها لكي تخفي الأصل، وعندما ترويها للأشخاص أنفسهم الذين رووها تتملكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما تقوله، وما يفكرون فيه».

سأروي عنك أن الحب لديك كنت تقول عنه: «أحبك لا لذاتك بل لما أنا عليه عندما أكون بقربك».

«لقد محا الحنين - كالعادة - الذكريات السيئة, وضخم الطيبة.. ليس هناك من ينجو من آثاره المخربة».

«أجيبيه بنعم حتى ولو كنتِ تموتين فزعاً، وحتى لو ندمتِ فيما بعد، لأنكِ على أية حال ستندمين طوال حياتكِ إن أنتِ أجبتيه بلا».

«لا أحد يستحق دموعك، ولئن استحقها أحد فلن يدعك تذرفها».

«الحب في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يشتد كثافة، كلما اقترب من الموت».

«قسوة النساء هذه الذي تتابع الأرض بفضلها الدوران حول الشمس، لأنه كان يجهل حينئذ بأنها تقيم دوماً حاجزاً من الغضب لتخفي خوفها، ولتخفي يومئذ أكثر مخاوفها رهبة، ألا وهو الخوف من البقاء بدونه».

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل