المحتوى الرئيسى

عندما طمع صانع السلاطين في كرسي السلطنة وليد فكري

04/21 07:56

زفر أيوب في همسة وهو يتلفت حوله: "كل هؤلاء السفاحين ..ولا مئة من أمثالي ولا ألف فيهم الكفاية لصنع هذه النعوش كلها.. داهية تأخذهم!"

وأخذت ذيول الموكب تتوارى مخلفةً وراءها فرحة يوسف الذي استطاع رغم الزحام أن يلمح شاب السلطان الجديد..

-"في وسع صقرين أن يقفا عليه بكل راحة"

وهبط أيوب صامتًا وامتدت يده إلى النعش :"يا مغفل، صاحب هذا الشاب آلة في يد خير بِك الدوادار.. وهذا هو ما رشّحه لمنصب السلطنة"

(من رواية "السائرون نيامًا"- سعد مكاوي 1963)

من لديهم شغف بقراءة التاريخ المملوكي يمكنهم بسهولة معرفة عمّ يدور الحوار السابق بين أيوب صانع النعوش وصبيه يوسف..

ففي ذلك العام 1467م كان السلطان المملوكي "الظاهر خشقدم" قد مات لينشب الخلاف بين أمراء المماليك حول من يخلفه.. ولأن دستور الحكم كان يتلخص في "هي لمن غلب" فقد كانت الكلمة الأولى للأمير "خير بك" الذي يتولى منصب "الدوادارية"، وهي وظيفة يتولى صاحبها كتابة رسائل السلطان وحفظ أسراره، ولكن مع الفوضى التي أصابت نظام الحكم في العصر المملوكي الثاني، فقدت الألقاب صلاحياتها الوظيفية وتدرجها في سلم السلطة فكان من الطبيعي أن تجد دوادارًا يفوق الأتابك (قائد الجيش) بل والسلطان نفسه سطوةً ونفوذًا..

كان خيربك إذن صاحب السطوة الأعلى واليد الأطول أو كما يقال بلغة الحاضر "صاحب الكعب الأعلى" على باقي الأمراء، وبالتالي فقد كان له وحده القول الفصل..

ورغم أن المتوقع في تلك الحالة أن يقدم نفسه سلطانًا جديدًا للبلاد، إلا أن هذا الرجل الذي عركته الحياة لم يكن ليضع نفسه في هذا الفخ، فالدولة على شفا الانهيار، والخزانة السلطانية خاوية، والأوبئة تشن هجامتها المتتالية على البلاد، والحركة الاقتصادية في انحدار مستمر، أما الحالة الأمنية فهي تحت رحمة الفوضى سواء من جهة عصابات المخربين التي تهاجم المدن أو من جهة المماليك الجلبان (الذين جلبوا كبارًا فلم يتلقوا التربية المناسبة) الذين يشنون الغارة تلو الأخرى على الأسواق والمحال والحمامات سرقةً وهتكًا للأعراض وربما قتلًا.. وخيربك الداهية لم يكن ليخاطر بوضع نفسه "في وجه المدفع" لعلمه أن السلطان القادم غالبًا سيُهتَف بسقوطه بعد أيامٍ قليلة إذا عجز عن التعامل مع تلك التحديات..

هنا، كان الحل بسيطًا، أن يضع الدوادار جانبًا من أحلامه وطموحاته، وأن يلعب دور "صانع السلاطين" ويختار ذلك التعس الذي عليه أن يحمل في كفه كرة النار حتى يحترق، كان خيربك يفضل أن يكون المرشح لذلك رجلًا من صنائعه، ولكن كان عليه أن يراعي توازنات القوى وألّا ينسى أن في الساحة مكان لأقوى منافسيه الأمير "تمربغا" الذي كان يمهد لمرشحه "الأمير يلباي".. لم يكن الوقت مناسبًا للاصطدام بتمربغا-هكذا فكر خاير بك-كما أن فوز مرشح تمربغا بالسلطنة ثم إسقاطه سيؤدي بالضرورة لسقوط هذا الأخير.. فضلًا عن أن يلباي رجل "خفيف" يذهب حيث شائت الريح.. وما لا يعرفه الكثيرون أن كما أنه ألعوبة في يد تمربغا فإنه في ذات الوقت ألعوبة في يد خيربك.. لم يكن على الدوادار إذن أن يفكر كثيرًا قبل أن يحسم موقفه..

"فلما تعصبت الأمراء للأتابكي يلباي، فما وسع خيربك إلا الموافقة على ذلك، فأحضر الخليفة والقضاء الأربعة، وأحضروا إليه شعار السلطنة، وهي الجبّة والعمامة السوداء والسيف البداوي، فبايعه الخليفة وتلقب بأبي سعيد الظاهر".

"وفي ذلك اليوم سقط باب القصر الكبير فما أمكن الدخول إلى القصر إلا من الإيوان، فتفائل الناس بسرعة زوال ملكه عن قريب، وكذا كان"

"فلما جلس على سرير المُلك باس له الأمراء الأرض، وضُرِبَت له البشائر في القلعة، ونودي بسلطنته في القاهرة، فلم يدعُ له أحد من الناس"

(بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس)

"وصار هو في السلطنة حِسًا والمَعني خيربك، وكل أمر لا يبتّه خيربك المذكور فهو موقوف لا يُقضَى، وعلم منه ذلك كل أحد، ولهجت العوام عنه بقولهم "إيش كنت أنا؟ قل له!" يعنون بذلك أنه إذا قُدِمَت له مظلمة أو قصة بأمر من الأمور يقول لهم "قولوا لخير بك"

(النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة –ابن تغري بردي)

-"أسبوعان مرا على طلوع ابن المجنونة للأريكة"

-"ما الذي ينقص أستاذي حقًا؟ الصنجق وقطيفة العرش؟لماذا تذكر دائمًا ذلك المجنون الذي صنعته بيدك؟"

شهران قضاهما خيربك يحكم من وراء ستار، يرصد الشارع ويدرك غضب الرعية من ذهول السلطان عن الواقع.. الغلاء زائد، القوت شاحح، الطرق مقطوعة، الأمن ضائع بين شيوخ المنسر وكبار المماليك الجلبان، والناس تتهامس بأن السلطان الجديد كان شؤمًا على البلاد والعباد.. هنا كان على صانع السلاطين أن يدرك دوره في تحريك قطعة الشطرنج.. وكانت قطعته هذه المرة هي منافسه "تمربغا" نفسه!

لم يكن الأمر ليحتاج إلى كثير من العناء، فالسلطان مُبغَض من الرعية، والأمراء يتلهفون لسقوطه، وتمربغا الرومي يتحرق شوقًا لحمل لقب السلطنة.. فكان من السهل إقناعه بالانقلاب على صنيعته يلباي وخلعه!

"فلما كان يوم السبت سابع جمادى الأولى من هذه السنة، حضر الأتابكي تمربغا وسائر الأمراء، في المقعد الذي بباب السلسلة، فلما تكامل المجلس حضر الخليفة والقضاة الأربعة، ثم عُمِلَت صورة شرعية في خلع الظاهر يلباي، وقامت البيّنة بأنه عاجز عن تدبير المملكة، فخُلِعَ الظاهر يلباي من السلطنة، وبويِعَ الأتابكي تمربغا بالسلطنة، وتلقب بالملك الظاهر أيضًا"

(بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس)

تولى تمربغا الرومي السلطنة وقد حسب أنه يجني ثمار عمله ليفاجأ بأنه محاصر بأعوان خيربك يحصون عليه أنفاسه ولا يمررون من أوامره إلا ما يوافق هوى الدوادار.. تهاوت إذن أحلامه أن يكون السلطان البطل الذي ينتشل البلاد من كوارثها وينال بقراراته الحاسمة حب الرعية والخلود في سجلات تاريخ السلاطين.. صارت لتمربغا السلطنة كما أراد، ولكن بالاسم دون الفعل أو التمكُن، وأدرك أنه مجرد حلقة في سلسلة من السلاطين الذين يضعهم خيربك ويخلعهم..

ولكن خيربك كانت لديه خطط أخرى، فالرجل الطموح قد سئم لعب دور صانع السلاطين وتاقت نفسه لأن يخلع عباءة الأمير الدوادار ليضع على كتفيه عباءة السلطنة، ويغادر موقعه في الظل ليصبح هو السلطان قولًا وفعلًا.. فبعد أن قدم للمملكة سلطانين فاشلين أفليست الفرصة سانحة ليقدم لهم نفسه سلطانًا قديرًا منقذًا للدولة من نكباتها، تزدهر تحت حكمه البلاد، وتلهج بالثناء عليه العباد؟!

"هلل الحرس لمماليك خيربك وفتحوا لهم معابر البوابات قبل غروب الشمس، ودخل خير بك إلى القلعة وأنزل تمربغا من حريمه وأوقفه أمامه في الحوش السلطاني وطلب منه خاتم السلطنة، وكان رجاله قد نزعوا سيف الرومي، لكنه لم يفقد وقاره الهاديء عند هذه البغتة اللئيمة:

-"هل كدّر أحد خاطرك بشيء؟ ما هذه العملة يا خيربك وما هذا الغدر؟"

-"رأيتُ بعون الله أن أسمي نفسي السلطان الظاهر، وأبدأ ممارستي شئون السلطنة بالدعاء إلى الله أن يوفقنا لما فيه خدمة الإسلام والمسلمين"

-"الذي رزأ يلباي بي ورزأني بك قادر على أن يرزأك بقايتباي أو غيره..أعانك الله على ما بُليت"

"فكانت مدة إقامته في السلطنة بالديار المصرية ثمانية وخمسين يومًا لا غير إلى يوم خلعه من السلطنة"

(بدائع الزهور في وقائع الدهور-ابن إياس)

وهكذا حقق صانع السلاطين حلمه وصار سلطانًا! سلطان البرّين وملك البحرين وخادم الحرمين الشريفين، السلطان الظاهر خيربك...

مشاعل ملأت الليل كله بعشر ساعات سلطانية، ثم اندفع إلى قاعة العرش مع تباشير الفجر كبير من حرس القلعة الجديد، واقتحمها وارتمى على ركبتيه أمام السلطان الظاهر:"عفوَك يا مولاي! لكن القلعة مطوقة بعسكر قايتباي!"

"فبينما خيربك في أمره ونهيه، فبلغه ما وقع لقايتباي، وأن العسكر قد إلتف عليه وترشح أمره إلى السلطنة، فاضطربت أحواله وضاق الأمر عليه، فعند ذلك أخرج الظاهر تمربغا من المخبأة(مكان حبسه)وأجلسه على مرتبته، وأعاد له النمجاة والترس(شعارات الحكم) ثم انبطح بين يديه وقال له"قم اقتلني بيدك، فإني كنت باغيًا عليك" فقال له الظاهر تمربغا "طمن خاطرك يا أمير دوادار، لا أنا ولا أنت بقى لنا إقامة، وإن السلطنة لقايتباي"

(بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس)

قايتباي! من كان يدرك أن هذا الرجل الهاديء الذي لا يبدو عنه أنه أكثر من قائد عسكري صارم منهمك في عمله يمكن أن يسارع لقلب المائدة والموازين كلها على رؤوس السلاطين وصُناعهم؟! لم يسع خيربك أن يستمتع بالسلطنة لأكثر من ليلة حتى كانت قوات قايتباي تحاصر مقر الحكم وتشتبك مع قواته.. ماذا عن الرعية؟

"إن شئت الحقيقة، فإن وليمة الفلاح التي لا ينالها كل يوم هي الجبن القريش والبصل ورغيف الشعير، والكرباج من وراء ذلك محيط"

"يا رب إن لم تكن هذه كنانتك في أرضك فلِماذا تركتهم يقولون لنا هذا ولماذا تركتنا نصدقه؟!"

"قال يوسف الصغير مسترجعًا بعض كلمات معلمه: كلما وقع عجل طلع لنا غيره، ما الفائدة؟!"

فات الوقت.. فالرعية قد اعتادت انقلاب النخبة الحاكمة على بعضها بعضًا حتى لم يعد يشغلها الأمر كثيرًا.. صانع السلاطين طمع في السلطنة ونالها ولكن غاب عن ذهنه أنه في موقعه هذا قد تنازل عن فرصة رائعة للنجاة، فلو كان قد رضي بدوره من وراء الستار لكان تنصله من السلطان صنيعته وتحالفه مع السيد الجديد أمرًا موضع نظر ومفاوضة.. أما وهو الآن "في وجه المدفع" فقد اكتشف أنه قد قامر بورقة نجاته الأخيرة.. والقاعدة معروفة في مصر أن صاحب العرش إما في القصر، وإما في القبر، أو السجن في أفضل الأحوال!

"وفي هذه السنة حكم فيها أربعة سلاطين"

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل