المحتوى الرئيسى

جمال فهمي يكتب:الموت حُبًّا..

04/19 11:06

أول من أمس غادرنا راحلًا إلى المجد والخلود، الأديب والكاتب والصحفى والفيلسوف جابرييل جارسيا ماركيز ساحر «الواقعية السحرية» ورائدها.. هذا الذى ولد وشبّ وانطلق من بوليفيا لكن سحره القصصى الإبداعى الأخَّاذ سرعان ما شاع وفاض على أرجاء الكوكب كله، حتى إن جائزة «نوبل» التى أتته مهرولة فى عام 1982 «كما أتت ساحرنا نجيب محفوظ متأخرة» بدت كأنها تتوارى خجلا وكسوفا.

لقد كان ماركيز آخر كبار أعمدة فن القص المعاصر، وها هو ذا يرحل تاركًا وصية كتبها بيده للإنسانية التى أحبها وأحبته، بعدما تأكد أن داء السرطان الذى داهمه منتصر عليه لا محالة، وبدورى سأترك السطور المقبلة لأغلبها، ثم سأختم بملخص لواحدة من أجمل رواياته وأقصرها وأكثرها تكثيفا وتوضيحا لمفهوم «الواقعية السحرية» التى أسهم بالنصيب الأكبر فى تأسيسها.. ففى تلك القصة التى تحمل عنوان «عن الحب وشياطين أخرى»، يتجسد هذا الخليط الجبار بين «الواقع» التاريخى والسحر، يحيث تبدو الحكاية، كما قال هو نفسه: «حقيقية» لا يمكن إثبات أنها حدثت.. فهيا أولا، إلى نص «الوصية»:

«لو شاء ربى أن يهبنى شيئا من حياة أخرى، فإننى سأستثمرها بكل قواى.. ربما لن أقول كل ما أفكر به، لكننى حتما سأفكر فى كل ما أقوله.. سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه.. سأنام قليلا وأحلم كثيرا، مدركا أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعنى خسارة ستين ثانية من النور.. سأسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو والجميع نيام».

«لو شاء ربى أن يهبنى حياة أخرى، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقا متى شاخوا، من دون أن يدركوا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق.. سأمنح للطفل أجنحة، لكننى سأدعه يتعلم التحليق وحده.. والكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتى مع الشيخوخة، بل بفعل النسيان».

«تعلمت منكم الكثير أيها البشر.. تعلمت أن الجميع يريد العيش على قمة الجبل، غير مدركين أن سر السعادة يكمن فى تسلقه.. تعلمت أن المولود الجديد حين يشد على أصبع أبيه للمرة الأولى فذلك يعنى أنه أمسك بها إلى الأبد.. تعلمت أن الإنسان ينظر إلى الآخر من فوق حين يجب أن يساعده على الوقوف.. تعلمت منكم أشياء كثيرة، لكن قلة منها ستفيدنى، لأنها عندما تستقر فى حقيبتى سأكون أودع الحياة».

انتهى نص يعض ما فى وصية ماركيز، فأما قصة «الحب وشياطين أخرى»، فهى حكاية ينقلها الأديب العظيم من حكايات الجدة، التى تؤكد لأحفادها أنها حدثت فعلا من مئتى سنة فى مدينة ساحلية كولومبية يعيش فيها أجناس من ألوان وأشكال مختلفة، ومن بينهم صبية تدعى سييرفا ماريا.. هذه الصبية ابنة رجل من طبقة عليا، انحدرت وذهب عنها المجد التليد، لذلك كان غير مبال بابنته، وتركها للعبيد الهجناء الذين كانوا يخدمون فى المنزل لكى يربوها، فتعلمت الفتاة سييرفا منهم لغاتهم المختلطة «تشبه اللغات التى يستعملها الخدم الآسيويون فى منطقة الخليح الآن»، وكذلك تعلمت رقصهم وشربت فنونهم، وتعلمت منهم كل ما يتعلق بالحياة خصوصا التحرر الأخلاقى الذى أضاف لجمالها الأخَّاذ فتنة وإثارة هائلتين، مما جعل سيرتها على كل لسان فى المدينة، أما أهلها فقد راحوا جميعا يقولون عنها باستهجان: إنها فتاة ليس فيها من سمات طبقتها وتقاليدها وأخلاقها سوى البشرة البيضاء فحسب.

وفى يوم من الأيام عقر الفتاة المستهترة كلب فى الطريق وجرح يدها اليسرى ثم مات فورا، وبعد هذه الحادثة تحولت سييرفا إلى صبية غريبة الأطوار وعجز الأطباء عن تفسير حالتها، وبناء عليه قرر مطران الكنيسة أن لا سبيل لعلاجها إلا الدواء الروحى، وقام بحجزها وعزلها فى حجرة (أو بالأحرى «زنزانة») ملحقة بدير سانتا كلارا، وكلف قسيسا شابا ومثقفا يدعى جايتانو ديلاورا بالسهر على رعايتها وعلاج روحها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل