المحتوى الرئيسى

الطاهر عبد الله الحاضر الغائب فى أزمة الصعيد

04/15 12:03

إن القراءة التقليدية للصعيد عادة ما تتجاهل التغيرات التي شهدها هذا الفضاء القصى العصى من أرض مصر، وما صاحبها من تغيرات فى المنظومة و العلاقات الاجتماعية فيه،

فهناك تباعد كبير بين الصورة التي يقدمها الأدب للصعيد وحقيقة التركيبة المكونة لهذا المجتمع، وما لم يكن الكاتب نهل من هذه البئر وأيقنها، فلن تبوح له بأسرارها ولن تسمح له باستيعابها و هضمها و من ثم لفظها فى إبداع منظم. فهناك جماعات في الصعيد لا يعرف عنها كثير من الأدباء ما يكفي. فالصعيد ليس كتلة واحدة كما تقدمه دائما أفكار المبدعين، ربما يكون كياناُ واحداً جغرافياً، ولكنه متعدد اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً أيضاً، فبعض القيم والأخلاق السائدة في مناطق فيه، ربما تكون غير موجودة بنفس الدرجة في مناطق أخرى.

لقد أصابت الدهشة كثيرين منا وهم يستمعون لما حدث فى الأيام الأخيرة بين أبناء قبائل أسوان الهلايل والنوبيين، والتى راح ضحيتها أكثر من 28 قتيلاً وعشرات المصابين، وتسابق الجميع فى القسم على وجود الطرف الثالث الذى مللنا اختفاءه، كما مللنا ظهوره، وانتصرت نظرية المؤامرة التى أولنا إليها كل ما واجهنا من كوارث طوال السنوات الأربع الماضية، وكأننا لم نسمع عن قسوة هذه الأرض أبدا، وكأننا لم نقرأ أو نشاهد الطوق والأسورة، للمبدع العملاق يحيى الطاهر عبدالله والذى تمر هذه الأيام ذكراه الثالثة والثلاثين. ولكننا نجد أنفسنا بعد هذه الدهشة مرغمين على أن نستثنى، من هذه القسوة قرى الأقصر وأسوان والنوبة، فمن منا لم يقع أسيراً لطيبة قلب نوبى أو أسوانى ممن قابلونا فى الحياة، من زملاء الدراسة أو العمل أو الجيران، فنجد أنفسنا فى حيرة ليس منها فكاك، وهو ما يجعلنا نجزم بأن هذه الأرض ستظل لغزاً لم تسبر أغواره بعد، فقليلون هم من دخلوا هذه الأرض و كتبوا عنها، وأقل منهم من استطاع ان يكون صادقاً فى الكتابة عنها، و من هؤلاء الطاهر عبد الله الذى لم يمهله القدر كثيراً ليبح لنا الصعيد بأسراره على يديه.

فبعد ثلاثة وثلاثين عاما من غيابه ما زالت كتاباته تواصل حضورها. حيث استطاع من خلالها أن يصف لنا وبدقة، صورة كاملة لشخصيات هذه الأرض، فهو يصور أدق تفاصيل الشخصيات والاحداث المحيطة بها وسماتها الانسانية. وقد عبر عن عالمه الخاص، وظرفه التاريخي وأصوله وبيئته فى قرية الكرنك مسقطُ رأسه والتى كانت دومًا منبعًا لإلهامه.. بكل عالمها ومفرداتها، حتى استطاع ان يصنع منها أسطورته الخاصة. إنه يحيى الطاهر عبد الله والذى اعتبره كثيرون شاعر القصة القصيرة وعدوه من أبرز أدباء الستينات.

فهو الضلع الثالث في الثالوث الادبي الرائع النازح من الجنوب والذي أدهش الاجيال السابقة عليه بتناوله الجديد للقصة والقصيدة، وأذهل الاجيال التالية له بسحر لغته وعبقريه التصوير، هو ثالث الشاعرين عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل.

عندما نزح الطاهر عبد الله إلى القاهرة يتلو عليها من آيات إبداعه الأدبي، يصف قريته التى ترقد في أحضان الجبل وسط آثار وأساطير الأجداد. في الوقت الذى كانت تضج فيه القاهرة بالثورات والصخب.. كانت تلك الأرض ما زالت بريئه تتلمس بركات الشيوخ والمدد.

لقد آمن الطاهر ان (الناس ليسوا صماً.. وحين يقول يكثر المستمعين) فلجأ لروايه أعماله قبل كتابتها. فكان يدون ما يؤلفه من قصص في رأسه، ويقرأها بلا استناد لورقة، بل إنه لا يكتبها إلا ليدفع بها للنشر،عدا ذلك فهو يكررها ويكررها كلما سنحت الفرصة أمام مستمعيه دون زيادة حرف جديد، ربما عشق هذا الحكى عن طريق ليالى السمر الطويلة فى بلاده البعيدة وهو طفل يستمع لعازفى الربابات.

ولد عبد الفتاح يحيى الطاهر محمد عبد الله في 30 إبريل عام 1938 بقرية الكرنك مركز الأقصر بمصر، توفيت والدته وهو في سن صغيرة، فربته خالته والتي أصبحت زوجة أبيه فيما بعد، وليحيى ثمانية إخوة وأخوات ترتيبه الثاني بينهم، وكان والده شيخا معمما يقوم بالتدريس في إحدى المدارس الابتدائية بالقرية، وكان لوالده تأثير كبير عليه في حب اللغة العربية، بالإضافة إلى أنه كان مهتما بكتابات العقاد والمازنى فكان عقادى الهوى مثلما شهد أصدقاؤه.

تلقى تعليمه بالكرنك حتى حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة ثم عمل بوزارة الزراعة لفترة قصيرة، وفي العام 1959 انتقل إلى قنا مسقط رأسى الشاعرين الكبيرين عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل، حيث التقى بهما، وقامت بينهم صداقة طويلة، حيث أقام قرابة ثلاث سنوات فى بيت الشيخ الأبنودى بأبنود وسط ابنائه، بحسب رواية الشاعر عبد الرحمن الأبنودى.

انتقل يحيى إلى القاهرة وكان قد سبقه إليها صديقه عبد الرحمن الأبنودى في نهاية عام 1961 بينما أنتقل أمل دنقل إلى الإسكندرية، أقام يحيى مع الأبنودى في شقة بحى بولاق الدكرور.

وعلى مقهى ريش، قابله يوسف إدريس واستمع اليه ونشر له مجموعة محبوب الشمس في مجلة الكاتب، ثم قدمه عبد الفتاح الجمل في الملحق الأدبي بجريدة المساء مما ساعد على ظهور نجمه كواحد من أبرز كتاب القصة القصيرة فى هذه الفترة.

ثم كتب بعدها في نفس السنة (جبل الشاى الأخضر)، وفى العام 1964 كتب بقية قصص مجموعته الأولى (ثلاث شجيرات تثمر برتقالا). صدرت مجموعته الأولى «ثلاث شجيرات كبيرة تثمر برتقالاً» سنة 1970م، كما أنه نشر روايته الأولى «الدفّ والصندوق» عام 1974م عن طريق حزب البعث العراقي، الذي كان مهتمًا وقتها بنشر ودعم الكتب. فى أكتوبر 1966 صدر أمر باعتقال (يحيى الطاهر) ضمن مجموعة من الكتاب والفنانين فهرب لفترة ثم قبض عليه وأطلق سراحه فى إبريل 1967.

تزوج يحيى الطاهر من أخت صديقه الناقد عبد المنعم تليمة وأنجب بنتين هما أسماء وهالة ومحمد وقد توفى وهو صغير.

هذه أسماء التى قال لها أمل دنقل فى رثائه لصديقه:

ليت (أسماء) تعرف أن أباها صعد..لم يمت

وهل يمت الذي (يحيى) كأن الحياة أبد .

أما عرابه ورفيق دربه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى فقال

«فوجئنا أمل دنقل وأنا أن يحيي شديد النهم للقراءة وأن اطلاعاته الأدبية تفوقنا بكثير، ربما لأنه أتيح له أن يقرأ في مكتبة عمه. ولأول مرة في حياتنا نكتشف إنسانا ينتمي حقيقة الى الثقافة يدافع عن آرائه حتى الموت، بحميمية وصدق مما يدل علي أنه اتخذ الثقافة أهلا ومنهج حياة ودارا وعائلة ويتحزب تحزبا مصيريا لما يعتقده» هكذا تحدث عنه الأبنودى أيضاً.

وكذلك قال «لكنه كان دائما حبيب الأمهات جميعا وفتاهن المفضل لمعسول لسانه ولصدقه الشديد في المودة التي تحول فيما بعد إلي «اسكافي» لها وكتب رائعته (اسكافي المودة).»

نشرت أعمال الطاهر عبد الله الكاملة في عام 1983 أى بعد وفاته عن دار المستقبل العربى وضمت مجموعة قصصية كان يحيى قد أعدها للنشر قبل وفاته وهى (الرقصة المباحة)، وصدرت منها طبعة ثانية عام 1993. تعتبر قصة «الرسول» آخر ما كتبه يحيى الطاهر إذ كتبها فى الأيام الأولى من شهر إبريل 1981.

لم يمهل القدر الطاهر وقتاً كافياً ليسعد بما حققه من إبداع، فلم

ينشر له فى حياته سوى حوار صحفى واحد أجراه معه الكاتب سمير غريب ونشر فى العدد الثالث من مجلة (خطوة) ،كما أجرت معه إذاعة البرنامج الثاني (البرنامج الثقافي) لقاءً واحداً

وصدر عن أعماله القصصية كتاب نقدى وحيد هو «شجو الطائر.. شدو السرب» لصديقه الدكتور حسين حمودة عام 1996 عن هيئة قصور الثقافة.

ترجمت أعماله إلى الإنجليزية وقام بترجمتها دنيس جونسون ديفز وإلى الإيطالية والألمانية والبولندية.

أعد الدكتور حسين حمودة عام 1990 عنه رسالة ماجستير بكلية الآداب فى جامعة القاهرة، كما قدّم عنه الدكتور سامي ستار الشيكلي عراقي رسالة دكتوراه لجامعة بيرن الألمانية عام 2000م.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل