المحتوى الرئيسى

«بهنموه» أفقر قرية فى مصر

03/30 11:28

فرن القرية يتوقف بسبب نقص الوقود.. و10 أرغفة للأسرة من 7 أفراد الأهالى مشغولون بأحوالهم عن السياسة .. و90٪ منهم مصابون بفيرس سى والفشل الكلوىفى كل بلد جنوب، ودائما ما يكون هذا الجنوب فقيرا وجائعا ومريضا ومنهكا، مع أن الجهات الأخرى ليست أوفر حظا، الكل فى الفقر سواء، وقديما قال الحكيم «لو كان الفقر رجلا لقتلته» لكن الحكيم مات قبل أن يرى أثر اجتماع الفقر، مع سوء التغذية، مع انعدام فرص العمل والتشغيل، وشح الدخل، وصعوبة الظروف السكنية، ليخبرنا بحقيقة نواياه تجاه ما سبق.

فقر المكان وفقر وسائل المواصلات والفقر حتى فى خدمات الطريق، هو رفيق الرحلة من المنيب، إلى بنى سويف، فى الطريق على امتداده صحراء فقط على الجانبين، لا كمائن أمنية، ولا مرورية، ولا أعمدة إنارة، ولا لافتات مرورية تدل السائرين، لا يوجد ما يدل على وجود «دولة» ينتمى إليها سكان «الجنوب» فقط نقطة إسعاف وحيدة فى منتصف الطريق على بعد 86 كم من القاهرة، لا أحد يعلم كيفية الاتصال بها فى ظل أن شبكات المحمول تنقطع قبل أن تعود لتنقطع وهكذا طوال الطريق.

«على شمال السما» تعبير يستخدمه الفلاحون فى محافظات وجه بحرى كتعبير عن بعد مكان ما، و«على شمال السما» أيضا تقع قرية «بهنموه» التابعة لمركز إهناسيا، التى صنفها صندوق التنمية الاجتماعية كأفقر قرى مصر لعام 2014، وفقا لمعايير تستعرض أبعادا متعددة لمستويات المعيشة مثل الفقر، التعليم، الصحة، سوء التغذية، التشغيل، الدخل، الظروف السكنية، حيث تبلغ نسبة الفقر بين سكانها 98 %.

المواصلات لا تصل القرية إلا نادرا

لا تصل المواصلات إلى القرية إلا نادرا، أو با تفاق مخصوص مع أحد السائقين، لأن الطريق ينتهى إلى القرية التى تسبقهم، ويضطر أهلها إلى المشى وصولا إلى منازلهم، وهكذا عند الخروج منها، يسيرون نفس المسافة إلى «وش الباب» حتى يجدوا وسائل المواصلات.

بعد الوصول إلى القرية والتجوال فى شوارع لا يتعدى عرض أغلبها المترين، تسجل الانطباعات الأولى لتصفح وجوه الناظرين على أولئك الغرباء القادمين للقرية، فقرا ومرضا وبؤسا على ملامح أهل القرية، لكنها لم تفلح فى حجب مسحة من جمال غابر على وجوه أطفال أنهكهم الفقر والعوز.

إحدى السيدات تستخدم مياه النيل لغسل الأواني والصحون

إلى الجمعية الزراعية للقرية توجهنا، 7 موظفين، فى غرفة لا تزيد مساحتها عن 15 مترا، لديهم ثلاثة مكاتب فقط، ليحدثنا جابر زكى محمود، مدير الجمعية، عن القرية التى يقطنها حوالى 4 آلاف نسمة فيما يبلغ زمامها 370 فدانا زراعيا فقط، ليرتفع سعر إيجار الفدان ما بين 7500 إلى 8 آلاف جنيه، وينخفض سعر البيع عن 200 ألف جنيه فى أفضل الأسعار، فيما لا يقل سعر الفدان فى وجه بحرى عن 600 ألف جنيه، والسبب معروف، ففى «بهنموه» لا أحد يملك المال اللازم للشراء، حيث يبلغ عدد من يمتلكون أقل من 3 أفدنة 254 فردا من جملة 281 مالكا للأراضى فى القرية بكاملها، بينهم 165 فردا يمتلكون أقل من فدان أرض.

مساحات الأرض المحدودة وارتفاع أسعار إيجارها، تأكل ما يحصده المستأجرون من ثمن ما يزرعون، أحيانا تأتى الزرعة بخسارة على الفلاح، بعد سداد الديون، ودفع الإيجار، وبيع المحصولات، بالإضافة إلى المشاكل المعتادة للفلاحين مع وزارة الزراعة والهيئات المتفرعة منها، بسبب تأخير الأسمدة وارتفاع أسعارها، وتأخير التقاوى أو إعطاء تقاوى غير مناسبة لطبيعة الأرض، أو تمت تجربتها ولم تحقق النتيجة المرجوة، بعد كل ما سبق لن يتبقى للفلاح شيئا يتحصل عليه، سوى ما تنزه ضروع المواشى من لبن، يأكلون منه ويشربون، والكلام لمدير الجمعية ورفاقه فى المكتب.

يأتى العديد من سكان القرية لمكتب الجمعية الزراعية، ليشاركونا الحديث، فالقرية التى يحفظ أهلها بعضهم البعض، يمكن بوضوح تمييز وجود غرباء بينهم، الشكوى واحدة «البطالة» التى أعجزت كاهل كل أسر القرية، حتى وصل عدد موظفى الحكومة من أبنائها 10 أفراد فقط، فيما الآخرون بلا عمل حكومى أو خاص، فلا فرص أو إمكانات متاحة لتدشين أى نشاط من أى نوع، باستثناء بعض «النصبات» الفقيرة التى وضعها بعض أهل القرية أمام بيوتهم، والتى لا تحتوى أكثر من اللبان والبسكويت، وصوانى البسبوسة، ليتجمع حولها الأطفال للنظر أكثر من الشراء، ففرص حتى الاستثمار الصغير معدومة، والحكومة لا تعين أحدا، والسفر للخارج حلم بعيد المنال، بسبب ارتفاع تكلفته، وعدم مقدرة أحد على دفع تكاليف رحلة سفر إلى ليبيا أو الخليج تصل إلى 20 ألف جنيه، من أين يأتى بهم؟! والكلام لجابر رسمى محمد، مشرف حماية أراضى، أحد أبناء القرية العشرة المعينين.

الفقر والجوع سمتان سائدتان في جنوب مصر

وبحسب جابر يضطر أهل القرية للنزوح إلى القاهرة للعمل فى جمع أوراق وعلب «الكارتون» من القمامة وتجميعها وبيعها بالجملة للتجار، لا فرق بين من حصل على مؤهل عال أو من لم يحصل، فالكل فى بحثه عن لقمة العيش سواء.

الناس فى بهنموه يشغلهم ما لايشغل أهل الوادى وسكانه، فأحاديث الثورة والإنقلاب وصراعات الجيش والإخوان، لا وجود لها هنا، فالجميع مهموم بما فيه الكفاية فى بلد يصل عدد مصابى فيروس سى والفشل الكلوى إلى 90 % من عدد السكان، لتكشف جولة للرصد فى منازل القرية التى لا يزيد مساحة أكبرها عن 60 مترا يضم فيما يضم غرفة للمواشى فى قلب البيت دائما، حيث لا توجد رفاهية توفير مكان خارج المنزل لبقرة أو زوجين من الماعز فى وقت ينام فيه 7 أشقاء ووالدهم ووالدتهم فى غرفة واحدة، فيما تنزل ستارة من السقف على الأرض، لتكشف عن «حمام بلدى» لمن أسعده الحظ بوجود مساحة لحمام فى منزله، فعبض اهالى القرية لا يتوافر لديهم «حمام» فى منزلهم ليضطروا لقضاء حاجاتهم الطبيعية عند الجيران، كما فى حالة «رجب، م أ».

رجب البالغ من العمر 46 عاما، الذى يقيم مع والدته فى غرفة تحتوى على ثلاث «كنبات» فقط، بلا حمام، مصاب بالفشل الكلوى منذ أكثر من 20 عاما، ينفق ألف جنيه شهريا على العلاج فى المستشفيات الحكومية، يدبرها «أهل الخير» للرجل الذى لا يعمل، وقبل أن يقعده المرض كان «فواعليا أجيرا» يعمل فى «الهدم»، بطبيعة الحال لم يتزوج رجب، فمن أين له بتدبير مصاريف الزواج وهو غير قادر على توفير مصاريف علاجه.

بابتسامة رضا فى وجه أرهقه المرض والفقر يكشف رجب عن ذراع أنهكه الوخز بإبر ماكينة الغسيل الكلوى، ليضطر إلى إجراء عملية فى ذراعه فتفشل العملية، ليجريها فى ذراعه الآخر، ليرفع كم «الجلابية الصعيدي» عن عروق متضخمة من كثرة الوخز يجيب عن سؤالى: ماذا تريد يا عم رجب؟! «مش عاوز أكتر من العيشة الطيبة، مش هنعيش قد اللى عشناه، قدرنا نعيش كده هنعمل إيه» فقط يطلب رجل مصدرا للمعيشة الطيبة يعينه على تكاليف العلاج ومصاريفه.

صندوق التنمية صنف قرية بهنموه أفقر قرية في مصر

فى المنزل المقابل لرجب يسكن «صابر، م ح» وسبعة من أولاده، وزوجته فى منزل مكون من أربع غرف لا تزيد مساحة الواحدة على 10 أمتار، يتقاسم هو وأولاده وزوجته وبقرة وعدد من الماعز، غرف المنزل الأربع، له ولزوجته وأولاده غرفتان، وللبقرة غرفة، وللماعز الغرفة الباقية، فى منزل مبنى بالطوب الأبيض، ومسقوف بالأخشاب والحطب، بلا محارة أو بلاط أو شبابيك، ترد عنهم برد الشتاء، أو حر الصيف.

أصيب صابر منذ فترة بمرض لا يعرف تشخيصه منعه من الكلام، فالأصوات الخارجه من فمه عبارة عن حشرجة غير مفهومة، أضافت هما إلى همه الأصلى فى متابعته لمرض فيروس سى، الذى أقعده عن العمل، فيما تقوم زوجته على زارعة ربع فدان «ستة قراريط» لضمان أكل البقرة والماعز، انتظارا لعجل تلده البقرة كل عام وبيعه مع بعض الماعز فى أسواق القرى المجاورة، كمصدر وحيد للدخل، بحسب زوجة صابر.

حكايات رجب، وصابر، هى ذاتها حكايات جميع أهل القرية، الذين وحدهم وجمعهم الفقر والمرض وقلة الدخل وشظف العيش، يستيقظ أهل الوادى للنزول إلى أعمالهم وأشغالهم، فيما يستيقظ أهل «بهنموه» للجلوس أمام عتبات المنازل، لتبادل حكايات الوجع والألم، الجميع شركاء فى نفس الهم، لا بيت يخلو من مصاب بالفشل الكلوى أو فيروس سى، كلهم يتبادلون نفس الشكوى من ذات الوجع، فالحال هو الحال والوجع هو الوجع، وخيوط الموت تحاصر الجميع.

يبدأ العمل فى المخبز من الرابعة فجرا ولمدة ساعتين، فى معظم الأيام، وتأتى أيام على صاحب المخبز لا يفتح فيها مخبزه بسبب أزمة السولار ونقص الوقود اللازم لللتشغيل، فلا يعمل، يفطر أهل القرية على المكرونة، فى الأوقات التى لا يعمل فيها المخبز، نظرا لعدم توافر «الأفران البلدى» داخل البيوت إما لضيق المساحة أو لعدم توفر مستلزمات عملية العجين والخبيز، وارتفاع تكلفته عن الخبز المدعم.

على حدود القرية، عمارتان حديثتنا، أصر الأهالى على زيارتهما، بحسب الأهالى فإن مؤسسة أمريكية هى من بنت العمارتين، لأسر لم يكن لها منازل أو شقق، لتأوى الأسر المقيمة فيها، بحسب «أم نشوى» إحدى ساكنى العمارتين.

على واجهة دوار العمدة «محمد معوض» عمدة القرية المعين حديثا، خلفا لوالده، صور للمشير عبدالفتاح السيسى، هى الوحيدة من نوعها فى القرية، حيث لا وجود لأى صور أو لافتات أو إشارات سياسية بخلاف صور لانتخابات 2011 لمرشحى حزبى الحرية والعدالة، والنور فقط.

يلخص عمدة القرية حال أهلها «ما فيش موارد، وما فيش مشاريع» معظم أهالى القرية «أرزقية» يعملون فى العاصمة، ويعودون إلى أهلهم فى آخر الأسبوع، كما تفتقر القرية إلى مركز شباب أو مركز بريد، أو معهد أزهرى، يجاور المدرسة الوحيدة فى القرية التى تضم المرحلتين الابتدائية والإعدادية.

يضيف العمدة: «إحنا مش مذكورين على الخريطة» عدد كبير من بيوت القرية مبنى من الطوب اللبنى، ومهددين بالسقوط على رؤس ساكنيهم فى أى لحظة، فيما لا أحد فيهم قادر على مد يد العون لجاره، فالحال من بعضه كما يقول المثل الشعبى الدارج، حتى الجامع الوحيد فى القرية، لا توجد له مئذنة، وحاولنا مرارا ومن سنين جمع التبرعات لبناء مئذنة الجامع، لكن من أين؟! وما يحتاجه البيت يحرم على الجامع، والكل محتاج.

بحسب العمدة فإن حصة الدقيق لا تكفى، فليس من المعقول أن منزلا به 7 أفراد تكون حصته 10 أرغفة من الخبز يوميا، بطبيعة الحال لا تكفى.

وحول زيارات المسئولين للقرية أو اهتمامهم بها حتى بعد تداول الإعلام لاختيارها أفقر قرية فى مصر يقول العمدة « أنا بقالى 37 سنة ما شوفتش مسئول فى البلد، ولا محافظ ولا رئيس مجلس محلى» فقط أتوا للتصوير مع قناة فضائية بعد اختيار القرية كأفقر قرية فى مصر.

كما ينفى العمدة اهتمام أى من الجمعيات الخيرية المنتشرة فى بر مصر بالقرية أو مشاكلها، مؤكدا مرة أخطأوا وأحضروا لنا بطاطين فى الشتاء، لكنها كانت غلطة ولم تتكرر من بعدها.

يؤكد العمدة روايات الأهالى حول عدم خلو أى منزل من منازل القرية من مصاب بالفشل الكلوى أو فيروس سى، معتبرا أمراضا كالضغط والسكر، أمراضا عادية بالنسبة لمعاناة أهالى القرية مع الأمراض المنهكة والفتاكة، التى رملت نصف نساء القرية، نتيجة وفاة أزواجهم بسبب المرضين القاتلين الذين يكثر إصابة الرجال بهما عن النساء.

يرسل العمدة معنا شقيقه الأصغر حسين لتفقد بعض منازل القرية، لكن «العينة بينة» كما يقولون فالمعاناة واحدة للجميع، والجميع حصل على نسبته من الفقر والمرض بالعدل والمساواة دون تمييز، نسمع نفس الشكاوى حول إصابة رب الأسرة بفيروس سى والفشل الكلوى، وعدم القدرة على توفير تكاليف العلاج، لتستمر المعاناة «السيزيفية» اللا منتهية.على جانب الطريق الواصل للقرية يمتد «البحر اليوسفى» واصلا إلى الفيوم، وعلى طرح النهر، أقام بعض الأهالى منازلا لهم نظرا لعدم وجود مأوى أو بيوت لهم، فاضطروا إلى البناء على ضفة النهر، منازل بائسة وفقيرة تكفى النظرة الأولى لمعرفة ما بداخلها، بعضها كما حال أهل القرية لا يوجد به حمام، أو حمامات مشتركة لأكثر من منزل، أو حمام خارج المنزل، فيما يلهو الأطفال فى مياه «البحر» كما يسميه الأهالى وتغسل النساء أوانيهم فى مياه البحر بلا خوف من البلهاريسيا أو المرض، وإجابتهم عن سؤالنا لعدم خوفهم من غسيلهم الأوانى فى مياه ملوثة بماذا يفيد الخوف؟

أمام واحد من المنازل المبنية على ضفة النهر، تقف «سارة» طفلة صغيرة أخبرنا الأهالى أنها خرجت من المدرسة لعدم قدرة أهلها على الإنفاق على تعليمها خصوصا بعد إصابة والدها بالفشل الكلوى وفيروس سى، غير أن سارة تصر فى إباء وخجل تنضح به معالم وجهها أنها ما زالت طالبة فى المدرسة «بروح بس مش كل يوم، وبعرف اكتب اسمى» تضع سارة أمامها بعض أكياس الترمس، واللبان والبسكويت، وصينية بسبوسة كبيرة، تشتريها من تاجر باهناسيا بـ15 جنيها، لتبيعها بـ20 جنيه، تكسب 5 جنيهات فيما تحتاج الصينية إلى أربعة أيام حتى تنتهى من بيع قطعها تماما.

تخرج سارة أوراقا خاصة بوالدها بها بعض التحاليل والتذاكر والروشتات الطبية، تخبرنا فقط باحتياجها إلى «كشك» صغير تضع فيه بضاعتها الصغيرة، بدلا من جلستها أمام البيت فى حين ترافق أمها والدها «الذى أنهكه المرض» محجوزا فى المستشفى.

طبيب الوحدة الصحية: نعانى نقصًا فى الأدوات الطبية البسيطة

القرية تعاني نقصا شديدا في الأدوات الطبية

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل