المحتوى الرئيسى

«صاحب مصر».. عندما ضعف العقل فاستسلم للخرافة (2)

03/06 11:52

التاجر البارع لا يطرح بضاعته في السوق إلا بعد أن يكون قد درسها وفهمها جيدًا، وأدرك أنه سيسارع لشراء ما يبيع..

هكذا، هؤلاء الذين روجوا لقدراتهم "الفذة" على قراءة النجوم وأسرار الحروف والأرقام ليصلوا إلى معرفة "صاحب مصر" وأنه- تحديدًا- المشير عبدالفتاح السيسي.. لم يكونوا ليتجاسروا على الخروج علينا بحديثهم هذا إلا وهم مدركون أنهم سيجدون آذانًا مصغية وعقولا تقبل ما يقولون، بل ونفوسًا تتوق له وتتحرق لتصديقه والإيمان به..

فالتاريخ يزدحم بالأساطير المرتبطة بالحكام، وأن ثمة نبوءات قد سبقت توليهم السلطة..

ففي عصر الفراعنة، اشتهرت أسطورة الفرعون "ددف رع" التي تقول، إن عرافًا تنبأ للملك خوفو أن طفلا وُلِدَ لتوه سيجلس على عرشه من بعده، وأن خوفو قد سارع لقتل من حسب أنه ذلك الطفل، إلا أن مجريات الأمور بعد ذلك أدت لنجاة الموعود الحقيقي لتتحقق النبوءة ويصبح هو الفرعون التالي، تلك القصة التي تحدث عنها الرائع نجيب محفوظ في روايته "عبث الأقدار".. وفي عصر المماليك اشتهرت قصة العراف الذي وعد قطز بتولي السلطنة ووعد بيبرس بأنه التالي له، وكذلك قصة الحلم الذي حلمه قطز بأنه سيملك مصر والشام ويقهر المغول..

تلك القصص هي ترجمة لظاهرة ملحوظة في الوجدان الجمعي للشعوب الشرقية، خاصة المصريين، هي إيمانهم في أوقات الأزمات والمِحَن بـ"المُخَلِص" الذي ترسله الأقدار لينتشلها من المآزق والشدائد.. وهي فكرة نجد لها وجودًا في الموروثات الدينية، كفكرة "الماشيح/المسيح" عند اليهود، والذي يبعثه الله ليقيم مملكة الرب بقيادة بني إسرائيل، أو المهدي المنتظر عند السُنة الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن مُلِئَت جورًا، والإمام الغائب عند الشيعة الذي يقيم دولتهم ويحقق لهم حلمهم القديم في العلو والسيطرة.. إلخ. وكلهم يملك تلك القدرة العالية والتأييد الإلهي لتصل الأرض لقمة الخير؛ حيث "الذئب والحمل يرعيان معًا، والأسد يأكل التبن، وأما الحية فطعامها التراب".

الوتر الثاني الذي يلعب عليه هؤلاء هو حالة النوستالجيا، التي تعيشها الجماهير في أوقات الاضمحلال وهبوط أحوال المجتمع؛ حيث تلجأ تلك الجماهير لحيلة نفسية دفاعية للهرب من الواقع القاسي، تتمثل في استحضار أمجاد الماضي وربطها بالشخصيات القيادية المرتبطة بفترات العلو والرخاء والبحث في حاضرها عن شخصيات تأمل أن تجد فيها نماذج مماثلة.

يبدو هذا واضحًا في الخطاب الجماهيري لبعض المشتغلين بالسياسة؛ حيث يربط بعضهم نفسه بـ"استكمال ما بدأه الزعيم الوطني الفلاني"، كحديث الناصريين عن استكمال المشروع الناصري، أو حديث بعض أهل التيار الديني عن "إحياء نموذج الحضارة الإسلامية". وأن هذه الشخصية أو تلك من مرشحيهم هي "خليفة عمر بن الخطاب" أو "عمر بن عبد العزيز هذا العصر".

والمدى الذي تبلغه قدرة الوجدان الجمعي على خلق وسائله الدفاعية في تلك الفترات التاريخية الصعبة يبلغ مستوى قد يصدم المتأمل في التناول الشعبي للوقائع التاريخية، وتطويعه إياها لتحقيق حالة الرضا عن النفس وتوقع الأفضل؛ متمثلا في بزوغ "الأبطال المنقذون" من قلب المحن.

فعلى سبيل المثال، يجد القارئ في السير الشعبية نموذجًا لذلك في كيفية تناول المصريين سيرة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، فبينما هو في حقيقة الأمر أجنبي الأصل ينتمي لطبقة عسكرية متعالية، لمماليك احتكرت صنع القرار وفرضته بقوة السلاح على الشعب، تجد الرواة الشعبيون قد قدموه في "سيرة الظاهر بيبرس" كحاكم من أصل مصري خالص اختطفته يد مجهولة وترقى وارتفع حتى صار يحكم الدولة باسم الشعب.. هذه ببساطة حيلة دفاعية أنتجتها عقول المصريون في العصر المملوكي للتغلب على فكرة أنهم مقهورون لطبقة من الحكام المستبدين المنتمين لأصول أجنبية خالصة..

ونرى نفس النموذج في سيرة "سيف بن ذي يزن" الملك اليمني الذي حكم قبل الإسلام وطرد الأحباش من بلاده بمساعدة الفُرس، حيث يظهرونه ملكًا مسلمًا مؤمنًا بالرسول- صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، بل ويبلغ به الأمر أنه يستجيب لاستغاثة المسلمين من ظلم الملك الحبشي "سيف أرعد"-الذي كان في حقيقة الأمر ملكًا مسيحيًا يحكم الحبشة في العصور الوسطى، ويهدد أمن جنوب مصر، فيتصدى له ابن ذي يزن ويهزمه.

وكذلك نجد نفس النموذج في "سيرة علي الزيبق" البطل الشعبي الذي يسرق الأغنياء ليعطي الفقراء ويصنع "الملاعيب" ليهين الحكام الظالمين.. أو كما قال الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في كلماته عنه "وفي عز الضلمة تهل إنتَ.. ولا نعرف مين فين أو إمتى..ترفع بنيان الغلبان وتطاطي بنيان الوالي.. وترقَص قصر السلطان"..

كل تلك المعالجات الشعبية للواقع التاريخي تنم عمّا يبلغه الوجدان الجمعي من قدرة على "خلق واقعه الخاص" وبث الأمل في نفوس البسطاء أن حركة التاريخ لا بد أن تتمخض عن ذلك "المخلِص المُنتَظَر"..

وأصحاب المطامع السياسية- عبر التاريخ- قد أجادوا فهم وتوظيف هذه المعطيات واستطاع كثير منهم عبر التاريخ أن يحققوا من وراءها مكاسبًا ضخمة أغلبها مرتبط بالسياسة وتوطيد الحكم..

هذه رسالة يلتقطها أساطين الحديث بلغة النجوم والفلك والجفر حين يتحدثون عن أن نجمًا ما قد ظهر في السماء عند ميلاد جمال عبدالناصر وتكرر ظهوره عند ميلاد المشير السيسي.. فهم في حقيقة الأمر يلعبون على مشاعر الجماهير الغفيرة التي تنتظر من ينتشلها من الشقاء الذي تعيشه..

وهم بهذا يقدمون لنا نموذجًا جديدًا لمن يمارسون الدجل، فالدجال هذه المرة ليس شيخًا مجذوبًا يجلس أمام مبخرة عملاقة ويمسك بمسبحة ضخمة، بل هو شخص يحمل لقب "أستاذ" وربما "دكتور" يستخدم في حديثه لغة العلم ومصطلحاته.. وهو- رغم سخرية المثقفون والمتعلمون منه- ليس أحمقًا أو مجنونًا، بل هو في حقيقة الأمر داهية أجاد فهم آفات المجتمع الذي يخاطبه ويحاول استغلالها وتوظيفها لصالح. وأتذكر هنا مقالًا قديمًا لأستاذي وصديقي الدكتور أحمد خالد توفيق وصف فيه توفيق عكاشة بأنه "أنجح إعلامي" لقدرته على "بث رسائل معينة" لأذهان من يتابعونه من البسطاء- وهم كثُر- بينما يغفل المثقفون عن خطره ويكتفون بالسخرية منه والضحك عليه.. وأنا أوافقه الرأي، فمن نضحك منهم ونتداول مقاطع الفيديو الخاصة بهم على مواقع التواصل الاجتماعي ليسوا بتلك السذاجة التي نظنها هم أو- أقولها بكل ثقة- من وراءهم!

الأمر إذن أكبر من مجرد بعض مدّعي العلم و"التَكَشُف"، ولا هو مقتصر على بعض الإعلاميين الذين قرروا تقديم مادة جديدة للتسلية وإثارة "الفرقعة" ورفع مستويات المشاهدة لبرامجهم، فالواقع هو أننا أمام عملية متاجرة ضخمة بمشاعر واحتياجات وإحباطات وآلام البسطاء لتوظيفها لتحقيق أغراض يعلم الله مداها..

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل