المحتوى الرئيسى

21 يومًا فى أمريكا

03/01 06:10

قناة tvw»» تبث وقائع جلسات مجلس النواب على الهواء مباشرة

ولاية واشنطن لا تفرض ضريبة على الدخل.. والمواطنون أجبروا النواب على مواجهة «الأغذية المعدلة وراثيًّا»

60 سنة لطلاء جدران الكونجرس.. وغداء على شرف السناتور

أربع سيدات فقط فى مجلس النواب.. ومجلس الشيوخ رفض التصويت الإلكترونى ومتمسك برفع الأيادى

«كاتب خطابات الحاكم» مهنة معروفة فى أمريكا.. والاحتراف فيها يتم بالانتقال من ولاية إلى أخرى تماما مثلما يحدث للاعبى الكرة بين الأندية

بعد أن روت لنا السناتور كارين قصة انتصار «الماريجوانا» و«بوينج» على الكونجرس فى أوليمبيا، دعتنا بلطف جمّ يليق بسناتور فى مجلس الشيوخ منذ 13 سنة، لتناول الغداء فى مطبخ المبنى. كان النهار قد انتصف، وهذا هو الموعد الرسمى للغداء لأهل أمريكا الذين صرنا منهم بالانتساب المؤقت.. ترى ماذا يعنى الغداء على شرف سناتور فى قلب الكونجرس؟! أطلق لخيالك العنان، أطلقت؟.. تعالَ لأصدمك إذن.

أولا: مطعم الكونجرس فى ولاية واشنطن ليس سوى «كانتين» متطور فى مدرسة «خالد بن الوليد المشتركة» فى أى مدينة فيكِ يا مصر. فقط بعض المقرمشات والسندوتشات، وثمرات التفاح، والكوكاكولا طبعا، وبعض الوجبات الساخنة متوسطة القيمة والثمن.

ثانيا وهذه المفاجأة الأهم: الغداء على حساب كل واحد منا. ما مفهوم أن الغداء على شرف السناتور إذن؟ أنها جلست معنا فى حجرة ملحقة بالمطعم تضم طاولات صغيرة تليق فعلا بفصول مدرسة «خالد بن الوليد»، ليس أكثر ولا أقل. السيدة كارين لم تعزم علينا حتى بكوب شاى فتلة، والتفسير لا يحتاج إلى كثير من الشرح، «السناتور» نائبة عن الشعب الذى يلاحق كل مليم تصرفه، فبأى وجه ستقابل ناخبيه عندما تخبرهم أنها عزمت 23 صحفيا عربيا لتشرح لهم أهمية الماريجوانا فى الانبساط والتمتع بالحياة. لاحظ أن واشنطن من الولايات القليلة التى لا توجد فيها ضريبة على الدخل، لقد قرأت المعلومة صحيحة.. لا توجد هنا ضريبة على الدخل مهما عظم أو صغر، هذا يعطى مناخا أكبر للحرية وجلب الاستثمارات قطعا، وكله بمزاج الشعب ورجال الأعمال طبعا. فمثلا عندما ناقش الكونجرس إمكانية فرض الضريبة على أصحاب الدخول شديدة الضخامة، طرح الأمر فى استفتاء على الشعب، الذى رفض بكل أريحية، خوفا من أن يتطور الأمر ذات يوم ليطول أصحاب الدخول المتوسطة وما أسفلها، وفى كل الأحوال تبدو المعادلة مستقرة، لا ضرائب على الدخل، لكن هناك ضريبة عقارية مقابل تخصيص نصف ميزانية الولاية للتعليم وثلثها للصحة.

خلال الغداء الذى اكتفيت فيه بتفاحة خضراء طازجة -الريجيم مهم إذا كنت أنت من سيدفع ثمن الطعام- شرحت لنا السناتور كارين تركيبة مجلسى النواب والشيوخ. وإليكَ أيضا انهيار واحدة من الأساطير الأمريكية التى نروج لها دون تدقيق. كم عدد السيدات فى الكونجرس بواشنطن؟ أربع فقط من بينهن السيدة كارين التى عزمتنا -مشيها عزمتنا.. برضه الست كانت قاعدة معانا- على الغداء للتو من إجمالى 98 عضوا يتم انتخابهم كل عامين! هناك أيضا نائب يمثل السكان الأصليين واثنان من الأفارقة ونائب «كفيف» مندرج من أصول عربية، وعدد كبير من الآسيويين المنتشرين هنا بالأساس. ما الأسطورة الأمريكية التى انهارت هنا؟ أن انتخاب السيدات أمر يحدث بسهولة فى الولايات المتحدة، وأن شعوبنا العربية فقط هى المتشددة وتقف فى وجه صعود المرأة فى العمل السياسى. أمريكا لا تختلف إذن عن باقى العالم فى صعوبة العمل السياسى للمرأة. الأمر فى الولايات المتحدة قد يكون أفضل وأكثر يسرا، لكن الناخبين عادة ما يميلون للتصويت إلى أصحاب الشنبات، باستثناءات نادرة، حتى فى بلد حر مثل أمريكا كادت أن تصل فيه المرأة إلى منصب الرئيس.

فى الطريق للقاء مجموعة من الصحفيين المختصين بتغطية أخبار الكونجرس، كان علينا أن نتجول باستمتاع حقيقى داخل المبنى فائق الجمال. قبة الكونجرس هنا فى أوليمبيا هى رابع أكبر قبة فى العالم، المبنى من الداخل والخارج تحفة أثرية بالفعل، تم بناؤها قبل 85 عاما، بتكلفة وصلت إلى 7.5 مليون دولار، وهو رقم ضخم قياسا بسنة 1928، وقد تم جمع هذه الملايين من حصيلة بيع الأشجار وقت إعمار المدينة آنذاك، المفارقة أن المبنى استغرق نحو 60 عاما كاملة حتى يستكمل طلاء جدرانه، لأن عملية الطلاء تم تمويلها من الضرائب التى يدفعها المواطنون! هذه قاعدة أمريكية قابلناها من قبل فى غالبية الأماكن التذكارية والتماثيل التى يتم بناؤها لعظمائهم، لكن الحماس ازداد فى هذه المرحلة إلى حد بقاء الكونجرس «بنص دهان» طوال أكثر من نصف قرن بحثا عن تمويل، وهو منطق محترم حقيقى، لأنه لم توجد أى دراسة علمية حتى الآن وجدت ارتباطا بين أداء النواب ودهان مبنى مجلس الشعب إلا فى مصر، الذى يجب أن يتم طلاؤه كل كام سنة حتى يفتح نفس النواب على دهان كلامهم «دوكو» فى ما يبدو.

دخلنا قاعة مجلسى النواب والشيوخ من أعلى، وهما قاعتان فخيمتان بدورهما، وشبيهتان بمجلسى الشعب والشورى فى مصر مع فارق المساحة لصالحنا قطعا، التصويت فى مجلس النواب هنا فى واشنطن يتم بشكل إلكترونى، وهو أمر قاومه بشدة أعضاء مجلس الشيوخ الذين رأوا فى التصويت الإلكترونى أمرا لا يليق بكبارات البلد، وتمسكوا باستمرار التصويت التقليدى عبر رفع اليد بالموافقة.

فى غرفة مجاورة لقاعة مجلس النواب التقينا ستة من الصحفيين المختصين بمتابعة شؤون وأخبار الكونجرس، بعضهم مراسل لوكالات إخبارية كبرى مثل «الأسوشييتد برس» و«رويترز»، وبعضهم مراسل لصحف وإذاعات محلية تغطى ولاية واشنطن فحسب، جلستهم بدا فيها أن الملل سابعهم. التغطية الإخبارية لفاعليات الكونجرس فى ولاية مثل واشنطن ليست مهمة صحفية مثيرة، خصوصا أن هناك قناة تليفزيونية مختصة بنقل وقائع الجلسات على الهواء مباشرة، ماذا تفعلون هنا يا سادة؟

بابتسامة هادئة تليق بوقار المكان ردت علينا رايتشل كارول، مراسلة «الأسوشييتد برس»: لا أحد من الصحفيين يتبرع بالمجىء إلى هنا، نأتى إلى هنا حسب الدور، نحن هنا لسنا فى أكثر المجالات إثارة للتغطية الإخبارية، ولهذا فنعمل هنا معا كفريق عمل، رغم أنه نظريا نحن متنافسون، ولهذا أيضا تقلص العدد الذى يغطى أخبار الكونجرس من 16 صحفيا قبل سنوات إلى سبعة فقط حاليا، وهدفنا بالأساس مساءلة ومحاسبة الحكومة والنواب.

كيف هى علاقتهم مع النواب، وهل تتشابك مصالحهم معا كما يحدث فى بعض الأحيان فى مصر؟ يجيب علينا روبرت إستون الذى يعمل مراسلا لإذاعة «NBR» منذ عشر سنوات قائلا «نحن عادة ما ننتظر النائب حتى يخرج من قاعة المجلس لنسأله ولنعرف منه مزيدا من التفاصيل عما دار فى الداخل. وندرك جيدا أن بعض المعلومات التى يقولها لنا بعض النائب يكون غرضها توصيل رسائل لدوائرهم الانتخابية، لذا نراجع بدقة ما ننتهى من كتابته حتى لا يتم استغلالنا فى ألعاب سياسية، وإذا لم يحدث أن تعاون مع النائب فى منحنا المعلومات الكافية، نتقدم بطلب للحصول على وقائع الجلسة من السجلات الحكومية، لاحظ أننا نقوم أيضا بدور رقابة على النواب، وعلى سبيل المثال فإن رصد عدد المرات التى تناول فيها النائب الغداء برفقة شخص ما أو على حساب جماعات الضغط (اللوبى) يمثل أمرا يثير التساؤلات رغم أنه قانونا، لا غبار عليه». هذا تفسير آخر لما فعلته معنا السناتور كارين فى «كانتين» الكونجرس. تتدخل رايتشل صحفية «الأسوشييتد برس» لتقول «من الممكن أن تكون مهنيا محترفا مع النائب.. ولست صديقا له». سنذكر ذلك جيدا عزيزتنا.

انتهت جولتنا فى الكونجرس، ولم ينته المطر الذى كان لا يزال يتساقط فى الخارج، بعضنا اشترى تذكارا من محل الهدايا الموجود بداخل المبنى، ثم تحرك بنا الأوتوبيس الذى أنقذنا من البلل الكامل متجها إلى محطتنا التالية.. مبنى حاكم الولاية.

كل شىء فى مبنى حاكم ولاية واشنطن يوحى بأننا دخلنا مكتبة عامة، ينكب فيها الموظفون والزوار على القراءة ومتابعة شاشات الكمبيوتر فى هدوء يثير الأعصاب. أين هذا من الصخب الذى تجده عندما تذهب إلى مقر المحافظة فى مصر لتخليص أوراق ابنك ولنقله من مدرسة لأخرى؟ أين بائعو الكازوزة وضاربو المعلقة المعدنية فى كوب الشاى الزجاجى غير النظيف، والملفات المتراصة المتربة؟ من الذى تبدو فيه الحياة مصطنعة أكثر مما يجب.. نحن أم هم؟ أنا أعرف الإجابة لكن أنت حر فى التفكير طبعا.

مبنى الحاكم لا يبعد كثيرا عن الكونجرس، وهو أنيق ووقور ومزدان بلوحات ضخمة من الداخل، كان يفترض أن نلتقى جاى إينسلى الحاكم رقم 23 لولاية واشنطن، الذى تم انتخابه فى يناير 2013، بعدما ظل عضوا فى مجلس النواب لعشرين عاما كاملة، لكن جدول الرجل كان مزدحما، لأسباب عرفناها ونحن فى الكونجرس، ولهذا كان اللقاء مع شخص آخر ربما تزيد أهميته بالنسبة لنا عن أهمية الحاكم.. كاتب الخطابات.

للدقة هى كاتبة الخطابات، سيدة أربعينية لطيفة الحضور، مبتسمة أغلب الوقت، تمسكت بأن تظل واقفة فى قاعة الاجتماعات الفخيمة بينما نحن جلوس، مهنتها التى قد تكون موجودة فى بلادنا العربية لكن دون أن نعرف لها صاحبا، جعلت اللقاء معها استثنائيا، كنت أول من يسأل «نحن فى بلادنا لا نعرف شخصَ كاتب خطابات الحاكم إلا بعد أن يموت أحدهما، وفكرة أن نلتقى كاتب خطابات وجها لوجه هكذا، أمر مثير وشيق، والأسئلة مزدحمة بداخلنا.. لكن ثمة سؤالين مهمين عن طبيعة علاقتك بالحاكم، وعما يمكن أن تفصحى عنه فى مذكراتك من أسرار عندما تتقاعدين».

ابتسمت السيدة قبل أن تتحدث فى لباقة لافتة «أنا بالأساس صحفية مثلكم. وبالتالى عندما أتقاعد من مهنة كاتب الخطابات ربما أعود للعمل فى الصحافة مجددا. وإن كنت أرى أن ذلك أصبح صعبا الآن. ربما بعدما أترك العمل مع حاكم ولاية واشنطن تأتى فرصة للعمل فى نفس المهنة مع حاكم آخر فى ولاية أخرى، الأمر اشبه باحتراف لاعبى الكرة. هذه مهنتى الاحترافية الآن. مهنتى التى أحبها»، مقدمة تثير الشغف أعقبتها بمزيد من التفاصيل «علاقتى بالحاكم وثيقة بكل تأكيد. أنا كاتبة الخطابات وبالتالى أراجعها معه قبل أن يلقيها فى أى مناسبة. وألتقى به قبلها لنخطط معا للنقاط التى ينبغى التأكيد عليها والأخرى التى يجب أن يكون المرور عليها سريعا أو حتى تجاهلها. كنت أعمل مع جاى قبل أن يصبح حاكما لولاية واشنطن، وبالتالى ثمة تفاهم كبير بيننا. من الغنى عن الذكر أنى أعمل لساعات طويلة فى اليوم، وهو ما يؤثر بالفعل على علاقتى مع أبنائى، لكن هذه هى ضريبة مهنتى التى أحبها».

صمتت لحظات قبل أن تعاود الحديث «السؤال الخاص بما الذى يمكن أن أبوح به من أسرار عندما أكتب مذكراتى. هذا سؤال صعب. حقيقة لا أعرف له إجابة دقيقة الآن. لكن الأكيد أن هناك أسرارا لن تخرج أبدا من هذه الغرفة».

لم تكن كاتبة الخطابات هى المتحدث الوحيد فى هذا اللقاء، إلى جوارها كانت تقف شابة شقراء فى العشرينيات من عمرها، عرفت نفسها بوصفها المسؤولة عن شبكة التواصل الاجتماعى الخاص بالحاكم. الموضوع لم يعد جديدا بالنسبة إلينا. معظم المسؤولين فى بلادنا صار لهم حساب رسمى على «فيسبوك» أو «تويتر»، وما تفعله هذه الفتاة العشرينية لا يختلف كثيرا عن نشر أخبار الحاكم وجداول أعماله وخطاباته، لكنها تحاول أن تضع لمسة أمريكية تتعلق بالرد المباشر على أى شخص يكتب تعليقا على قول أو فعل قام به الحاكم، كما أن شكوى يتم كتابتها على حساب الحاكم على «تويتر»، هذا معناه الفورى رد مباشر بالتحقيق فى الأمر، والتحقيق يُفتح فعلا لا مجرد «فض تويتر» على طريقة «فض المجالس».

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل