المحتوى الرئيسى

حاتم صادق يكتب: هل تنبَّأ «خالد محمد خالد» بسقوط الإخوان؟

03/01 02:18

كان الصوت الوحيد من بين 250 عضوًا بالمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية الذى انتقد أمام عبد الناصر مواقف الثورة من الحرية

من الظلم أن لا يتذكر الناس لخالد إلا «خلفاء الرسول» و«رجال حول الرسول» وينسون مؤلفات كشفت عن عقلية مفكر حر وجرىء

فى آخر يوم من فبراير 1996 غيّب الموت عن عالمنا جسد الكاتب والمفكر الإسلامى الكبير خالد محمد خالد، أحد فرسان الكلمة والفكر والموقف.. غاب الجسد وبقى الأثر، فقد ترك لنا الراحل العظيم مجموعة من المؤلفات المهمة فى مجال التاريخ والفكر الدينى والفلسفى والسياسى.. امتاز فيها جميعًا بشجاعة الطرح والقدرة الفذة على النقد الذاتى، واكتشاف مواطن الداء فى البناء الفكرى للأمة، والمهارة والدقة فى وصف الدواء وإن كان مرًّا وغير مستساغ من أصحاب العقول الضيقة الذين تطيب لهم الحياة مع الركود، فاستناموا للتقليد والجمود على الموجود.

وأحب أن أقرر بداية، أن المشكلة الكبرى التى يواجهها الباحث والدارس لفكر وأعمال وحياة كاتبنا العملاق هى الحيرة فى تحديد ما ينبغى التوقف معه وأمامه.. فحياة الرجل كانت حافلة بالمواقف والأحداث وشخصيته مجموعة من المواهب والقدرات والملكات والإشراقات.. فأنت أمام كاتب من العيار الثقيل، اتسمت كتاباته بأسلوب أدبى رشيق تميز فيه الرجل وأبدع. كان يكتب وكأنه يعزف، وله قدرة فائقة على التصوير والنفاذ إلى جوهر الأشياء، وصياغة الأفكار بسلاسة ومتعة واقتدار، فاستحق بجدارة أن يكون «موسيقار الأفكار» وهو اللقب الذى أطلقه عليه الكاتب الكبير رجاء النقاش.

وأنت أمام مفكر عميق ومثقف واسع الاطلاع وخلفيته المعلوماتية لا حدود لها.. وأعتقد أنه من الظلم البين أن لا يتذكر الناس لخالد محمد خالد إلا «خلفاء الرسول» و«رجال حول الرسول».. وينسون كثيرا من مؤلفات الرجل التى كشف فيها عن عقلية مفكر حر وجرىء، يحاول أن يلقى حجرا فى المياه الراكدة، أو يغرّد خارج السرب، قد يصيب وقد يخطئ، المهم أنه فى كل الأحوال كان صادقًا مع نفسه.. ومن هذه المؤلفات التى حملت لنا باقة من الأفكار التقدمية والمستنيرة والمثيرة للجدل والنقاش: «من هنا نبدأ»، «الديمقراطية أبدا»، «لكى لا تحرثوا فى البحر»، «هذا أو الطوفان»، «مواطنون لا رعايا»، «دفاع عن الديمقراطية»، «أفكار فى القمة»، «الدين للشعب»، «فى البدء كانت الكلمة»، «معًا على الطريق محمد والمسيح»، «الوصايا العشر».

فى كل سطرمن هذه الكتب يعيش القارئ مع حالة بديعة لعالم أزهرى تخرج فى كلية الشريعة، يزاوج بعبقرية بين الحداثة والإسلام، ويتصدى بمنطق وعقلانية لدعاة النكوص إلى الماضى فكرا وقولا وعملا وسلوكا.. ويكفى أن نتوقف مع كلماته فى كتابه «لكى لا تحرثوا فى البحر»: «إن وصل الأمة بالتقدم الإنسانى رهن بطبيعة الموقف الذى تقفه بين الماضى والمستقبل. ونحن كقوم نحاول أن نكون راشدين، علينا أن لا نهدم الماضى وفى نفس الوقت علينا ألا نرتبط به، بل نتخذه وسيلة وموردا لمستقبل متطور وحياة متقدمة ونامية. أما الذين يريدون لنا أن نُحكم من داخل القبور فجدّ مخطئين. فالتحيز إلى الماضى عمل يرفضه الماضى نفسه، لأنه يفقد وجوده وموضوعيته فى نفس اللحظة التى نعزله فيها عن حاضر الزمان ومستقبله. والإسلام إنما انتصر ورسخ، لأنه كان فى أيامه الأولى يمثل مدنية جديدة، مدنية أخلاقية على الأقل. وأن المرسلين كانوا يمثلون طلائع المستقبل والغد».

وفى تحذير من خطورة السير عكس حركة التاريخ ومعاندة مسيرة التقدم ومعاداة المدنية الحديثة، يختم خالد كتابه بقوله:

«لن تصاب أمة برذيلة تنهش روحها وتجرف مصيرها مثل رذيلة الانفصال عن التاريخ. فاحذروا أن تفعلوها. واعلموا أن بربرية الجسد والفكر والروح ضريبة التخلف والنكوص عن التقدم. ومهما تبذلوا من محاولات التفوق والنهوض فلن تستقيموا على الطريق حتى تولوا وجهكم شطر المدنية الإنسانية... إن كل تخلف انتحار وانقراض، والمدنية لن تحس بخسارة إذا آثرتم أن تنقرضوا. وأيضا لن تقدروا، ولو كنتم ملء الأرض أن تطمسوا مشعلها المغروس فى عزيمة الزمان.. هيا ضعوا أيمانكم فى يمينها، واعلموا أنكم إذ تمضون معها إنما تمضون مع عقل التاريخ وإرادته».

نم واطمئن يا أستاذ خالد فقد أديت ما عليك، أما نحن وبعد مُضى ستين عاما على كلامك هذا، فملتزمون بالسير عكس التاريخ، وفى خصام تام مع المدنية وقطيعة متعمدة مع كل قيم التقدم!!

والآن ننتقل إلى الملمح الأبرز فى حياة وفكر ومواقف مفكرنا الكبير، وهو موقفه من الحرية والديمقراطية، فقد كان رحمه الله عاشقا للحرية ومدافعا نبيلا عن الديمقراطية، بحيث لا أبالغ إذا قلت إن موقفه منهما يمثل «القضية المحورية» فى حياة الرجل وكتاباته وتوجهاته.

كتب كثيرا عن الحرية وكان مؤمنا بأن الحرية هى مفتاح الإصلاح وأول طريق البناء. ووفقا لما ذكره خالد محمد خالد فى مذكراته الشخصية الرائعة «قصتى مع الحياة» وأيضا ما كتبه عنه نجله الكاتب محمد خالد أن جمال عبد الناصر ورفاقه فى مجلس قيادة الثورة كانوا قد قرؤوا كتبه قبل الثورة، وتحمسوا لها لدرجة أن عبد الناصر كان يشترى مئات النسخ من كتاب «مواطنون لا رعايا» -من جيبه الخاص- ليوزعها على الضباط الأحرار، ومع ذلك لما قامت الثورة، لم يكتف الكاتب الكبير بتأييدها وفقط، بل وقف فى شجاعة متألقة، مطالبا حكومتها بتطبيق الديمقراطية، فكان صدور كتابه «الديمقراطية أبدًا» بعد ٦ أشهر فقط من قيام الثورة.

وقد صدر خالد كتابه هذا بتلك العبارة الرائقة «إن أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية، هو المزيد من الديمقراطية».

وفى كل سطر من سطور هذا الكتاب القيم، تطالعنا صورة الشاب الثائر خالد محمد خالد الذى يغنى للحرية وينادى بإشاعة الديمقراطية فى مصر وسائر البلاد الإسلامية، كشرط للنهوض بحياة شعوبها. فتحت عنوان «لا مساومة على الحرية» يقول: «لسنا دون أحد حرصا على رخاء بلادنا، وبناء مستقبلنا واستقرار النظام والعدالة فينا. ولكننا نختلف مع الآخرين فى السبيل المفضية لهذه الغاية. فنحن نرى الحرية أفضل الطرق وأزكاها، إن لم تكن أوحدها، ولقد أفاء التاريخ علينا كثيرا من تجاربه، فإذا هى تؤكد أن الهدوء الذى يلهمه الخوف، ليس نظاما، بل تربص، وأن الاستقامة التى يولدها الإكراه، ليست فضيلة، بل كبت، وأن الوثبات التى تنتهى إلى حكم مطلق لا تخلق نهضة إنما تفضى إلى خيبة جديدة، ويأس جديد.

والشعوب التى تدخل مع حاكميها أو مستعمريها فى مساومة على حريتها توقّع فى ذات الوقت وثيقة عبوديتها، وتقيم البرهان الأكيد على أنها لا تزال فى مهد الوجود، ولا تزال عاجزة عن أن ترى بعينيها وتسمع بأذنيها وتسعى على رجليها».

وفى موضع آخر من نفس الكتاب يطرح خالد السؤال المهم: أليس الإصلاح ممكنا فى ظل الديمقراطية؟ وهل الحكم المطلق شرط لقيام النهضات؟ ثم يقدم الإجابة بنفسه مستفيضا فى أكثر من 17 صفحة ننقل منها: «إن الديكتاتور بحكم السلطة المطلقة التى يقبض عليها بيده يكون فى معظم الأحيان أقدر على التنفيذ والحسم من الحاكم الديمقراطى»، وبعد هذه الحقيقة ينبه أن «السرعة التى يتسم بها الحكم المطلق فى تنفيذ إصلاحاته إنما تتم إذن على حساب شىء ثمين هو إرادة الشعب. وحتى لو جاءت هذه الإصلاحات وفق هواه فإن عزله عن اختيارها ومناقشتها ووضع القوانين الخاصة بها يفقده أهم مقومات تقدمه وارتقائه وهو التربية السياسية».

وبعد ذلك كان اللقاء الأول والمباشر بين خالد وجمال عبد الناصر سنة 1956، بدعوة من عبد الناصر، وفى منزله، وحسب مذكرات خالد فقد «كان اللقاء ودودا واستمر لمدة ساعتين ونصف، لم تضع منها دقيقة واحدة فى غير الحديث عن الديمقراطية».

أما اللقاء الثانى الذى جمعه بعبد الناصر، فكان فى سنة1961، وذلك ضمن فاعليات اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية، حيث وقف خالد لينتقد مواقف الثورة من قضايا الحرية والديمقراطية، وعارض ما أراد عبد الناصر القيام به من إجراءات استثنائية ضد من أسموهم -حينئذ- ببقايا الإقطاع، وأعداء الشعب. فكان هو الصوت الوحيد الذى ارتفع طالبا لهم -بدلا من العزل السياسى- «العدل» السياسى. ولما أخذ التصويت فى المجلس على من يعترض على إجراءات العزل السياسى، كانت يده هى الوحيدة التى ارتفعت فى سماء القاعة التى ضمت مئتين وخمسين عضوًا. وفى حضور عبد الناصر أكد خالد أن الديمقراطية هى الحل، ووجه كلامه إليه قائلا: «أقسم لو أننى لا أراك أهلا لهذا الكمال -السياسى- الذى أرجوه لك ما وجهت إليك كلمة نقد واحدة، إننى أحبك وأحترمك... وأعرف لك مواقف جليلة كحاكم نزيه عادل، ولكن الشىء الذى يحز فى كبدى ونفسى أن خصومك وخصومنا لا يجدون ما يقولونه سوى حجة واحدة: أين البرلمان؟ أين الدستور؟ أين المعارضة؟».

ثم جاء عصر السادات، وحسب وصف خالد محمد خالد فى كتابه «لو شهدت حوارهم لقلت»: «فغشيه نفس الخوف من الحرية ومن الديمقراطية، وكل الإجراءات الكليلة التى اتخذها من أجل تحقيق الديمقراطية لم تصدر عن إيمان، بل عن رغبة فى مسايرة الغرب الديمقراطى.. وجاء بعده مبارك، فأحدث فى الديمقراطية بعض التوسعات لا لحساب الديمقراطية كمبدأ ونظام، بل لحساب حكمه وحزبه، وكان كسابقيه يخاف من الحرية، ومن ثم فهو يعطى الديمقراطية بقدر أو على حد تعبيره جرعة.. جرعة».

هل تنبأ خالد محمد خالد بسقوط الإخوان؟

من المواقف النبيلة فى حياة خالد محمد خالد أنه ورغم خلافه الفكرى مع جماعة الإخوان فإنه عندما دب الخلاف بين الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر، رفض النيل من رموز الإخوان عندما زج بهم فى المعتقلات، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بأن لا نجهز على جريح.

وبالعودة إلى مذكرات خالد الشخصية وبالتحديد فى الفصل الذى وضع له عنوان «لقائى بالإخوان المسلمين» والذى طرح فى بدايته هذا السؤال: هل كان الإخوان يريدون حُكما تطاول استبطاؤه؟ نخرج بما يلى: أولا أن الرجل بعد لقائه بمرشد الجماعة حسن البنا يعترف بإعجابه الشديد بشخصية البنا، ولكنه يضيف «ولكن مع هذا الإعجاب المتنامى به، كان ينتابنى الحذر، أكان حذرًا منه؟ أم حذرًا عليه؟! لم أكن يومها أدرى، كل ما كنت أجده، شعور غامض بالحذر».

وثانيا إن خالد فى إجابته عن السؤال الذى استهل به هذا الفصل قال كلاما مهما وخطيرا ننقله بالحرف:

«فى حديث صحفى أذكره تماما قال الأستاذ البنا لمجلة (الإثنين) التى كانت تصدر أسبوعية من دار الهلال: (إننا نؤمن بأن الغد سوف يختصنا بتبعاته)! لكنَّ الإيمانَ بأن الغد سيختص جماعة دون غيرها بتبعاته، ومسؤولياته، واحتياجاته، يتطلب إدراكا ذكيا، ومخلصا وسديدا لظروف الغد من خلال اليوم، ولحتميات المستقبل، من خلال الحاضر.. وأن يكون مُلكا للناس جميعا، لا مُلكا لحزب، أو جماعة، أو طائفة أو قائد، أو زعيم».

هل كان المفكر الكبير يقرأ ما تحمله الأيام بعد أكثر من نصف قرن، من وصول الإخوان إلى مقاليد السلطة فى مصر، وقيادتها بمنطق الأهل والعشيرة والجماعة والحزب، لا الدولة؟

وهل كانت قيادات الجماعة فى مستوى تبعات اليوم والغد والمستقبل؟

ومما قاله الرجل فى ذات السياق:

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل