المحتوى الرئيسى

لا تفقدوا تفاؤلكم

02/20 05:50

قبل أن أدخل إلى غرفة العمليات تمتمت بصوت خفيض «لا إله إلا الله»، وخيل إلى أن ابنى الحبيب محمد وزميلتى العزيزة نيفين مسعد لم يسمعانى فكررت ما قلت بصوت مرتفع وردا على بالمثل. لا أذكر أى شىء بعد دخول الغرفة. كان الوقت يشير إلى العاشرة والنصف صباحا، وعلمت لاحقا أن العملية لم تبدأ إلا فى الثانية عشرة ظهرا، وأنها لم تستغرق سوى ست ساعات وهو الحد الأدنى لمدة العمليات المماثلة، وهذا من رحمة ربى. يقول محمد إنه لم يغادر المستشفى إلا بعد أن تبادلت معه كلمات قليلة، وعندما أفقت تماما فى صباح اليوم التالى فى توقيت دخولى غرفة العمليات فوجئت بأننى لا أشعر بأى ألم، وهو الأمر الذى خالف توقعاتى، والحق أن المستشفى لديه نظام شديد الفعالية لوأد الألم، أى أن المسكنات لا تنتظر شعور المريض بالألم، وإنما هى تستبق هذا الشعور بجرعات ثابتة تتناسب وتوقعات الألم.

لاحظت أن هناك من يقف على باب غرفتى فى العناية المركزة فإذا به ممدوح حمزة صديق العمر منذ السنة الأولى الإعدادية وقد ابتهج وجهه. كان هو أول الأحباب والأعزاء الواصلين من القاهرة وتلاه د. خير الدين حسيب من بيروت ثم وصلت رانيا زوجة محمد ووالدها الحبيب محمود زادة وبعدهما ابنتى هبة وزوجها د. مدحت نافع وولداهما مالك وليلى. اجتاحنى الشعور بدفء غامر. لم تدم الفرحة لأكثر من يومين اكتُشف بعدهما أن ثمة نزيفا داخليا بسبب الصمامات التى تربط الكبد الجديد بجسمى فأجريت لى عملية ثانية تصحيحية، لكنها لم تنجح فأجريت عملية أخرى وكان مصيرها كسابقتها، وتكررت عملية التصحيح للمرة الثالثة، ولم يخبرنى محمد وهبة فى حينه بأنها كانت الأخيرة وإلا لن يكون ثمة مفر من إعادة العملية بالكامل. لا أنكر أننى بدأت أشعر بنوع من القلق والاكتئاب، لكن الله سلّم. اكتشفت لاحقا أننى مررت بعدها بفترة من اضطراب الوعى ولكن بمعنى مُعين، وهو أننى كنت شبه طبيعى مع أولادى وزوارى، لكن كوابيس من النوع الثقيل بدأت تنتابنى فى منامى كلها تتضمن محاولات آخرين لإنهاء حياتى بطرق مرعبة.

وفى أحد الأيام صارحت محمد ومدحت بأننى تعرضت لخمس محاولات على الأقل من هذا النوع فتظاهرا بأنهما يأخذاننى على محمل الجد، وأكدا أنهما سيبلغان إدارة المستشفى وأكد محمد لى بجدية شديدة أنه سيبيت معى فى غرفة خالية مجاورة لغرفتى، وعندما حلت الساعة التاسعة والنصف مساء تسلل بعض العقل إلى اضطراب وعى وقلت لمحمد إننى تذكرت أن جميع محاولات إنهاء حياتى تمت خارج المستشفى ولذلك فهو يستطيع أن ينصرف شريطة التأكيد على منع دخول الغرباء بعد نهاية المدة المسموح بها للزيارات الخارجية. تجاوز اضطراب الوعى مسألة تبديد حياتى إلى أمور أخرى كالإحساس بتخلى الأحباب عنى، غير أن أمورا أخرى اتسمت بطرافة بالغة منها مثلا أن أستاذى الجليل د. بطرس غالى كان قد هاتفنى فى باريس غير مرة كى يطمئن علىَ ووعدنى أنه قادم قريبا إلى باريس، وأنه سوف يزورنى فور وصوله، وفى اليوم الموعود وفق تهيؤاتى وصل د. بطرس إلى باريس ولقى ترحيبا شعبيا ورسميا على أعلى مستوى، وتبادلت معه حوارا طويلا عبر التليفزيون الفرنسى. كان الأمر كفيلا بإثارة رعب المحيطين بى وبالذات أولادى لولا أن الزميلة العزيزة د. وفاء الشربينى كانت قد أخبرتهم سلفا بما سوف يحدث لى لسابق خبرتها مع شقيق زوجها الذى أجرى عملية جراحية مماثلة فى المستشفى نفسها.

وبعد أيام ثقيلة عاد لى صفاء الوعى، وصارحت أولادى بأننى كنت أهذى فتنفسوا الصعداء حمدا لله على سلامتى، والغريب أننى ما زلت أتذكر تلك الكوابيس بحذافيرها. أضحك حينا وأخجل حينا آخر. أمضيت ثلاثة أسابيع فى العناية المركزة كانت فرصة لى لأطلع على المستوى بالغ التميز لمهنة التمريض، وكنت أتساءل لماذا يتدنى الأمر لدينا؟ أهو قصور فى نظام التعليم أو التدريب؟ أم أنه نقص فى نظم الرقابة والمتابعة أم فى الجوانب المؤسسية بصفة عامة؟ لا أنكر أن البعض لديه تميز واضح، لكنه يمثل الاستثناء. قرب نهاية فترة العناية المركزة بدأت أتدرب على مغادرة السرير والمشى والجلوس بمشقة بالغة لكن إرادتى كانت قوية وكان منطقى أن إظهار الضعف ليس من حقى، وقد منّ الله علىّ بنجاح العملية. انتقلت بعد ذلك إلى غرفة عادية كان يُفترض أن أمكث فيها شهرا لكنهم سمحوا لى بعد أسبوع بمغادرة المستشفى إلى شقتنا فى باريس على أن أراجعهم كل أسبوع أو فى حالات الطوارئ، وفى النهاية وافق د. دورون على أن أعود إلى القاهرة فى إطار نظام المتابعة الذى يتضمن عودتى إلى باريس كل شهرين تقريبا حتى أبريل 2015.

يتميز مستشفى «بوجون» بالتنظيم بالغ الدقة. كانت ملفاتى تُرسل بانتظام تام إلى الأقسام التى يتعين علىّ التردد عليها لمتابعة حالتى ثم تُرد إلى الجهات المختصة بالمستشفى. لم أصدق للوهلة الأولى أن لدى موعدا مع د. دورون فى تمام الساعة الثالثة والربع من يوم 13 إبريل عام 2015. وهكذا فى كل شىء فى المستشفى. قيض الله لى عددا من الزملاء والأصدقاء من الجنسين أعانونى مؤسسيا أو شخصيا على جزء من التكاليف الباهظة للعملية دون طلب منى، ولولا أننى لست واثقا من أن ذكرهم بالاسم لن يسبب لهم حرجا لحددتهم اسما اسما. والرائع أن دعمهم لى جاء فى أعقاب مكالمة هاتفية من الأديب الكبير محمد ناجى بصّرنى فيها بالتكاليف الباهظة الإضافية لشراء الأدوية وما يماثلها، ولن أغفر لنفسى أبدا أن يقينى برحمة الله قد اهتز ولو للحظة. كان لسان حالى آنذاك أيأتى علىّ وقت لا أجد فيه ما أنفقه وأنا فى غربة العلاج هذه؟ لكنه سبحانه وتعالى لم يخذلنى كما لم يخذلنى أبدا.

وقد لا يعرف القارئ أن مستشفى «بوجون» هذا ليس للصفوة وإنما هو كقصر العينى فى مصر يعالج مواطنيه بالمجان بما فيها العمليات باهظة التكاليف التى لا تتحملها الغالبية العظمى من المصريين، وهكذا فإن «حلم الصحة» ما زال بعيد المنال فى مصر إلى أن تتمكن الدولة من تأسيس منظومة تأمين صحى شاملة وفاعلة، وإن لم تستطع فأضعف الإيمان أن تُفعّل نظام الوقاية من هذا المرض اللعين.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل