المحتوى الرئيسى

رواية السلفي «4»

02/18 05:12

يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى.

ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية».

لنترك هذا الزير للزمن، لعل أحدا يتذكره ويملأه من جديد، ولنمشى قليلًا، كى نجد هنا على اليسار بعض أيام أخرى لرجل آخر، كان يقطن مكان هذا البيت الذى تقف حوائطه محتضنة أحجارًا بيضاء متساوية. بيته هو كان مختلفًا، حوائطه من الطوف، الذى تتراص فيه «جواليس» الطين المعجون بعناية ودأب، بعد أن يلف فى التبن، ويهندس ليأخد شكلًا مستطيلًا أو مربعًا، سيان، فهو فى النهاية سيدغم فى أمثاله بينما يرتفع البنيان البسيط، بقدر ما يستر من بداخله، وتمتد أفلاق النخل بعد أن تبيت أطرافها فى الحوائط، ويفرش الجريد، ومن فوقه قطع النايلون بعد أن يفتحوا أكياس السماد الفارغة، وفوقها طبلية طين بوسع السطح كله.

تحت هذه التعريشة كان يعيش رجل غريب آخر، وكأن الغرباء يحسنون اختيار أماكن سكناهم على أطراف البلاد، ليروا دوما الخلاء الذى جاؤوا منه.

الرجل كان يعمل خفيرًا لزراعات أحد أثرياء قرية مجاورة، وكان يأتى كل ليلة إلى قريتنا القريبة من تلك الزراعات ليسهر، ويشترى ما يحتاجه من شاى ودخان. كان اسمه «أبو عطا الله»، أسمر، ممشوق القوام، عيونه محفورة فى رأسه ونظرته ثابتة كصقر، وأنفه مفرطح كأنه يريد أن يشفط كل الهواء السارى بين أعواد القصب التى يحرسها وينام فيها. يمشى فى خيلاء، ويضرب الأرض بعكازه ذى الدائرة الحديدية المسنونة.

هنا على بُعد خطوات من المكان الذى نقف فيه الآن يا ولدى رأى «مفيدة»، الأرملة متواضعة الجمال، لكنها كانت صاحبة بيت الطمى الذى كان مقاما قبل أن يطبق هذا الحجر على أنفاسه حتى يفنيه، قال فى نفسه: مبيت دافئ بين جدران بدلا من الطل والخلاء البارد، وامرأة تعد لى الطعام والشاى وتطفئ شهوتى إن حضرت، وتزوجها، وصار واحدا من أهل بلدنا.

كان فى نظر الناس نصفين لا يلتقيان أبدا، لكنه جمع بينهما. الحارس واللص. وقف فوق المساحات الفاصلة بين السبيلين دون أن ترتعش قدماه، ولم يلتفت أبدا إلى أحد. الذين عرفوه عن كثب، وأتيح لهم أن ينصتوا إلى كلماته القليلة التى تخرج حادة من بين أسنانه المثرمة، تحدثوا عن شهامته وكرمه. وحين رفض الناس دفاعهم عن لص، ردوا عليهم بكل وضوح:

ــ يواجههم وحيدًا فى سواد الليل، ولا بد أن يصادق حارس الزراعات لصوص المواشى وإلا أشعلوا النار فى ما يحرسه.

ـ كان يمكن أن يتجنبهم ولا يجلس معهم.

ـــ يمرون به فى ذهابهم ورواحهم، ويطلبون منه أحيانًا شايًا ودخانًا.

لم يستطع أحد أن يحل هذا اللغز، أو يبدد أيا من هذين النصفين، أو يجمعهما فى كيان واحد. ومع الأيام لم يعد أحد مهتما بالإجابة عن أى أسئلة تطل برأسها من قلب هذه الحيرة. لكن الجميع كانوا متفقين على أنه رجل قاسى القلب، وكانوا يسألون أنفسهم أبدًا:

كانت هى سيدة ضامرة الوجه، تمشى فى تؤدة خافضة الرأس، توزع ابتساماتها على كل من يراها. تستيقظ مبكرا، تحلب الجاموسة العجفاء، وتجمع روثها لتصنع أقراص «الجلة» التى تحمى بها الفرن كل شهر، وتخبز «البتّاو»، ثم توزع نصفه على جيرانها.

فلم تكن الشيخة «زينب» هى المرأة الوحيدة الصالحة فى بلدنا يا ولدى، فطينُ هذه الأرض الطيبة لا يكف عن إنبات الصالحات، نساء لهن نفس طزاجته، ورائحته التى تضج بالحياة، وطراوته التى كثيرا ما لثمت ذيول جلابيبنا الطويلة، ونحن نمرح على ضفاف الترع والقنوات والماء يجرى فى عيوننا صافيا.

أمام دار «مفيدة» كان المغادرون إلى البندر ينتظرون حافلة حكومية متهالكة المقاعد، وشمس الضحى تحط على رؤوسهم، وعند تأخرها تلسعها فيتململون، ويلوذون بالجدران لكن حين ترتفع الشمس إلى كبد السماء تزيح الجُدر وتضرب كل أجسادهم المكدودة بلا رحمة.

ورأتهم هى كثيرا، فعادت ذات يوم من الحقل تحمل شجرتين صغيرتين من الصفصاف فى قفة كبيرة، وكل منها تقف ثابتة بين قمع من الطين المتماسك. وضعتهما أمام الدار، وجاءت بالفأس، وحفرت حفرتين وغرستهما وروتهما بماء غزير، ولم تمض سوى سنة واحدة حتى كانت ظلالهما تغمران الرؤوس.

ولاحظت هى أن الناس يتعبون من انتظار الحافلة واقفين، فحملت عدة مقاطف من تراب الزرع، وعجنتها، ثم أحضرت القالب الخشب، وشكلتها قوالب معتدلة القوام، ثم حملتها إلى تحت الشجرتين، وراحت تبنى بيديها مصطبة طويلة، ليجلس عليها الناس.

كان «أبو عطا الله» يسخر منها ويفزع فيها بقسوة:

تبتسم وتقول له فى هدوء:

غاب هو عن قريتنا شهرا كاملا، وعرف الناس أنه مريض فلم يعُده أحد، وارتاح الجالسون على المصطبة الطويلة تحت الظل الوارف من نظراته الكريهة.

ومات فجأة، فلم يبكِه أحد، حتى زوجته الأولى، أم أولاده، التى تنفست الصعداء مع آخر حفنة تراب أهيلت على قبره، ولولا العيب لرقصت. أما مفيدة فامتلأت عيناها بدموع ساخنة، وقالت لمن تعجبوا:

ـ العِشرة لا تهون إلا على أولاد الحرام.

ـ كان الله يجازينى ثواب الصبر عليه، وبموته راح الثواب.

لكن رُزقت ما يحتاج إلى صبرها أكثر من صلافة الزوج الراحل وقسوته، إنه المرض الخبيث الذى هجم على صدرها فجأة، وراح يمد أشواكه المسمومة، وكرات اللهب الدقيقة إلى هالات الإسفنج الهشة. وسألها الطبيب:

ـ لا يا بيه، عيب عندنا الست تدخن.

لكنها عرفت منه أن سجائر «أبو عطا الله» ودخان «الجوزة» التى تركها لها فى ركن الحجرة الداخلية، ملأت رئتيها بالدخان القاتم.

حجزوها فى المستشفى أسبوعًا واحدًا، وكانت مسألة وقت، فأخرجوها ذات ليلة وقالوا لها:

لم يأتِ الخلاص يا ولدى سريعا، فهاجمها العذاب شهورا. يحل بغتة، فتسعل وتلهث حتى تكاد ضلوعها أن تتمزق، ثم

تنبلج عينيها، وتنظر إلى من حولها، وتبتسم وتتمتم:

ولمَّا يسألها الناس عن حالها، ترد فى امتنان:

وحين يزول عنها الألم قليلًا، تقوم من مكانها، وتأخذ حلة كبيرة، تملأها من الترعة، وتسقى الشجرتين، وترش المصطبة حتى يهرب الصهد. وكانت إن غرفت فى حلتها أى من صغار الضفادع، تمد يدها وتهشها بعيدًا، حتى تبقى حية.

وكنا بعد أن نرتوى من زير «سليم السويركى» نقف قليلًا تحت الشجرة، لتجفيف عرق الطريق المترب الساخن، وجوهنا إلى الترعة التى تفيض فى هدوء، وظهورنا إلى باب بيت «مفيدة» الموارب. كانت أحيانًا تمد عنقها، وتقول:

وكان بعضنا لا يرد عليها، وبعضنا يلتفت إليها مبتسمًا، لكن أيًّا منا لم يستجب أبدا لدعوتها، لا سيما بعد أن حل فى دارها صاحب الصوت الأجش، والطبع الخشن.

أما حين أنهكها المرض زارها بعضنا، مع كل أهل القرية الذين لم ينقطعوا عن زيارتها، ورفعوا أكفهم إلى السماء يدعون لها. وحين ماتت صلوا عليها فى المسجد، وخرجوا جميعا وراءها ودموعهم تتساقط على أقدامهم التى تمشى الهوينا خلف النعش. مثلها يا ولدى يعتبرها أمثالك أنها ممن يعيشون فى جاهلية، ويزعمون أنهم سيدخلونها فى دين الله، وأظن أن الدين هو ما كانت عليه، وليس ما أنت عليه، وها أنت ترى المصطبة والشجرتين، اللتين كلما استظل بهما أحد ترحم عليها، وأتى على ذكر شىء حميد من سيرتها الطيبة التى لا تموت فى قريتنا أبدًا.

فتحت عينى على الدنيا، يا ولدى، لأجد بقايا قطيع من الأغنام فى دار جدك. كان الناس يصفون قطيعنا قائلين: كان أوله فى بيتكم وآخره عند مدخل القرية. ومع هذه البقايا صرت راعيًّا صغيرا. كنت أخرج فى الصباح بنعجات قليلات وخروفين، لألتحق بقطيع كبير يضم كل أغنام القرية، ويقوده عم «يوسف أبو إسطاسى»، الراعى العجوز الممشوق الصموت، الذى لا يكف عن الشرود والتأمل، ويوزع ابتساماته علينا بالتساوى.

وزهوت بنفسى حين عرفت فى أول المدرسة أن كثيرًا من رسل الله كانوا رعاة أغنام، فكنت أمعن النظر فى النعاج السارحة وراء العشب، وأتقافز من الفرح، وأنا أهشها يمينا ويسارا، فتميل مع العصا أينما ذهبت.

اختار العم يوسف خروفًا ضخمًا وأعطاه القيادة. كان ذا قرنين منتفخين يرتفعان على رأسه كتاج، ثم ينيخان على عنقه إلى الخلف كحربتين ذاهبتين إلى غمدهما. وما إن يخرج القطيع من فوهة القرية بعد أن تتجمع أشتاته من مختلف البيوت، حتى يقدم هذا الخروف ماضيا خلف العم يوسف، وهو يمشى على مهل، وقد وضع عصاه على كتفيه، فيتبعه القطيع فى عمى، لا يحيد عن الطريق.

أما أنا وبعض رفاقى الصغار فكنا نمشى فى الخلف، وتضيع أجسامنا فى عجيج هائل، وآذاننا تتابع همهمات الغنم الذاهبة إلى حيث يكون الكلأ، وهى تتزاحم وتتهارش فيدخل الصوف فى الصوف، ويبدو القطيع وهو يتقدم إلى الإمام على مهل وكأنه قد صار كتلة لحم ضخمة رجراجة.

كنا أحيانا نغمض أعيننا ونمشى، والعصى التى فى أيدينا، ممدودة إلى الأمام ومستقرة على ظهور النعاج، أو مغروسة فى تلافيف الفراء، وخطواتنا مضبوطة على سير القطيع، حتى نبلغ المراعى فيسرع الخروف القائد نحوها، وتجرى النعاج وبقية الخراف خلفه، فتترك الأرض وراءها سوداء لا شىء فيها، كلحيتك هذه، يا ولدى، الخالية فى نظرى من أى معنى، وكرأسك الذى تتزاحم فيها المعانى، وقتل بعضها بعضا، فصارت خواء، تزعق فيها الريح.

المهم أننى أحببت الغنم لكننى كرهت أن أكون مثلها، وزادت هذه الكراهية يوم أن هجم الذئب على أطراف القطيع والعم «يوسف» نائم، ونحن لاهون نلعب «السيجة». أمسك حملا صغيرا بفكيه الحادين، وراح ينهشه، على مسافة من الخروف القائد وبقية الخراف والنعاج. وقف كل القطيع عاجزًا يرتعد، ولو أن الكباش هجمت عليه بقرونها الطويلة المسنونة، فربما أنزلوا الرعب فى صدره، وفر هاربا لا يلوى على شىء. صرخنا واستيقظ العم وجاءت الكلاب متأخرة، فضاع الحمل، وعاد القطيع إلى مكانه بعد أن طردنا الذئب، يجتر ما تبقى فى أجوافه، وكأن شيئا لم يحدث.

وكان معنا طفل اسمه «أسعد»، استغنى عن رأسه، يفعل ما يُطلب منه دون أن يتوقف برهة ليسأل عن شىء. أرسله ذات مرة العم يوسف ليشترى شايا وسكرا، وجلس ينتظره على أحر من الجمر الذى أوقده أمامه، ودفن داخله برادًا يغلى بماء أبيض. وعاد بعد ساعة ومعه قرطاس كبير مملوء بالسكر، لكن ليس معه الشاى، وحين سألناه، قال: أنتم قلتم هات شاى «الشيخ الشريب» -كان نوعا شهيرا فى هذه الأيام- فلم أجده فى أى دكان، ووجدت أصنافا أخرى، لكنى لا أحتاجها فلم أطلب منها شيئًا.

وهكذا كان يسير على المنوال ذاته فى أى مهمة يُكلف بها، لا يعمل إلا بما سمعه ويطيع ما يقال له دون أدنى تفكير. وضاق به العم يوسف فكان يناديه دوما: يا خروف. ثم وجد له عملا يليق به. ناداه ذات صباح فذهب إليه مسرعا، وقف أمامه، ورفع عينيه، وهز رأسه منتظرا ما سيؤمر به، فقال له:

ـ هل ترى الخروف القائد؟

ـ مهمتك من اليوم أن تمشى إلى جانبه، والغنم وراؤكما.

ـ يلزمنا خروفين من قدام.

وتذمرنا نحن الأولاد على ما لحق بصاحبنا، وهممنا أن نعترض، لكننا وجدناه يرقص فرحا على مهمته الجديدة، ويجرى مسرعا حتى وصل إلى الأمام، ثم أناخ بجسده قليلا وهو يمشى، حتى أصبح ظهره فى مستوى ظهر الخروف، ثم مأمأ، وانطلق فى ضحك هيستيرى، بعد أن ألقى العصا على جانب الطريق.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل