المحتوى الرئيسى

نواصل نشر رواية عمار على حسن «سلفى» الحلقة الثالثة

02/16 10:51

يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى.

ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية».

حين انتهت الشيخة «زينب» مِن ذكر كل ما أتى على لسانها عن العتبات الواحدة والعشرين، وقفت أمى، وتكدّر وجهها، وصرخت متسائلة:

- واحدة وعشرون عتبة ولا نهاية للألم؟

- لا تتعجّلى، وما جاء الآن ليس كل ما يجىء، والدعاء الموقن صاحبه بالإجابة قد يُغيّر القدر، والأيام دوّارة، ولا يعطى الله من علم الغيب لأى عبد إلا القليل، وتفاءلى بالخير تجديه.

كانت لا تزال تتحدّث بصوت غير صوتها، وربما بلسان غير لسانها، وكنت أنا تائها وخائفا، ألوذ بصمت تام، وكانت أمى مثلى، لكن وجهها تضرج بدم أزرق، واتسع بياض عينَيْها.

ـ وهل بتخطّى العتبات ينفك النحس، ويغور الشر، ويعود الضائع؟

تنحنحت الشيخة، وارتد إليها صوتها الذى نعرفه من سنين، وقامت من مكانها فرأيتها فى هذه اللحظة وكأنها صهريج صغير، أصغر من ذلك الذى تقطنه. اقتربت منها وأنا أزحف على ركبتى، ثم وقفت حيالها، ومددت يدى وأمسكت كتفها اليسرى، وقلت على قدر ما وعيت:

- وهل سيكون ولدى الوحيد؟

فابتسمت الشيخة وردت فى عجالة:

- مع التيس ستكون عنزة حلوة.

لم أفهم ما تعنيه، لكن أمى فهمت، فنظرت إلىّ وقالت:

- سيرزقك الله ببنت جميلة مع الولد.

ثم التفتت إلى الشيخة «زينب»، وأعادت عليها السؤال من جديد:

- إن تخطّت العتبات يعود الغائب؟

وعندها بدأت الشيخة تنفض ما علق بجلبابها من غبار وقش، وهى تقول:

- ليس كل من ذهب قد غاب، وليس كل من عاد حضر.

لكن هذا الكلام الغامض لم يعجب أمى، فقالت لها فى غيظ شديد:

- تفتحين علينا بابا واسعا تأتينا منه ريح مسمومة ستضنينا عمرا كاملا، ولا تريدين أن تغلقى ولو ضلفة واحدة، نجلس تحت ظلها نربّى الأمل، وتصدّ عنا بعض هذا الهواء القاتل.

زامت الشيخة، وتمتمت بما لم أسمعه وقتها، وجلست فى المكان الذى كانت تجلس فيه، والغبار والقش يزحف على جلبابها، وصمتت أطول من المعتاد، ثم فجأة تغيّر صوتها مرة أخرى ونطقت:

ـ تتلاقى الأرواح وتتناجى، وإن كانت بين الأجساد بحار من الرمل، ورمال من الماء، وجبال تحجب الشمس.

وعندها امتلأ وجه أمى بالدهشة، وفاض علىّ فاندهشت مثلها، لكنها سألت الشيخة وأنا صامت:

- أتقصدين أنه سيغيب، ولن يعود، ولن يكون أمام ابنى من سبيل سوى مناجاة روح حفيدى؟

- لا تقولينى ما لم أقله، ولا علم لى إلا بما قلت.

- تعودين مرة أخرى إلى المراوغة يا شيخة؟

- أنا لا أراوغ يا أم الصبى، بل أمشى على قدر ما أمامى من طريق، لا أحدد أنا طوله أو قصره.

لم تفصح، يا ولدى، يومها عن أكثر من هذا، وهكذا فعلت فى كل الأيام اللاحقة، حتى قبل وفاتها بساعات قليلة، حين سألتها أمى:

- هل هناك من جديد؟

فهزت رأسها نافية، وبعدها لم تنطق بحرف، لكننى سمعت، فى ما بعد هذا بسنين طويلة، ما نطقت به الشيخة عن العتبات الواحدة والعشرين، ورحت ألملم كل شىء حتى أكملها، متمسكا بالأمل الذى ربيته فى قلبى كل هذه المسافة من عمرى، وأنا أقول لنفسى كل صباح: حين تكتمل العتبات سأجدك.

حتى وأنا على البعد، كنت متواصلا مع كل ما يجرى فى قريتنا هذه، أتساءل بلا توقف، وأمعن النظر فى الإجابات بذهن متوقد، وبصيرة نافذة، وأضع الواقعة جنب أختها، حتى أصل إلى صاحب أو صاحبة أى من هذه العتبات، فلما اكتملت أمامى أتيت إلى هنا لنستعيد كل شىء.

وحين سمع نسوة القرية عن ما قالته الشيخة فى شأنى، ذهبن إليها كى تقول لهن شيئا عن مستقبل أولادهن، لكنها أبت، وقالت: لا أعرف إلا عن هذا الولد، ووضعت يدها على رأسى. وكان ما يطمئننى فى معاركى التى خضتها فى دأب وصبر، ضد التيار الدينى، أن هذه المرأة الصالحة لم يؤذن لها بالحديث عن أحد غيرى، من كل أطفال القرية.

وقضيت السنين، يا ولدى، أستعيد ما قالته الشيخة، وأمى معى. تحكى، وأمسك القلم، وأكتب رقم العتبة، واسم الشخص المقصود، فى البداية كان الأمر غامضا، فكثير من الأحداث التى أوجزتها الشيخة «زينب» لم يكن قد وقعت بعدُ، ولذا كان من الصعب أن نعرف مَن تقصد؟ لكن بمرور الأيام راح كل شىء يتكشّف أمام أعيننا.

هل تعرف أننى جئت بلوحة من ورق مقوّى، ورسمت فوقها جدولا، ليس فيه سوى خانتين، وكتبت على رأس الأولى كلمة «العتبات» وتحتها تندرج أرقاما من واحد إلى واحد وعشرين. والثانية مكتوب على رأسها: «صاحب العتبة»، وكلما اكتملت المعلومات وحددت ملامح واحد ممن قصدتهم الشيخة، كتبت اسمه، وانتهيت منه، وتابعت غيره، فلما امتلأت الخانات كلها، جلست على الأرض تحت اللوحة، ووضعت رأسى على كفى، وأغمضت عينىّ، وتدفقت الذكريات.

رأيت وجوه أصحاب العتبات على اللوحة، رجالا ونساء، وخلفهم بيوت أناخ عليها الدهر، ينام ظل جدرانها على رؤوسهم، ووجوهم تنضح بابتسامات معتقة، واستعدت أيامى التى تسرّبت منى بين أكتفاهم، لأجد نفسى طفلا صغيرا، يدبّ فى شوارع ترابية حميمة، وعيناه معلّقتان برقاب المتعبين الذين يهزون الأيام، فتتساقط عليهم حكايات ممتعة وموجعة.

ولأن الشيخة تركتنى، يا ولدى، متقلبا بين روحك وجسدك، كان لدى وقت كافٍ كى أفهم أننى سأسترجعك حين أرش على صدرك، بلا انقطاع، ماءً طهورا مِن ينابيعى القديمة التى غمرونى فيها سنين، منذ أن حبوت، وتعلمت النطق، حتى فارقت هذه القرية الوديعة الغافية، سعيا وراء رزقى فى زحام المدينة.

جئت لأحكى لك وتسمعنى، بجوارى كنت أو بعيدا عنى، ألمسك أو أشعر بك فقط، المهم أنك ستسمع. ولن أتوقف عن الكلام، وأنا أنقل قدمىّ فى مسارب قديمة تصنعها بيوت استجدت، ترمم بعضها، أو أزيل لتقوم مكانه غابة من الأسمنت. سأحكى لك عن سلفى أنا، وهو غير سلفك أنت، ولن يمنعنى خطابك الذى ألقاه ساعى البريد فى وجهى، فذرفت دموعى بمجرد أن رأيت حروف اسمك مطبوعة فوق المظروف ذى الأطراف الملوّنة، ورحت أتشمّمه، وأسحب شهيقا لعل عرق أصابعك يسكن رئتىّ، لكن حين فتحته لم أجد سوى الفجيعة.

انظر يا ولدى، هذا أول جدار، وأول دار فى قريتنا، يملكه رجل غريب اسمه «سليم السويركى»، جاء أبوه مهاجرا من الصحراء. هل هرب من ثأر أم فرّ من الجوع؟ لا أحد يعلم، لأنه حين وصل، قال له الناس: يا شيخ العرب. سار فى الطريق نفسه الذى بدأه من جاءوا مع عمرو بن العاص فاتحين بلدنا. ضربوا خيامهم على أطراف الصحراء، وظلوا يرمقون الفلاحين من بعيد، ويأكلون من حصاد أياديهم دون أن يعتنوا بما يزرعون. ومرّت السنون، حتى خلعوا جلابيبهم، وحاكوا سراويل لا تنغرس فى الطين ولا يبللها ماء النيل الجارى، وأمسكوا الفؤوس بأيدٍ خجولة، ثم توالت ضرباتهم فى الأرض، حتى صاروا فلاحين، يُقدّسون الأرض، ويفتخرون بشغلهم. بعضهم ذاب فى متحف الأجناس البشرى الرهيب الذى يُقام على كل خريطة بلدنا، وبعضهم احتفظ بنسبه، يتباهى به فى الأفراح أو ليالى السمر.

الرجل الغريب عاش وتزوج قريبة لنا، وأنجب اثنين من الذكور، أحدهما صاحب هذه الدار. أنا لم أرَ الأب، لكن وجه ابنه كان أول ما يُطالعنى حين أعود إلى القرية من غربتى. يهل بعمامة كبيرة وجسد عريض، ويبش فى عينى ويقول:

- أهلا بحبيبى وابن حبيبى.

لكن ما علاقة هذا الرجل بما تريد أن تقول؟ إنه السؤال الذى يدور فى رأسك يا ولدى، وتبغى الآن أن توجهه لى بهاتين الشفتين المزمومتين فى ضجر، لكن كما قلت لك لا تتعجّل، وامضِ معى حتى آخر عتبة.

لم ينجب سليم، صاحب الدار التى أمامنا، سوى بنت من زوجته، وهذا قليل فى قريتنا، لكنه عاش معها صابرا. فكر فى يوم أن يتزوج بأخرى، وكان يذهب إليها فى قرية مجاورة راكبا حمارته البيضاء، ذات الأذن المقطوعة، ويضع أمامه المذياع الذى لا يملك أى أداة للترفيه غيره، ويتراقص على الأغنيات التى يسكبها فى الفراغ، وتطرب لها شواشى النخل وأغصان الشجر وهامات الزرع الممتد فى بساط أخضر رائق. لكنه لم يلبث أن عدّل عن فكرته هذه، واكتفى بابنته، ربّاها حتى استدارت فى أنوثة ظاهرة، ثم زوجها لقريب له، ينحدر من بطن أخرى من القبيلة، ويقطن قرية تقف متواضعة على الجانب الآخر من شريط السكك الحديد، وعلى طرف الصحراء الغربية الوسيعة.

لم يفعل الرجل مثل شيخك الذى يمتلك أربع فيلات فاخرة متجاورة، يضع فى كل واحدة زوجة، ويجلس بينهن، وذهنه غير مشغول إلا بالوصفات الطبية التى تمكّنه من إشباعهن. يشتريها من حصيلة ببيع أسطواناته التى تتزاحم فى درج مكتبك، وليست سوى قراءة ركيكة فى كتب قديمة، وكذلك الأموال التى تتدفّق على جيبه ممن يستخدمونه بوقا كبيرا لمشروع جهنمى لا يعرف هو حدوده، لكنه يخدمه بكل ما أوتى من قوة، وحسب القاعدة الشهيرة التى تنادى بالحفاظ على المبلغ، والبقاء فى دائرة الضوء بأى ثمن.

سليم السويركى لم يكن يقتنى سوى مذياع، يسكب فى أذنيه الموسيقى، فيطرب لأم كلثوم، ويخشع لصوت الشيخ عبد الباسط، لكننى لم أره يصلّى أبدا. كان يصوم مع الصائمين. يزرع ويحصد، ويضحك للداخلين إلى القرية والخارجين منها.

قبل موته بشهور قليلة، جاءت مجموعة من «جماعة التبليغ والدعوة» إلى القرية، ملأوا فوهة الجسر بجلابيبهم البيضاء ولحاهم، والصرر التى تتدلّى خلف ظهورهم، وتحت ذيول عمائمهم المميزة. لمّا رآهم تعجّب من منظرهم. كان المشهد جديدا عليه، لكنه راح يُمارس هوايته:

- أهلا بالضيوف، أهلا وسهلا، يا ألف مرحبا.

توقّفوا أمام باب الدار، ثم استأذنوا فى الدخول. جلسوا على المصاطب التى كانت تتوازى فى باحة أمامية، تجرى إلى جانبها مياه الترعة، وتقف فى وسطها شجرة ظليلة، عند جذعها زير ضخم ينضح بالماء.

مدّوا أيديهم وشربوا، كما كان يشرب كل العابرين، وسليم لا يتأفف أبدا فى ملئه طيلة النهار لكل مَن يريد الارتواء.. فلاحون عائدون من الحقول بحلوق جافة، ومارون من القرى المجاورة قادمون من سوق البندر.

سألوه بعد أن شربوا الشاى:

- أسمع إذاعة القرآن الكريم، وأصوم، وأزرع الأرض، وأملأ الزير، وأضحك فى وجوه كل العابرين، وقلبى يطير ساعات فى السماء، ويدقّ بقوة حين أتذكّر الله، وعيناى تدمعان حين أرى النجوم البعيدة.

هز كبيرهم رأسه، ثم رفع هامته، ونظر إلى وجه سليم، وقال:

- كل هذا رائع، لكنه لا يُغنى عن الصلاة.

- سننتظرك فى المسجد قبل صلاة العصر.

لكن العصر والمغرب مرّا ولم يذهب، فأرسلوا أحدهم يطرق بابه قبيل العشاء، وأبواب كل الذين مروا بهم فى الطريق إلى المسجد ولم يتبعوهم.

اعتكفوا فى المسجد عشرة أيام، وكان يتهرب منهم، ويقول لهم:

- كل شىء بإذن الله، وله أوانه.

ثم يتذكر «إسماعيل» شيخ الجامع الذى كان كلما مرّ به ابتسم له وسأله:

- ألم يأذن الله بعد يا سليم؟

- لم يأذن يا مولانا.

كان الشيخ يسأله عن الصلاة، وكان سليم يعرف ما يقصد، ويستعيد كل محاولات «إسماعيل» لأخذه إلى المسجد، ثم يطأطئ رأسه أسفا، ويشرد قليلا، مختليا بنفسه، بعد أن يعطى ظهره للناس والبهائم والزرع، وكل ما يربطه بالتراب، ليجد عينيه تفيضان بالدموع.

وحين حزم رجال «جماعة التبليغ والدعوة» أمتعتهم البسيطة وهمّوا بالرحيل، مروا بداره، أول دار للقادمين إلى قريتنا وآخر دار للذاهبين منها، وقفوا أمامه وقالوا له:

- نرجو من الله لك الهداية، وأن نراك فى المسجد حين نأتى مرة أخرى.

شربوا من الزير، وراحوا ينسحبون على الجسر فى هدوء، حتى صاروا بقعة بيضاء تتأرجح فوق التراب الواقف بين الأسود والأصفر، والمستكين بين ذراعى الزرع الأخضر.

ما أن اختفوا فى عينيه حتى قام سليم، وغرف كوز مياه من الزير، وقال لزوجته:

لكنها كانت مثله، لا تعرف.

- لماذا لم تسأل الشيوخ؟

فكّر قليلا ثم قال لها:

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل