المحتوى الرئيسى

يا دارة دوري فينا: فيروز والعبقري المظلوم فيلمون وهبي

02/14 11:10

1. موعدنا هذا الأسبوع مع فيروز، ورائعتها "يا دارة دوري فينا"، من مسرحية "المحطة"، كلمات الأخوين رحباني، وألحان الملحن الأعظم في تاريخ الموسيقى اللبنانية، العبقري فيلمون وهبي، مقام راست.

2. ارتبط صوت فيروز تاريخيًا بالمؤسسة الرحبانية، والتي أنتجت عددًا من أجمل الأغاني العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن لكل شيء حسناته وسلبياته. وقد كان الوجه السلبي لطغيان تأثير الرحابنة، أن مر أهم ملحنين في تاريخ الموسيقى اللبنانية (فيلمون وهبي وزكي ناصيف) بأقل مما يستحقا من الانتباه والتقدير.

جزء من ذلك كان نتيجة لا مفر منها لغزارة إنتاج الرحابنة وارتباطهم فنيًا وعائليا بصوت فيروز. الجزء الثاني كان متعمدًا، حيث كان الرحابنة يعطون فيلمون وهبي لحنًا واحدًا فقط في كل مسرحية لفيروز، على سبيل الغيرة الفنية. ويمكن الرجوع للمزيد من التفاصيل هنا لنص المؤرخ الموسيقي الكبير إلياس سحاب المعنون "فيلمون وهبي الأب الشرعي للأغنية اللبنانية"، حيث يروي ضمن أشياء أخرى القصة الشهيرة لعاصي الرحباني عندما سأل والدته عقب انتهاء عرض مسرحية المحطة عن أفضل لحن أعجبها، فقالت له بعفوية "تقبرني (لفظ تدليل بالعامية اللبنانية، يوازي تعبير "فداك نفسي" بالفصحى)، أغنية "يا دراة دوري فينا"، دون أن تعرف أنها لحن فيلمون وهبي!

3. كلمات الطقطوقة تعكس ببساطة ذلك العالم الفريد الذي نسجه الأخوان رحباني، في إطار هاجسهما الدائم ببناء "أغنية لبنانية" مستقلة عن التقليد المصري المسيطر على الغناء العربي في القرن العشرين.

4. ولتحقيق ذلك، اختصر الرحابنة الغناء اللبناني في منطقة جبل لبنان، دون مناطق الساحل والجنوب والبقاع، التي تمتزج أغانيها بتقاليد "غير لبنانية" بحكم القرب الجغرافي مع سوريا في حالة سهل البقاع، ومع فلسطين في حالة الجنوب.

كانت موسيقى "الجبل" هي الأنسب إذن لرغبة الرحابنة في إنشاء عالم لبناني خالص يعيش خارج التاريخ، بريئًا لم يلوثه "الغرباء"، ويدور الصراع فيه بين خير وبراءة طفولية من ناحية (تمثلها فيروز بصوتها وهالتها الملائكية) وشر غير مبرر من ناحية أخرى. وكثيرا ما ينتهي هذا الصراع نهاية سعيدة، لا تخلو من براءة وسذاجة، كأن يقرر المحتل مثلا أن يرحل من تلقاء نفسه وكفى الله المؤمنين القتال، أو أن يكتشف الجميع أهمية "الحب" وخطأ "الكراهية" فيلتم شملهم!

5. هذا العالم البريء والطفولي، يعكس تصورًا سياسيًا واجتماعيًا محافظًا ساد في قطاع من "النخبة اللبنانية"، يدور حول "لبنان الرائع الذي أفسده الغرباء وأطماعهم". (أنصح المهتمين بهذه القضية، بالرجوع لدراسة المفكر اللبناني فواز طرابلسي عن مسرح فيروز والرحابنة التي تتضمن تحليلا اجتماعيًا وسياسيًا بديعًا لتطور مسرحياتهم ومضمونها الاجتماعي). لكن ما يعنينا هنا، هو أن أغنية "يا دارة دوري فينا" تعكس بدقة صورة هذا العالم.

6. فالأغنية تعكس ببساطة ماكرة موقفا فلسفيًا مركبًا، كان مفكرنا الراحل عبد الوهاب المسيري يسميه "النزعة الجنينية" في مواجهة الحداثة، بمعنى الحنين إلى براءة الطفولة وعالم "ما قبل الصراع والتدافع والشر"، وهي فكرة متكررة في كلمات الرحابنة (مثال: أغنية طيري يا طيارة، سني عن سني، شادي).

7. كلمات الأغنية تبدأ بفكرة "يا دارة دوري فينا" ليستمر البيت في الدوران (على غرار فكرة "دوخيني يا لمونة" التي يبدأ بها أوبريت صغيرة على الحب الشهير الذي غنته سعاد حسني من ألحان محمد الموجي)، حتى ينسى الجميع أساميهم، بل وينساهم الزمان ليبقوا أطفالا لا يكبرون.

وفي نفس السياق تأتي الإشارات لمعالم الريف الجبلي اللبناني، حيث هذا العالم المنعزل عن الغرباء وشرهم.

8. الكلمات ليس بها ما يصعب تفسيره لغير اللبنانيين (الكلمة الوحيدة في النص التي تحتاج لشرح هي "ويحمر القرميد". القرميد هو السقف المائل للمنازل في جبل لبنان، وهو نوع من الطوب يزداد احمرارا كلما جف. ومن ثم فإن احمراره هو إشارة لمرور الزمن). وتتكون الطقطوقة من مذهب وغصنين. فكرتها وكلماتها شديدة البساطة والغنائية وتفسر نفسها بنفسها.

فيلمون وهبي: زكريا أحمد اللبناني

9. يمكن، القول أن فيلمون وهبي هو زكريا أحمد لبنان. وهو شرف لو تعلمون عظيم!! ففيلمون وهبي يمثل التقليد الشعبي الصرف، المتدفق ألحانا ذات نكهة شرقية حاسمة. والذي مزج بين التلحين الموسيقي وتلحين المونولوجات (مثلما فعل زكريا أحمد، الذي لحن أيضا العديد من المونولوجات، أشهرها "هاتجن يا ريت يا اخوانا" من كلمات بيرم التونسي).

10. فيلمون وهبي كان من كبار ظرفاء جيله، واحترف أداء المونلوجات بجانب التلحين "الجدي" (وهي ظاهرة في الموسيقى اللبنانية الحديثة، أن يجمع ملحن بين مونولوجات فكاهية وألحان "جادة"، والمثال الآخر هنا هو نجيب حنكش ولحنه الشهير لفيروز "أعطني الناي").

وبالمناسبة، كان زكريا أحمد أيضًا من ظرفاء عصره (يمكن الرجوع للإشارات المتكررة عنه في هذا الشأن في روايات نجيب محفوظ، خاصة في الفصل المعنون "جعفر خليل" في رواية "المرايا").

11. لكن عصر التليفزيون، واحتراف فيلمون وهبي غناء المونولوجات وتمثيل الأدوار الفكاهية (شخصية "سبع" التي اشتهر بها في المسرح الرحباني)، أبرزت هذا الجانب فيه، وساعدت على أن يظلم من قبل "النخب المنشية" التي لم تأخذه بالجدية التي يستحقها.

خاصية أخرى ساعدت على أن يظلم فلمون وهبي تتمثل في أن قدرته المتدفقة على التلحين بشكل مذهل، يفوق ما يصله من كلمات، فكان أحيانًا يلحن نفس الكلمات بأكثر من لحن، يشتهر أحدها بصوت المغني، وتبقى الألحان الأخرى في أضابير تسجيلات الهواة (هناك مثلا تسجيل مبهر للحنة "من عز النوم بتسرقني" من مقام الحجاز، لا يقل جمالا في رأيي عن اللحن الرائع الشهير الذي غنته فيروز من الراست). فضلا عن نسيان بعض ألحانه مع نسيان الاسكتشات والمسرحيات التي تضمنتها (أنصح بالاستماع لألحانه السياسية النقدية والكوميدية لمسرح شوشو "حسن علاء الدين"، مثل شحادين يا بلدنا، ويحيا الاقتصاد الحر، ولحنه الساخر "كلاشنكوف").

12. أما لحن "يا دارة دوري فينا"، ففيه يستعرض فيلمون وهبي ميزتين، تمثلان في نظري خلاصة فنه. الأولى هي جذوره الشعبية التي جعلته بلا عناء ينتج موسيقى شعبية لا شك في لبنانيتها رغم ارتباطها الواضح بتقليد الغناء المصري الشعبي في طبعة زكريا أحمد وسيد درويش(من الأشياء غير المعروفة عن فيلمون أنه عاش في مصر شابا في أوائل الأربعينات، وبدأ فنيا في القاهرة، قبل أن يعود للبنان من الخمسينات ويستقر هناك)، دون تفلسف وتنظير "انعزالي" لأهمية بناء "غناء لبناني" صرف.

وهكذا، كما أن الغناء المصري "الصرف" بني على سواعد سيد درويش المطلع بدقة على الموسيقى الإيطالية، فإن الغناء اللبناني "الصرف" بني على سواعد فلمون وهبي الراسخ في تقاليد الغناء المصري. فهكذا تنشأ الفنون وتتطور، بالأخذ والعطاء العابر للبيئات المحلية والثقافات، وبالتلاقح بين التقاليد المحلية والتأثيرات الوافدة عليها.

13. الميزة الثانية في ألحان فيلمون، تتمثل في فهمه العميق للكلمات التي يلحنها وربطه بين كلمات اللحن وبناء الكلمات. كيف يظهر هذا في هذه الأغنية؟

يظهر أولا في اختيار شكل الطقطوقة التقليدي، القائم على تلحين كل الكوبليهات بنفس اللحن، فيتكرس في نفس المستمع بسهولة المعنى المقصود من فكرة "الدوران" والخروج من "الزمن" لبراءة طفولية مستمرة لا تشيخ أو تتأثر بعوارض الزمن.

ولكن الفكرة تظهر بشكل أوضح في تركيب الجمل الموسيقية، خاصة في المقدمة (التي يظهر الاستماع المدقق لها أنها بنيت على شكل نغمات ثلاثية، 3 نوت صاعدة، ثم تقوم النوتات الثلاث التالية بالعودة بشكل عكسي إلى بداية الثلاثية السابقة، وهكذا). اللحن في مقام الراست، مع نقلة وحيدة في منتصف كل كوبليه إلى البياتي.

14. فالغصن الأول يبدأ بمقام الراست، ثم تحدث نقلة للبياتي عند "واللي نادى الناس"، ثم نعود للراست في التسليمة "راح ونسي ينادينا". وتتكرر نفس اللعبة في الغصن الثاني. اللافت هنا أن السميع الراسخ يمكن أن يميز النقلة للبياتي (بطابعة الشجي الشهير) لكنه لا يكاد يشعر بالعودة للراست، حيث تتم النقلة بسلاسة مفرطة. كيف؟ يرجع ذلك للحيلة الدائرية في الثلاثيات النغمية التي أشرت لها أعلاه. حيث يشترك مقامي البياتي والراست في نغمات (دو، ري، مي، فا، صول، لا)، وبالتالي فإن القفلة التي يعود بها فيلمون للراست، تعود بشكل هابط من درجة الصول( ثم فا ثم مي ثم ري) لتقفل على نغمة دو، وليس على نغمة ري (التي يبدأ وينتهي منها البياتي)، ومن هنا تتم النقلة المقامية عبر تغيير القفلة بنوتة واحدة (دو بدل ري) فتمر بسلاسة مطلقة لا تؤذي أذن المستمع، وإنما تزيد طربه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل