المحتوى الرئيسى

21 يومًا فى أمريكا «الحلقة الخامسة»

01/31 02:34

المدير المساعد لقسم دراسات الشرق الأوسط من أصول إسرائيلية.. والجامعة تضمّ عديدًا من الطلاب العرب

بدت واشنطن فى هذا الصباح لطيفة أكثر من أى يوم سبق، كأنها تقوم بتوديعنا على طريقتها الخاصة، المرء لا يأتى إلى واشنطن كل يوم بالتأكيد، لذا رحنا نتأمل معمارها الأنيق وشوارعها الشيك، وأطفالها الحلوين وهم فى طريقهم إلى المدرسة، قبل أن يأخذنا الأوتوبيس إلى الطريق الرحب المتسع متجهين إلى مدينة تشابل هيل «Chapel Hill» التى تبعد عن واشنطن مسيرة نحو ساعتين بالسيارة فى طريق يحول الرحلة إلى متعة استثنائية.

جامعة نورث كارولينا بلا أسوار.. والدخول إليها لا يحتاج إلى تصريح.. والتدخين ممنوع باستثناء مساحة صغيرة أسفل العلم الأمريكى

زيارة إلى «تلّ الزفت».. وسهرة مجنونة لطرد الأرواح الشريرة

الجو كان خريفيًّا، وهذا توقيت مثالى لزيارة الجنوب الأمريكى -أمريكا كلها بصراحة لا الجنوب فحسب!- إذ تتحول الطرق جميعها إلى سجادة مفروشة بأوراق الشجر الأصفر الحزين والمبهج فى آن واحد، الذى يمنحك حالة فريدة من التماهى مع الطبيعة، فتشعر كأنك جزء أساسىّ منها، فلك أن تتخيل إحساسك وأنت تتأمل من نافذة الأوتوبيس الغابات الخضراء على جانب الطريق، وأسفلها أوراق الشجر الأصفر، وبين حين وآخر يقطع ذلك المشهد، بحيرات وأنهار صغيرة، وبيوت على الطراز الأمريكى الشهير... حاجة تشرح القلب الحزين، ولمدة ساعتين كاملتين!

متعة الطريق لم تمنعنا من سؤال أهل الخبرة عن طبيعة المدينة التى نحن فى الطريق إليها، فنعرف أن تشابل هابل إحدى المدن الرئيسية فى ولاية نورث كارولينا، التى تعد من ولايات الجنوب الأمريكى، أو للدقة بدايات الجنوب.. زَىّ بنى سويف كده بالنسبة لخطّ الصعيد وانت نازل وصولًا إلى أسوان. مدينة رالى المجاورة لا تشابل هيل هى عاصمة الولاية، لكن تشابل هيل تكتسب سمعتها من كونها تضمّ جامعة «نورث كارولينا» المعروفة اختصارا بـ«UNC»، وهى أقدم جامعة أمريكية على الإطلاق، وتعد «كلية الصحافة» بالجامعة واحدة من أهم خمس كليات صحافة فى بر أمريكا كلها، هذه سمعة ولاية نورث كارولينا العلمية، لكننا كنا نعرف عنها سمعة أخرى هى أنها عانت ضربة قوية للإعصار «إيرين» عام 2011، وهو الإعصار الذى حرم حينها نحو 26 ألف شخص من مواطنى الولاية الموجودة فى الساحل الشرقى الأمريكى من الكهرباء وشرّد آلافًا وتَسبَّب فى وفاة عشرات.. فهل يشمل برنامجنا التدريبى مواجهة العواصف القاتلة والعيش فى الظلام يا سادة؟!

ليس كذلك قطعًا، الأمريكان عندما يعزمون 100 نفر من أنحاء المعمورة، لا يفعلون ذلك فى أى توقيت والسلام، نحن هنا فى الوقت الآمن، بل قد يكون أحد أفضل الأجواء طوال السنة فى أمريكا، فلا هو شديد الحرارة، ولا هو برد قارس، وإن كنا سنعرف ذلك الأخير عندما نذهب إلى نيويورك فى نهاية البرنامج.

كان لافتًا أن السائق يلتزم بالسرعة القصوى المحددة، لا يوجد هناك سائق «فِردة» يقود السيارة بسرعة أكثر من 80 ميلًا (نحو 130 كيلومترًا فى الساعة)، رغم أن الطريق مُغرٍ بـ«تقفيل الأمبير» بلهجة مجانين القيادة فى مصر، لكنه القانون حضرتك الذى يطبَّق على رقاب الجميع، لذا كان طبيعيًّا جدًّا أن نرى إلى الجوار سيدة وقورًا تجاوزت الخمسين من عمرها، وهى تقود سيارة نقل ضخمة وطويلة (تشبه المقطورة فى مصر)، على الطريق ذاته بمنتهى الهدوء والأريحية، ودون أن يثير ذلك دهشة أى بنى آدم، باستثناء أهل العرب طبعًا، وقد جال فى خاطر كل واحد منا عن مصير هذه السيدة «وآه لو كان سنّها أصغر 10 سنوات فقط»، لو طلعت بـ«اللورى» على طريق مصر-إسكندرية الصحراوى!

رغم أن الرحلة ممتعة وغير مرهقة، فإننا استرحنا لدقائق فى «رست» يقع على جانب الطريق، وفى الخلف منه غابات خضراء تسرّ الأعيُن، لم يكُن فى الاستراحة عاملون، سوى أولئك الذين يهتمون بنظافة الحمام الذى يضاهى حمامات فنادق الخمس نجوم فى مصر، أما شراء المياه الغازية والقهوة والمقرمشات، فيتمّ عبر آلات مخصَّصة لذلك، ولا داعى لأن أروى لك شعورى وأنا أضع دولارين فى الماكينة فى انتظار «كابتشينو» ساخن، قبل أن أفاجأ بورقة أعلى الماكينة تم وضعها فى ركن خفىّ بذكاء حتى لا تلمحها إلا بعد الدفع، وهى تقول لك «الماكينة معطَّلة». الأمريكان يعرفون النصب بدورهم! ولو جدع بقى طلّع الدولارين من المكنة!

استقبلَتنا «تشابل هيل» استقبالًا عظيمًا. الشوارع مرصوفة بأوراق الشجر بكثافة تفوق ما رأيناه ونحن قادمون من واشنطن، البشر المنتشرون أغلبهم مراهقون ومرحون ومُقبِلون على الحياة بدرجة تثير الحسد والغيرة، الدراجات هى وسيلة المواصلات الرسمية ها هنا كما هو واضح، ثم الأجمل أننا اتجهنا فورًا إلى فندق «كارولينا إن»، وهو مبنى رائع بطوبه الجمالون الأحمر القانى، ومداخنه المزدوجة الرشيقة الشامخة، تم بناؤه على طراز نهايات القرن الثامن عشر ويصلح تمامًا لأن تدور فيه قصص الحب الموجعة وجرائم القتل المروِّعة، لذلك فهو ضمن قائمة الفنادق الأثرية الأمريكية، رغم أنه تأسس فى عام 1924 فحسب على يد جون سبرنت هيل، أحد خريجى جامعة نورث كارولينا التى تبعد عن الفندق مسيرة خمس دقائق فقط سيرًا على الأقدام. الفندق عندما تأسس قبل 90 عامًا كان يستهدف خدمة طلاب الجامعة وزائريها وفى عام 1935، خصص صاحبه جزءًا من إيراداته لدعم مكتبة الجامعة، وهو أمر لا يزال مستمرًّا حتى اليوم.. إنه «وقف» على الطريقة الأمريكية كما تلاحظ.

فى بهو الفندق استقبلَنا مايكل بينى، وهو شاب وسيم ذو جذور ولكنة إنجليزيتين واضحتين، ومسؤول العلاقات العامة فى كلية الصحافة بالجامعة، بعد ترحيب أمريكانى لطيف، استعرض برنامجنا الحافل فى المدينة، وحكى لنا قصة طريفة تتعلق بأن ولاية نورث كارولينا لها اسم شعبى هو «Tar Hell» أى «تلّ الزفت»، وتعود هذه التسمية إلى أن الجنود المنحدرين من هذه الولاية كان يقاومون ويصمدون بقوة خلال الحرب الأهلية كأن «أقدامهم ملتصقة بزفت فى أرض وطنهم»، لهذا فإن أهم جريدة محلية فى الولاية تسمَّى «daily Tar hell»، وسنزورها لاحقًا، قبل أن يدعونا إلى حفل استقبال بسيط فى الجامعة خلال 30 دقيقة، سيكون علينا فيها الصعود إلى الغرف، ثم حمَّسَنا قائلًا «سنفعل كل ذلك سريعًا، حتى تستعدوا للمهرجان الكبير فى المساء»، نسأل «أى مهرجان يا مايكل؟»، يبتسم ابتسامة ذات مغزى وهو يلوح بيده مندهشًا «يوم الهالوين.. لقد جئتم فى التوقيت المثالى، سترون ليلة مجنونة لم تروا مثيلًا لها من قبل». ولم نكُن ندرى أنه يقول جزءًا فقط من الحقيقة، وأن الجنون كلمة قليلة عما سنراه بعد ساعات قليلة.

كنا نسير مستمتعين بالأجواء الخريفية فى المدينة «الرايقة» التى سكنت القلوب مباشرة وجعلتنا نحبّ الجنوب الأمريكى من أول نظرة، عندما دعانا مايكل للدخول إلى «كلية الصحافة»، لقد وصلنا إلى الجامعة، لكن.. أين الأسوار؟ وأين الأمن «الإدارى يا سيدى ماتزعلش» الذى يستوقفك على الباب وهو يزغر قائلًا «الكارنيه يا كابتن»؟ وأين الزحمة والدوشة وكلاكسات السيارات اللى طالعة خارجة كأننا متجهون إلى جراج كبير؟ ولا أى شىء مما سبق، الجامعة بلا أسوار، الدخول لا يحتاج إلى تصريح (كيف تحتاج أساسًا إلى إذن حتى تدخل إلى مكان تحصِّل فيه علما بالمناسبة؟)، ووسط كل هذه الحرية، ينبهنا مايكل لحقيقية مهمة، أن «المدخنين ليس من حقهم التدخين قطعًا داخل الجامعة.. ولا خارجها»، ظهر التذمُّر بين زملائنا المدخنين، بخاصة أن أكثر من نصف الجامعة مساحات خضراء مفتوحة، يوضح مرشدنا الأمر «هنا فى الجامعة يوجد مكان واحد فقط مسموح فيه بالتدخين»، ثم يشير بيده إلى مكان يتوسط الجامعة ويعلوه العلم الأمريكى «هناك.. أسفل العلم الأمريكى فقط»، حسن، المعنى وصل. أنت تمارس حريتك برعاية رمز البلاد ها هنا ودون أن تضرّ الآخرين.. حاجة تفرس الصراحة!

فى الداخل كان حفل الاستقبال لطيفًا وبسيطًا، هنا عدد كبير من الطلاب الذين تفطّ منهم السعادة لأنهم يلتقون صحفيين محترفين، ومن الشرق الأوسط أيضًا، وإلى جوارهم نحو سبعة من الأساتذة بالجامعة، ليدور حوار مشترك ومفتوح مع الجميع وبين الجميع، وكان لافتا أن المنظِّمين استقدموا فى الحفل الطلاب ذوى الجذور العربية، حتى لو كانوا من غير دارسى الصحافة، كما استقدموا الطلاب المهتمين بتعلم اللغة العربية، هناك التقينا طالبتين من جذور مصرية وجزائرية، الأولى تدرس العلوم السياسية، والثانية تدرس الصحافة، الاثنتان محجَّبتان دون أن يعنى ذلك أى تمييز لهما أو ضدَّهما، بل إن الطالبة الجزائرية رغم انفتاحها ومرحها لا تصافح الرجال أبدًا.. ولأننا أخذنا على الطباع الأمريكية، فلم يُثِر ذلك استغرابنا، نحن فى أمريكا، حيث للجميع الحرية فى أن يفعل ما يشاء.

من بين الأساتذة، اقترب منا واحد بملامح شرقية واضحة، كان مهذَّبًا وودودًا بدرجة كبيرة تثير الريبة، عرَّف نفسه قائلًا «شاى تماراى»، نبّهتُ زميلتنا خلود الفلسطينية قائلًا لها «إحِمْ.. هذا أستاذ جامعى ينحدر من تل أبيب.. وخدم فى الجيش الإسرائيلى كما توضح البطاقات التعريفية التى حصلنا عليها فور وصولنا»، المعلومة لم تكن غائبة عنها، لذا تكلمنا مع الرجل ببرود واضح، حاول هو أن يكسره بتودُّد وبعض الكلمات العربية التى يتعلمها. هو المدير المساعد لقسم دراسات الشرق الأوسط والحضارة الإسلامية فى جامعة نورث كارولينا، ويبدو أنه ناشط فى إحدى الحركات التى تدعو للسلام بين إسرائيل وفلسطين، كان يدرك الحدود بيننا، لذا تَحدَّث بحذر مخلوط ببعض الخجل، ونحن أيضًا لم نكن نريد صناعة عداوة مجانية ومبكرة؛ فى الغد سيدير تماراى لقاءً يجمعنا مع عدد من طلاب الجامعة المهتمين بدراسة أحوال الشرق الأوسط.. لنَرَ.

تركنا الجامعة التى ستصبح مقصدنا كل يوم تقريبًا فى الأيام التى سنقضيها هنا، وعدنا إلى الفندق، لنستعدّ للنزول إلى شارع «فرانكلين» الرئيسى فى المدينة كما نصحَنا مايكل، قائلًا وعيناه تلمعان من المتعة والجذل «لا تتأخروا عن السابعة مساءً حتى تدركوا العرض منذ بدايته»، ورغم كوننا عربًا مخلصين، فإن الإغراء كان يصعب مقاومته بأى تأخُّر على الطريقة العربية المعتادة؛ فى السابعة مساء كنا فى قلب شارع «فرانكلين».. ولم يُخلِف أهل تشابل هيل الوعد.. لقد بدأت الحفلة المجنونة فى الموعد تمامًا.

هنا أمر يصعب وصفه حقيقةً، الشارع الرئيسى فى المدينة التى يسكن فيها نحو 50 ألف شخص يمتلئ تقريبًا بثلاثة أرباع هذا العدد، والجميع يرتدى ملابس تنكُّرية لا سقف للخيال فيها، الغرض من الملابس التنكرية هو طرد الأرواح الشريرة كما تعلم، لكن لا يبدو أن هذا هو الغرض فحسب، وقد يكون الغرض الآخَر هو جلب الأرواح المرحة الطيبة إلى المكان ذاته. كيف لا وأنت ترى أمامك شابًّا متنكرًا فى صورة فرعون مصرى أصيل، وآخر يتحرك بملايس تعكس طبيعته الجديدة كشيطان أو شبح، وهذه الفتاة ترتدى ملابس قصيرة لتصبح خادمة كما يقول الكتاب فى القرون الوسطى، وهؤلاء الشباب يتساقط الدم (الصناعى طبعًا) من شفاههم ليبدوا كمصاصى دماء، حتى يكادُ برام ستوكر مخترع شخصية دراكيولا يقول لهم «ماتيجوا أكتب عنكم قصة رعب»، وهذا الشابّ الأسمر الطويل يرتدى.. إحِمْ.. ملابس داخلية نسائية ويتمشى بها واثق الخطى! وهذه الفتاة تقبِّل ذلك الشابّ أو.. إحِمْ.. تلك الفتاة على عكس طبيعتها، لكنها هنا متنكرة طبعًا وهذا حقها! أما ذلك الشباب المجنون فاستحقّ تصفيقًا طويلًا لأنه تَنكَّر فى صورة سيارة.. نعم.. سيارة كاملة من الكرتون المقوَّى صنعها بيده -حتما استغرق الأمر أسابيع- بحيث إذا تَحرَّك كان شخصًا عاديًّا متنكرًا، لكنه إذا تَمدَّد على الأرض بطريقة مرنة ومعقَّدة، تَحوَّل جسمه إلى سيارة، ينقصها فقط البنزين لتتحرك! ووسط هذا كله ثمة من يعزف مزيكا منتظرًا أن تعطيه مالًا، وهؤلاء فريق من العازفين على الطبول الإفريقية، ينظمون إيقاعًا راقصًا محبَّبًا، فيلتفّ حولهم عشرات يصفقون ويرقصون فى تلقائية... جوّ مجنون صاخب مرح كما تلاحظ، لا يكفى فقط لإبعاد الأرواح الشريرة، وإنما إخراج كل الطاقة السلبية الموجودة بداخلك.

فريقنا العربى شارك فى الهالوين على طريقته، فصديقنا علال الموريتانى تَمسَّك بزى بلاده الوطنى، فكان فلكورًا قطعًا استحق التصوير مع عشرات من الفاتنات الأمريكيات، وقد ظنَنَّ أن الرجل يلهو معهم فى الهالوين على طريقته، أما صديقنا العراقى محمد شنانى فاعتمر القبعة العراقية الصوف التقليدية، وشدّ جسده، وكشّر عن وجهه، فصار نسخة طبق الأصل من صدام حسين، فنال بدوره حظه من الصور وكثيرًا من عبارات الإعجاب والفتنة «أوه.. صدام حسين! لقد فعلتَها.. كيف لك هذا؟!»!

فى طرف الشارع الشمالى كانت رائحة الفلافل العربية تشعل بداخل المرء كل خلاياه جوعًا وشوقًا، دخلنا المطعم الذى يملكه جزائرى جدع رحب بنا بحماسة شديدة، قبل أن يقوم بالواجب معنا بشاى على الطريقة الجزائرية، وفى المحلّ تَعرَّفنا إلى عاصم، الشابّ المصرى الذى يعمل ها هنا منذ أربع سنوات بينما تسكن أسرته مدينة رالى المجاورة، ما الذى جاء بهولاء من بلادهم البعيدة ليفتتحوا مطعمًا يقدم الشاورما والفلافل والأكل العربى فى بلدة صغيرة أشبه بمدينة جامعية كبيرة؟ الرزق بلا وطن، ثم إن أمريكا أرض المحاولات والفرص، فما الذى ستخسره أكثر مما خسرت فى بلدك لو جئت هنا ولم تنجح؟ ثم إنك غالبًا ستنجح.. فقط تحتاج إلى أن تكون مُخلِصًا ومطوِّرًا لأدواتك، هذه أسباب ليست كافية للنجاح فى بلادنا كما تعلم.

كنا قد دخلنا الأجواء الهالوينية تمامًا، عندما اقتربت الساعة من منتصف الليل، تحديدًا الحادية عشرة والنصف، عندما حدث هذا المشهد الباهر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل