المحتوى الرئيسى

تفكيك قناة «الجزيرة».. الحلقة الثالثة

01/28 04:47

القناة خسرت استقلاليتها وحيادها خلال الربيع العربى

مؤخرًا غادرها عديد من كبار الصحفيين متعللين بأن القناة كشفت بوضوح عن أجندة سياسية غير مستقلة

ننشر اليوم الحلقة الثالثة من هذه السلسلة، وموعدنا اليوم مع تقرير تحليلى نادر نُشِر بتاريخ 15 فبراير 2012 فى الطبعة الدولية الإنجليزية لمجلة «دير شبيجل» الألمانية الشهيرة «شبيجل أونلاين إنترناشيونال». كتب التقرير ثلاثة صحفيين ألمان هم: ألكسندر كوهن، وكريستوف رويتر، وجريجور بيتر شميتز، وترجمه من الألمانية إلى الإنجليزية بول كوهين.

قناة «الجزيرة» تخسر استقلالها وحيادها

لأكثر من عقد من الزمن حَظِيت قناة «الجزيرة» العربية باحترام على نطاق واسع، لتقديمها صوتا «مستقلا» من الشرق الأوسط، لكن فى الآونة الأخيرة، غادرها عديد من كبار الصحفيين، متعللين بأن القناة كشفت بوضوح عن أجندة سياسية غير مستقلة.

كانت الساعة التى فى يد الإعلامى السورى البارز أكثم سليمان متقدّمة دائما على التوقيت الألمانى، رغم كونه يعيش فى برلين، فهى تُظهر دائما توقيت الدوحة، عاصمة إمارة قطر وموطن قناة «الجزيرة» التى يعمل فيها سليمان الذى وُلِد فى دمشق، وعمل كمراسل لقناة «الجزيرة» فى ألمانيا منذ عام 2002.

يقول سليمان: «كان توقيت الدوحة يعنى لى توقيت (الجزيرة)». ويضيف: «لقد كنت فخورا بالعمل فى هذه القناة»، لكن منذ سنة ونصف السنة قام سليمان «42 عاما» بتعديل توقيت ساعته لتظهر توقيت ألمانيا فقط، بعد أن تحرر من وَهْم «مهنية قناة (الجزيرة)»، كما قال، ولم يكن ذلك لكون القناة أصبحت أقل اهتماما فى التقارير الواردة من أوروبا فى أثناء ثورات الربيع العربى، بل كان لشعور سليمان أن «الجزيرة» لم تعد تسمح له بالعمل كصحفى مستقل.

لقد استقال سليمان من «الجزيرة» فى أغسطس الماضى «عام 2011»، ويقول: «قبل بداية الربيع العربى كنّا صوتا من أجل التغيير، ومنبرا لكل النقاد والناشطين السياسيين فى جميع أنحاء المنطقة، لكن الآن أصبحت قناة (الجزيرة) محطة بروباجاندا (دعاية) فجّة».

سليمان ليس الوحيد الذى يشعر بخيبة أمل مريرة من قناة «الجزيرة» التى شهدت مؤخّرا موجة من الخروج الجماعى لموظفين بارزين. لقد غادرها كبار المراسلين والصحفيين فى مدن، مثل باريس ولندن وموسكو وبيروت والقاهرة، وذلك رغم ما تُقدّمه من مزايا مالية فريدة وبيئة عمل راقية فى مكاتب مركزية فاخرة، ورغم حقيقة أن الشبكة تستثمر نحو 500 مليون دولار أمريكى (375 مليون يورو) لترويج وتعزيز موقع قناة «الجزيرة الإنجليزية» فى الولايات المتحدة «التى سُمّيت بـ(الجزيرة أمريكا)»، وذلك بهدف الوصول إلى مزيد من المشاهدين فى أكبر سوق تليفزيونية فى العالم، وحيث سيكون أكبر منافسيها «سى إن إن» وفى موطن الأخيرة.

حقا إن شبكة قنوات «الجزيرة» عملاقة، حيث لديها أكثر من ٣ آلاف موظف و65 مكتبا فى جميع أنحاء العالم، وتصل إلى نحو 50 أسرة فى العالم العربى، لكنها أصبحت تعانى مشكلة أيضا، وهى أن نقّادها أصبحوا يؤكدون -كما لم يسبق من قبل- أن القناة كشفت «بوضوح» عن أجندة سياسية متحيزة، ولم تعد تلتزم بمبادئ «الاستقلالية» الإعلامية التى كانت سبب شهرتها وتعلّق الناس بها.

وبالطبع، وجهت مثل هذه الاتهامات ضد قنوات غربية، لكن مثل هذا الاتهام المذموم من شأنه -مثلا- أن يضع «الجزيرة» على قدم المساواة مع شبكة «فوكس نيوز» المكروهة عربيا لا مع «سى إن إن»، والأولى تلتزم «بوضوح» بأجندة قطب الإعلام المحافظ روبرت ميردوخ فى الولايات المتحدة.

الموضوعية فى عالم من الرقابة

وفى الحقيقة، انطلقت قناة «الجزيرة» فى عام 1996 لهدف نبيل، لتكون بمنزلة منبر حر وموضوعى فى عالم من الرقابة العربية الصارمة.

لقد بثّت الشبكة رسائل من أسامة بن لادن، ما أثار انتقادات غاضبة من الولايات المتحدة، حيث أصبحت توصف بـ«شبكة الإرهاب». وفى نفس الوقت كانت وسيلة الإعلام العربية الوحيدة التى تستضيف بانتظام السياسيين الإسرائيليين فى برامجها. ولم يتردّد مراسلوها أحيانا فى وصف الرئيس العراقى السابق صدام حسين بـ«الديكتاتور» والرئيس حسنى مبارك بـ«الجبان»، لكن منذ الربيع العربى وصل عديد من المعارضين السابقين إلى السلطة فى جميع أنحاء المنطقة، وغالبا ما أظهرت هذه القيادات الوليدة (فى مصر وتونس مثلا) قليلا من الاحترام للمبادئ الديمقراطية، ولكن قناة «الجزيرة» تملقت -بلا خجل- للحكام الجدد.

واليوم، عندما يحتج المصريون ضد الرئيس محمد مرسى وحكم الإخوان المسلمين، فإن قناة «الجزيرة» فى كثير من الأحيان تنتقد هؤلاء المحتجين كما لو كانت القناة التليفزيونية الحكومية المصرية القديمة. وفى المقابل، وفقا للمراسل السابق سليمان، أمر المديرون التنفيذيون لقناة «الجزيرة» أنه ينبغى تصوير قرارات الرئيس مرسى على أنها «لآلئ الحكمة». ويؤكد سليمان «هذا النهج الديكتاتورى كان مستحيلا فى السابق. لقد أصبحنا بفضله قناة القصر الرئاسى لمرسى».

ولكن الأمير الذى يمارس نمطا استبداديا فى الحكم وصل أحيانا إلى وضع صحفيين غير مرغوب فيهم وراء القضبان، يواجه موقفا صعبا على نحو متزايد مع الأرواح المستقلة التى تعمل فى مشروعه المفضل: قناة «الجزيرة».

النهج الجديد: مصالح وزارة الخارجية القطرية أولا!!

ويقول مراسل بارز فى بيروت كان يعمل فى الشبكة قبل سنة: «بعدما كسبت شعبية جارفة بفضل مهنيتها السابقة أصبحت قناة (الجزيرة) الآن تتخذ موقفا واضحا لكل بلد تبث عنه تقريرا، ليس على أساس الأولويات والمهنية الصحفية، وإنما بحسب مصالح وزارة الخارجية القطرية». ويضيف: «ولذلك اضطررت إلى المغادرة طوعيا لأجل المحافظة على نزاهتى الصحفية».

وعندما، على سبيل المثال، اندلعت احتجاجات واسعة ضد النظام فى مملكة البحرين المجاورة، وهى حليف لقطر فى مجلس التعاون الخليجى، تجاهلت قناة «الجزيرة» بشكل كامل تقريبا تلك الاحتجاجات، لكن فى سوريا، من ناحية أخرى، حيث تدعم السياسة الخارجية القطرية الإسلاميين المعارضين للرئيس بشار الأسد بالمال والسلاح، أصبح صحفيو الشبكة قريبين من المتمردين للغاية. هذا القرب يمكن أن يكون خطرا من كل جوانبه لا بل وأحيانا قاتلا، كما شوهد فى مقطع فيديو على الإنترنت انتشر على نطاق واسع.

يظهر فى الفيديو تقاطع طرق قرب درعا، ويُشاهد مقاتل فى الجيش السورى الحر المعارض للنظام يرتدى سترة مضادة للرصاص يركض عبر التقاطع فى ضواحى مدينة «بصر الحرير» التى تحاصرها القوات الموالية لنظام الأسد لتسعة أشهر لماضية. ويتبعه رجل ثان، يشاهد وهو يرتدى قميصا رياضيا، ولكن بلا حماية من أى نوع. ومن نقطة تفتيش تابعة للجيش السورى تقع على بعد بضعة مئات من الأمتار، يطلق الجنود النار ويصيب عدد من الطلقات الرجل ذا القميص الرياضى وتقتله.

كان اسمه محمد المسلمة وعمره 33 سنة، وكان يعمل لقناة «الجزيرة» باسم مستعار هو محمد الحورانى منذ أبريل 2012. وقد كانت القناة تدفع له بانتظام كـ«مواطن صحفى» واشتهر بكونه المواطن الأكثر خبرة فى جمع وتصوير الأحداث فى درعا والمنطقة المحيطة بها وإرسالها لتبث عبر قناة «الجزيرة».

ممارسة خطرة وغير مهنية من قناة «الجزيرة»

وقد أثارت وفاته عديدا من الأسئلة، فمثلا، الركض عبر شارع واسع قرب نقطة تفتيش تابعة للعدو هو أمر محفوف بالمخاطر المهلكة. وفى حين أنه من المنطقى أن المسلمة كمواطن لم يكن يرتدى أى شىء ليوضح أنه صحفى. ومن المعروف أن المؤسسات الإعلامية الخبيرة تجهز موظفيها بمعدات السلامة، بما فى ذلك السترات الواقية من الرصاص، لكن قناة «الجزيرة» لا يبدو أنها كانت تفرض هذا النوع من الحماية للنشطاء المحليين (المواطن الصحفى) الذين يخدمونها كمراسلين بدوام جزئى وبأجر زهيد نظرا لظروفهم المادية السيئة.

يقول أكثم سليمان: إنه وعددا من زملائه طرحوا هذا الموضوع خلال زيارة إلى المقر الرئيسى فى الدوحة «قبل» بضعة أشهر من وفاة المسلمة. وأضاف لقد قلنا بوضوح، إنه «إذا لم يتم عمل تفريق بين الناشطين (المواطنين) والصحفيين الرسميين، فإن هذه الممارسة تشكل خطرا على الجميع».

ووفقا لسليمان، أشاد رئيس التحرير بفكرة «التفريق الواضح»، لكن لم يحدث شىء بخلاف حذف ذلك الفيديو الصادم والمروع من موقع قناة «الجزيرة» تماما، حيث تم نشره لأول مرة.

هذه الأخبار السلبية تأتى فى وقت سيئ لقناة «الجزيرة»، فلعدة سنوات يحاول فرعها الجديد «الجزيرة أمريكا» كسب موطئ قدم فى السوق الأمريكية المربحة، لكن شركات التليفزيون الكبرى الأمريكية الرائدة منحتها فرصا قليلة جدا للبث.

وبسبب عدم تعاون شركات التليفزيون الكبرى الأمريكية، دفعت قناة «الجزيرة» فى بداية هذا العام (2012) 500 مليون دولار لشراء محطة تليفزيون «كارنت تى فى» (Current TV) الأمريكية التى شارك فى تأسيسها نائب الرئيس الأمريكى السابق آل غور. رغم أن هذه القناة السياسية التى تميل إلى اليسار الأمريكى (أى الحزب الديمقراطى) ضعيفة وتلقت تقييمات منخفضة، إلا أنها يمكن أن تُشاهد فى أكثر من 40 مليون منزل فى الولايات المتحدة، وهو أمر يبهج أمير قطر.

ويقول أستاذ الصحافة البروفيسور فيليب سيب: «بالطبع السعر مرتفع جدا لمحطة ضعيفة ولا شعبية لها، ولكن أمير دولة قطر مصمم على التوسع فى أمريكا». ويضيف سيب، إن «قناة (الجزيرة) بدأت تعانى من اشتداد المنافسة فى السوق المحلية العربية من القنوات المحلية والدولية المنافسة». وأضاف سيب أنه يعتقد أن التوسع فى الولايات المتحدة هو نتيجة منطقية لهذا التطور.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل