المحتوى الرئيسى

عندما غنّى المصريون للمجاهدة الجزائرية جميلة بوحيرد

11/14 14:47

من السخف بين الحين والآخر، يطلق أحد إشاعةً ما عن كاتبٍ أو فنانٍ أو شاعرٍ، ثم تنطلق هذه الإشاعة لكى ينشغل بها الرأى العام ويحولها إلى حقيقة، ثم فجأة نكتشف أن ذلك كان إشاعة. حدث هذا مع الشاعرة العراقية نازك الملائكة، ولصديقنا الراحل حلمى سالم مقال فى مجلة «أدب ونقد» ينعى فيه الشاعرة قبل رحيلها بسنوات عديدة، وحدث هذا مع الدكتور حامد عمار أطال الله عمره منذ سنوات عديدة، واضطر الرجل إلى أن يكتب مقالا تحت عنوان: «ما زلت أحيا»، وتتكرر الإشاعات يومًا بعد يوم، وتتناقلها الصحف بشكل واسع، وآخر الإشاعات هذه التى أعلنت رحيل المجاهدة الكبيرة جميلة بوحيرد الجزائرية، والتى لها تاريخ مشرق وملهم ومشرف فى مواجهة الاحتلال الفرنسى للجزائر، عندما قبض عليها البوليس الفرنسى، واتهمها بإلقاء ثلاث قنابل على ثلاثة مقاهٍ، ومات ثلاثة من الفرنسيين، وتعرضت جميلة لتعذيب رهيب، عندما أجبرتها المحكمة الباطلة على اعتراف كاذب بإلقاء هذه القنابل..

وعندما أخبرتهم أنها عضو فقط فى جبهة التحرير، وهى لم تلق بأى قنابل، اشتد جنون المحكمة، وأتوا لها بفتاة شبه مختلة، وأنطقوها بأن تقول إن جميلة هى التى أعطتها القنابل، ولكن الفتاة المخلولة والتى تدعى «جميلة بو عزة» صرخت فى قاعة المحكمة وقالت لهم: ولكننى عاهرة، فرد عليها القاضى وقال لها: إننا نعرف، بعد ذلك أخذوا جميلة وأوثقوها فى أحد المقاعد الخشبية بالحبال، ووضعوا قماشا مبللا بالماء حول ذراعها وركبتها وبطنها وإبطها وثدييها وفخذيها، وكل منطقة فى جسدها النحيل، وفجأة مرروا الكهرباء بوحشية فى مفاصلها، فسرت الكهرباء فى جسدها كالسكاكين. كانت الآلام غير عادية واستثنائية، وكان محاميها يحاول بكل السبل الدفاع عنه أمام قضاة عتاة، وكل هذا لم يمنع جميلة التى حكم عليها بالإعدام لينفذ فى 7 مارس 1958 أن تصرخ فى قاعة المحكمة وتقول لهيئتها: «ستقتلوننى كما قتلتم أشقائى: بن مهيدى وبو مدخل وزيدور، ستقتلوننى بعد أن عذبتمونى لأنكم تخدمون سادة يشربون الدماء، ولكن لا تنسوا أنكم تحكمون على شرف بلادكم، وتهددون مستقبلكم، إنكم تقتلون الحرية، ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من الاستقلال، هل يكفيكم لكى تحكموا علىَّ بالإعدام أننى أحب بلادى وأريدها حرة».

هكذا وقفت جميلة بشموخ. كانت تحتمى بيقين وطنى مذهل كذلك، دفع العالم ليقف معها، ومع الجزائر المغدورة، وصرخ ألبير كامى، وكتب جان بول سارتر كتابه الثورى: «عارنا الذى فى الجزائر»، وانتقد فيه الحكومة الفرنسية، وكانت مصر بقيادة جمال عبد الناصر تقف بقوة وصلابة فى صف كل الشعوب المقهورة والتى تدافع فيه عن حريتها واستقلالها، وعلى رأس هذه الشعوب، قضية الشعب الجزائرى، وكانت الصحف المصرية لا تخلو يوميا من متابعة قضية الجزائر ومن التعريف بعدالتها، وصدر نداء من الكُتاب والفنانين المصريين إلى الكُتاب والفنانين الفرنسيين، تحت عنوان «لا بد أن تعيش جميلة بوحيرد»، وكان من الموقِّعين طه حسين عميد الأدب العربى وأم كلثوم والفنان طوغان والكُتاب والفنانون والشعراء أحمد بهاء الدين وألفريد فرج وإحسان عبد القدوس وسيد مكاوى وصبرى موسى وصلاح جاهين ورياض السنباطى وفاتن حمامة وعمر الشريف ومحمود المليجى ونجيب محفوظ ويحيى حقى ومصطفى حسين ومحمود أمين العالم وعشرات غيرهم، وجاء فى البيان: «لن يمكن للطغاة أن يضعوا نهاية لأسطورة جميلة، لن يمكنهم أن ينتزعوا قلبها، أو يسكِتوا صوتها، أو يحرموا الشعب من بطولتها الظافرة.. حاصروا حكومتكم بهذا النداء، لا بد أن تعيش جميلة، تجمعوا فى يد واحدة لتوقيع هذا النداء، ضموا صوتكم إلى صوتنا وإلى صوت كل إنسان شريف، وارفعوا بهذا النداء ليرفع المقصلة عن رأس جميلة بوحيرد، فكل ثانية تمر تستشهد بهذا النداء، لا بد أن تعيش جميلة».

وعاشت جميلة بالفعل، وتحررت بعد ذلك الجزائر عام 1962، لتبقى جميلة أيقونة النضال التحررى ضد الاستعمار الاستيطانى وكل أشكال الاستعمار المتعددة، وحينها اشتعل الكُتاب والفنانون المصريون من أجل جميلة، فأخرج الفنان يوسف شاهين فيلم «جميلة» وقد لعبت دور جميلة الفنانة ماجدة الصباحى، وكتب عبد الرحمن الشرقاوى مسرحيته البديعة «مأساة جميلة»، وما عدا ذلك كتب الشعراء صلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد عبد المعطى حجازى وعبد الرحمن الشرقاوى وآخرون، ولصلاح عبد الصبور قصيدة مجهولة عنوانها «جميلة علم وهران»، كما كتب صلاح جاهين قصيدته: «اللى جرى لجميلة» محاولا تمصيرها، واكتشاف قواسم مشتركة بينها وبين المصريين. يقول فيها: «شفايفها لما تضحك/ زى شفايف ثريا/ وعيونها بالحواجب/ تمام شبه سنية/ وشعرها المموج/ مفروق من الشمال/ زى عروسة كمال/ وسمرا زى خضرا/ ورقيقة زى سوسن/ والورد فوق خدودها/ صلاة النبى أحسن/ والصورة بين إيدينا/ مع كل حى حبة/ ياخدها يطلّ فيها/ حرام يا عينى شابة/ واللى مادريش يقول لك/ مالها جرالها إيه/ ده اللى جرى لجميلة/ ما ينسكت عليه».

نرشح لك

أهم أخبار الصفحات الأولى

Comments

عاجل